(17) دعنا ننظر إذن، إذا أمكننا أن نجد شيئًا في الخلائق يمكننا به أن نبرهن على وجود ثلاثة أشياء تظهر منفصلة مع أن عملهم غير قابل للانفصال. لكن أين نذهب؟ هل إلى السماء، لنتجادل حول الشمس والقمر والنجوم؟ هل إلى الأرض لنتجادل حول الشجيرات والأشجار والحيوانات التي تملأ الأرض؟ أم نتجادل حول السماء والأرض ذاتها، اللتين تحويان كل الأشياء في السماء وعلى الأرض؟ إلى متى أيها الإنسان تجول حول الخليقة؟ عُد إلى نفسك، انظر، تأمل، افحص ذاتك.
أنت تبحث بين الخلائق عن ثلاثة أشياء تظهر منفصلة مع أن عملهم غير قابل للانفصال. إذا كنت تبحث عن هذا بين الخلائق، فلتبحث عنه أولاً في نفسك. لأنك لست إلا أحد المخلوقات. وأنت لا تبحث إلا عن الشبه (درجة من التماثل). فهل ستبحث عنها بين الماشية؟ لأنك تتحدث عن الله عندما تبحث عن هذا الشبه. أنت تتحدث عن ثالوث المجد غير الموصوف، ولأنك عجزت عن تأمل الطبيعة الإلهية، وبتواضع لائق اعترفت بضعفك، فقد نزلت إلى الطبيعة البشرية. هناك إذن واصل بحثك.
هل ستجعل بحثك بين الماشية، في الشمس، أم النجوم؟ أي هذه الأشياء خُلق على صورة الله وشبهه؟ ربما تبحث في ذاتك عن شيء أكثر قربًا من هذه الأشياء، وأكثر سموًا منها جميعًا. لأن الله خلق الإنسان على صورته وشبهه. ابحث إذن في نفسك، فربما تحمل صورة الثالوث أثرًا ما للثالوث.[10]
وما هي هذه الصورة؟ إنها صورة مختلفة تمامًا عن أصلها. ومع ذلك مع اختلافها، إلا أنها صورة وشبه، وهي في الحقيقة ليست على نفس منوال الابن الذي هو الصورة، إذ إنه الصورة الكاملة للآب.[11] لأن الصورة تكون بشكل ما في ابن، وبشكل آخر في مرآة. وهناك فارق كبير بين الاثنين.
فصورتك في ابنك هي ذاتك أنت، لأن الابن بالطبيعة هو نفس ماهيتك. في الجوهر كما أنت، وفي الشخص (الأقنوم) غيرك. وبالتالي فالإنسان ليس صورة مثلما أن الابن الوحيد هو صورة، لكن الإنسان مخلوق على صورة وشبه. فليبحث عن شيء في نفسه لعله يجد أشياء ثلاثة تظهر منفصلة مع أن عملها غير قابل للانفصال. أنا سأبحث وأنتم ستبحثون معي. لن أبحث فيكم، بل ابحثوا أنتم في أنفسكم، وأنا أبحث في نفسي. هلم نبحث في تناغم، وفي تناغم نناقش طبيعتنا المشتركة وجوهرنا.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
(18) انظر أيها الإنسان وتأمل هل ما أقوله صحيح أم لا. أليس لديك جسد ولحم؟ ستقولون: أنا لديّ. لأنه كيف أكون في هذا المكان الذي أشغله الآن، وكيف أتحرك من مكان إلى آخر؟ كيف أسمع كلام الشخص الذي أكلمه إلا بأذنيّ جسدي؟ كيف أرى فم مَن يتحدث إلا بعيني جسدي؟ من الواضح إذن أن لديك جسدًا، لا حاجة أن يزعج المرء نفسه بشيء واضح بكل هذا الوضوح.
تأملوا إذن نقطة أخرى، فكروا في الشيء الذي يعمل من خلال هذا الجسد. لأنكم تسمعون بواسطة الأذن، لكن ليست الأذن هي التي تسمع. هناك شيء آخر بالداخل هو ما يسمع بواسطة الأذن. أنتم تبصرون بواسطة العين -تفحصوا هذه العين. ماذا! هل اعترفتم بالمسكن ولم تراعوا أي اعتبار لساكنيه؟ هل العين ترى بذاتها؟ أليس شيئًا آخر هو الذي يرى بواسطة العين؟ لن أقول إن عين رجلٍ ميت لا ترى، لأنه من الواضح أن الذي يسكن جسده قد غادر، بل أن عين أي إنسان يفكر فقط في شيء آخر، لا ترى شكل الشيء الذي أمامه.[12]
انظروا إذن إلى إنسانكم الداخلي. لأن هناك بالأحرى لا بُد أن نبحث عن أشياء ثلاثة تظهر منفصلة غير أن عملهم غير قابل للانفصال.
ماذا إذن يوجد في ذهنك؟ ربما إذا بحثت أجد أشياءً كثيرة هناك، لكن يوجد شيء في متناول اليد ويُفهم بسهولة. ماذا إذن في نفسك؟ استدعيها لذهنك، وتأمل فيها. لأني لا أطلب أن يُنسب لي الفضل فيما أنوي قوله. فإذا لم تجده في نفسك، لا تقر به. انظر في داخلك إذن. لكن أولاً دعنا نرى ما أفلت مني، هل الإنسان صورة الابن فقط أو الآب فقط، أم أنه صورة الآب والابن، وبالتالي بالطبع صورة الروح القدس أيضًا.
الكلمات الواردة في سفر التكوين هي كالتالي: ”نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا“ (تك 1: 26). وبالتالي فالآب لا يعمل بدون الابن، ولا الابن بدون الآب. ”نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا“، ”نَعْمَلُ“ ليس ”سأعمل“ أو ”ستعمل“ أو ”ليعمل هو“، ولكن ”نَعْمَلُ“ ليس على ”صورتك“ أو ”صورتي“ بل ”صُورَتِنَا“.
_____
[10] هذا المدخل استخدمه القديس غريغوريوس النيسي في مقالة له بعنوان ”خلق الإنسان على صورة الله ومثاله“، غير أن القديس أغسطينوس أتخذ منحى سيكولوجيًا مختلف. لكنهما اتفقا أن النفس البشرية أقرب نموذج تشبيهي مخلوق للثالوث القدوس. (المترجم)
[11] يقول القديس غريغوريوس النزيانزي عن الابن ”يُقال له صورة، لكونه والآب جوهرًا واحدًا... ومن شأن الصورة أن تطابق صاحبها... هنا الصورة صورة حي وهي حية وأكثر شبهًا مما كان شيث يشبه آدم... تلك هي طبيعة الأشياء البسيطة أن لا يكون بينها تشابه جزئي، وهكذا فالصورة الكاملة تمثل الشيء كاملاً، وهي بالأحرى الشيء نفسه لا ما يشبهه“ (العظة 30: 20 منشورات المكتبة البولسية ص 130). (المترجم)
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/adel-zekri/augustine-matthew-3-13/trinity-in-creation.html
تقصير الرابط:
tak.la/4j88pbh