ب- لماذا تقسى قلب فرعون؟ (رو 9: 17- 19)
يقول أوريجانوس ”من اليقيني أن الله لا يعرف فقط قصد وإرادة كل إنسان، لكنه يعرفهما مسبقًا أيضًا“.[104] وبالتالي الله يعرف مسبقًا أن فرعون كان سيتقسى، ولم يكن الله هو السبب في هذه القساوة، لكن الله استخدم هذه القساوة لتمجيد اسمه وعمله في مصر.
يلجأ أوريجانوس لشرح مثل لرب بيت أو سيد أراد أن يؤدب عبيده على مخالفتهم القوانين، فاختار أكثرهم قساوة، وهو يستحق لا التأديب فقط بل الموت أيضًا، وأرسله إلى العبيد الآخرين وأراد السيد بتأديب هذا العبد أن يعزز تقويم الآخرين، فقال له: ”وَلكِنْ لأَجْلِ هذَا أَقَمْتُكَ، لِكَيْ أُرِيَكَ قُوَّتِي، وَلِكَيْ يُخْبَرَ بِاسْمِي فِي كُلِّ الأَرْضِ“ (خر 6: 19).[105] ثم يميز أوريجانوس أن النص الكتابي يقول ”لأَجْلِ هذَا أَقَمْتُكَ“، ولم يقل ”لأجل هذا خلقتك“. وهذا ينفي عن الله الفكرة الكالفينية عن سبق التعيين المزدوج بأن الله خلق البعض للهلاك والبعض للخلاص. ثم يؤكد أوريجانوس أن هذا العبد، في إشارة لفرعون، عاش بلا رادع وبلا أي مخافة لله، وبالتالي هلاكه العجيب يوصل عبرة للأجيال.[106]
هذا الفرعون لم يستفد من طول أناة الله عليه (رو 9: 22)، وبالتالي ”ليس الأمر أن الله يقسي مَن يشاء، لكن المرء غير المستعد ليذعن لطول الأناة يتقسى“.[107] في المبادئ يقول أوريجانوس أن هناك مَن يستغل لطف الله فيتحول ”إلى الاستخفاف والإسفاف لذا يتقسون بإرجاء عقاب معاصيهم“،[108] ولكن هناك مَن يجعلون صبر الله فرصة مناسبة للندم والتوبة.
نتحول الآن إلى كتاب ”المبادئ“ لأن هذا النص يورده أوريجانوس في محاولته لشرح الآيات التي تبدو وكأنها تنفي حرية الاختيار. ومن بينها مسألة تقسية قلب فرعون ويعترف بأن عددًا كبيرًا من الناس يتأثر بهذه المسألة. لأن الناس يفهمون أنه إذا قساه الله وأَثَم بعد ذلك، ففرعون ليس علة إثمه. ويستنتجون أن من يهلكون ليس لهم حرية اختيار. ثم يأتي بكلام حزقيال ”أَنْزِعُ قَلْبَ الْحَجَرِ مِنْ لَحْمِهِمْ وَأُعْطِيهِمْ قَلْبَ لَحْمٍ. لِكَيْ يَسْلُكُوا فِي فَرَائِضِي وَيَحْفَظُوا أَحْكَامِي وَيَعْمَلُوا بِهَا“ (حز11: 19- 20). ويبدو منها أن الله أيضًا هو مَن يزيل العائق أمام حفظ الوصايا عندما يضع في الإنسان قلبًا لحميًا حساسًا.
وللتعليق على كلام حزقيال يستخدم أوريجانوس تشبيه مَن يودع نفسه لمعلم: ويقول إذا وجد رجل جاهل وأدرك أُميته فسلَّم نفسه لمعلم كفء يقدر على تهذيبه وتلقينه العلم، ويعد هذا المعلم بأنه سيخضع له في كل الأمور، ويعده المعلم بأن يمده بالمعرفة. فهذا المعلم لا يتعهد لهذا الرجل الجاهل بأنه سيصل إلى مبتغاه إذا كان تلميذًا مقاومًا ومعاندًا، بل إذا استسلم وأطاع بإذعان كامل. ثم يعلق على التشبيه بقوله ”على هذا المنوال، تعد كلمة الله من يرتادونها بأن تنتزع منهم القلب الحجر“.[109] إذن هناك دور إنساني في هذه العملية، ألا وهو الإذعان والطاعة، ولا يحدث الأمر بشكل جبري حتمي يبطل حرية الاختيار لدى الإنسان.
ويضيف ما يقوله المسيح في سياق كلامه للجموع بالأمثال: ”لِكَيْ يُبْصِرُوا مُبْصِرِينَ وَلاَ يَنْظُرُوا، وَيَسْمَعُوا سَامِعِينَ وَلاَ يَفْهَمُوا، لِئَلاَّ يَرْجِعُوا فَتُغْفَرَ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ“ (مر 4: 12). في نفس الموضوع تحدث إيريناؤس عن الماركيونيين الذين كانوا يستصعبون آية ”قسى الرب قلب فرعون“، ولم يعلموا ما قاله الرب في مت 13: 10- 16 وهو النص الموازي لمر 4: 12. ويلمح إيريناؤس لاستعارة مزدوجة عن الشمس إذ يقول: ”لأن ذات الإله الواحد (الذي يبارك الآخرين)، يعمي الذين لا يؤمنون، تمامًا مثل الشمس، التي خلقها، تفعل ذلك مع الذين لسبب ضعف أو مرض في عيونهم لا يستطيعون أن ينظروا النور، أما بالنسبة للذين يصدقونه ويتبعونه فإنه يمنحهم استنارة للعقل أعظم وأكمل“.[110]
في المقابل يؤكد أوريجانوس على صلاح الله وعدله، ويستخدم استعارة مزدوجة أخرى عن المطر مستمدة من (عب 6: 7) ”أَنَّ أَرْضًا قَدْ شَرِبَتِ الْمَطَرَ الآتِيَ عَلَيْهَا مِرَارًا كَثِيرَةً، وَأَنْتَجَتْ عُشْبًا صَالِحًا لِلَّذِينَ فُلِحَتْ مِنْ أَجْلِهِمْ، تَنَالُ بَرَكَةً مِنَ الله. وَلكِنْ إِنْ أَخْرَجَتْ شَوْكًا وَحَسَكًا، فَهِيَ مَرْفُوضَةٌ وَقَرِيبَةٌ مِنَ اللَّعْنَةِ، الَّتِي نِهَايَتُهَا لِلْحَرِيقِ“. ويفسر بأن عمل الله الواحد ينتج ثمرًا جيدًا في الأرض الجيدة وينتج شوكًا وحسكًا في الأرض البور. ويستنتج ”هذا التباين لا يُعزى بصواب إلى المطر“ بل إلى مَن لم يفلحوا الأرض كما ينبغي.
كما يستخدم استعارة مزدوجة عن الشمس ولكن بطريقة مختلفة عن إيريناؤس قائلاً: ”إن فعل الحرارة الشمسية الواحد نفسه يذيب الشمع، ويجفف الطين“.[111] ويشرح أن فعل الحرارة في الشمع لا يختلف في فعله في الطين. لكن ميزة الطين شيء وميزة الشمع شيء آخر. ثم يذكر أوريجانوس أن فرعون نفسه كان يستجيب أحيانًا، ولو كان الله يقسيه بالمعنى المغلوط لما شوهد أنه يطيع في بعض الأحيان.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
الغريب أيضًا أن القديس جيروم في رسالة له (120) يلمح إلى أخطاء أوريجانوس في تفسير لرومية، متهمًا إياه بأنه اتبع آراء فيثاغورس والفلاسفة عن الوجود السابق للنفس، وأن هناك من دس هذه الأفكار في التفسير. وهذا بالطبع يجعلنا نتساءل هل عدَّل روفينوس من رأي أوريجانوس هنا ليجعله أكثر اتفاقًا مع الإيمان الكنسي العام. هذا شيء يظل في حيز التخمينات. لكن جيروم في النهاية يستخدم نفس الاستعارة التي استخدمها إيريناؤس قائلاً: ”حرارة الشمس واحدة.. تسيل البعض وتصلب البعض الآخر، وتحلل البعض الآخر، وتكثف البعض الآخر. فالشمع يسيل والفخار يتصلب تحت حرارة الشمس الواحدة نفسها“.[112]
اللافت للانتباه أن أوريجانوس يفند إدعاءات الغنوصيين، والماركيونيين أيضًا مثلما فعل أيريناؤس، الذين استخدموا كلام المسيح السابق بمعنى أن المسيح لم يرد أن يعظهم بكلام واضح حتى لا يخلصوا. ويقول أن دافع هؤلاء المبتدعين أن ينسبوا لله الخالق، إله العهد القديم، مواقف عنف وانتقام، بهدف نفي الصلاح عن الخالق. وهذا ما يؤمن به الماركيونيين والغنوصيين.
_____
[104] أوريجانوس، تفسير رومية 7: 16: 6.
[105] يقدم أوريجانوس في المبادئ نفس الاستعارة ولكن مع بعض التعديل؛ إذ يقول أن بعض الأسياد قد يخاطبون عبيدًا لهم قد صاروا وقحين وأنذالاً قائلاً: "أنا جعلتك ما صرت أنت عليه.. فقد صار بك صبري عليك إلى أسوأ. أنا السبب في تحولك عني إلى ذهن متعنت ورديء إذ لم أعاقبك في حينه على كل إساءتك حسب ما تستحق". (المبادئ 3: 1: 11).
[106] أوريجانوس، تفسير رومية 7: 16: 7.
[107] أوريجانوس، تفسير رومية 7: 16: 8.
[108] أوريجانوس، المبادئ 3: 1: 10.
[109] أوريجانوس، المبادئ 3: 1: 15.
[110] إيريناؤس، ضد الهرطقات، الكتاب الرابع، فصل 29، صفحة 216- 217.
[111] أوريجانوس، المبادئ 3: 1: 10.
[112] خطابات القديس جيروم، ج 5، ص 114.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/adel-zekri/origen-free-will/harden-pharaohs-heart.html
تقصير الرابط:
tak.la/rpk9spt