(15) أود أن أضيف شيئًا، وهنا أطلب بإخلاص كلاً من انتباهكم الشديد ومحبتكم الشديدة نحو الله. لأنه ليس سوى الأجسام هي التي تنحصر وتُحتوى في أماكن تتلائم مع طبيعة الأجساد. لكن الألوهة تتجاوز كل مثل هذه الأماكن. فلا أحد يبحث عنها كما لو كانت في مكان. فهي في كل مكان حاضرة بشكل غير منظور وبلا انفصال. ليس في جزء ما أكبر وفي جزء آخر أصغر. لكن بجملتها في كل مكان، وغير منقسمة في أي مكان.
مَن يستطيع أن يرى هذا؟ من بوسعه أن يدرك هذا؟ لنكبح جماح أنفسنا. لنتذكر مَن نحن، وعمَن نتحدث. ولنقبل بإيمان تقوي هذا وذاك وأي شيء يتعلق بطبيعة الله، ولنفكر فيها بتوقير مقدس، وبقدر ما يُسمح لنا، وبقدر ما هو ممكن بالنسبة لنا، ولنفهمهما بشكل لا ينطق به. فلتسكت الكلمات، وليصمت اللسان، وليلتهب القلب وليرتفع إلى هناك. لأنه ليس من طبيعة تسمح له بأن يرتفع إلى قلب الإنسان، وإنما قلب الإنسان هو الذي لا بُد أن يرتفع لها. لنتأمل الخلائق ”لأَنَّ أُمُورَهُ غَيْرَ الْمَنْظُورَةِ تُرىَ مُنْذُ خَلْقِ الْعَالَمِ مُدْرَكَةً بِالْمَصْنُوعَاتِ، قُدْرَتَهُ السَّرْمَدِيَّةَ وَلاَهُوتَهُ“ (رو 1: 20) لعلنا نجد في الأشياء التي صنعها الله، والتي نألف الحديث عنها، بعض الشبه بحيث بمقتضاه نبرهن على وجود بعض الأشياء التي تظهر كثلاثة منفصلين مع أن عملهم غير قابل للانفصال.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
(16) هلم أيها الأخوة أعطوني انتباهكم بالكامل. لكن أول كل شيء تأملوا فيما أعدكم به. إذا تصادف أنه أمكن أن أجد أي شبه في المخلوقات، لأن الخالق عالٍ جدًا فوقنا. وربما واحد منا قد صُعق ذهنه بوهج الحقيقة ببعض من ومضات بريقها يمكن أن يقول هذه الكلمات: ”وأنا قلتُ في حيرتي“[8] -ماذا قلت في حيرتي؟- ”لقد نُبذتُ إذًا من قدام عينيك“ (مز 31: 22)[س]. لأنه يبدو لي أن من قال هكذا قد رفع روحه إلى الله، وقد حُمل خارجًا عن نفسه، بينما كانوا يقولون له كل يوم ”أَيْنَ إِلهُكَ؟“ (مز 42: 3)- فقد بلغ بنوع من الاتصال الروحي بالنور غير المتغير، وبسبب ضعف رؤيته لم يكن قادرًا على تحمله، فلذلك انتكس منكفئًا على نفسه ثانيةً في حالته المريضة والضعيفة، وقد قارن نفسه بذلك النور، وقد شعر أن عين ذهنه لم تستطع بعد أن تتكيف مع نور حكمة الله.
ولأنه فعل هذا في غيبة مسرعًا بعيدًا عن حواسه الجسمانية، ومرتفعًا نحو الله، عندما دُعي بطريقة ما من الله إلى الإنسان، قال ”أنا قلتُ في حيرتي“. لأني رأيت في غيبتي ما لا أعرفه، والذي لم أستطع أن أتحمله طويلاً، وقد رجعت إلى حالتي الفانية، وإلى الأفكار المتعددة الأشكال عن الأمور الفانية من الجسد الذي يثقل النفس، قلت ماذا؟ ”لقد نُبذتُ إذًا من قدام عينيك“. لأنك أنت عالٍ جدًا من فوق، وأنا أسفل جدًا من تحت.
ماذا سنقول إيها الأخوة عن الله؟ لأنه إذا قدرت على إدراك ما ستقوله، فهذا ليس الله. وإذا قدرت على أن تدركه، فقد أدركت شيئًا آخر غير الله. وإذا قدرت على أن تدركه بحسب ظنك، فبهذا الظن تكون قد خدعت نفسك. هذا إذن ليس الله، إذا أدركته. لكن إذا كان الله، فأنت لم تدركه. فكيف تتحدث إذن يا تُرى عما لا تستطيع إدراكه؟[9]
_____
[8] الكلمة التي يستخدمها القديس أغسطينوس هنا أقرب إلى الغيبة أو النشوة أو الدهش منها إلى الحيرة. (المترجم)
[9] في هذه الفقرة البديعة يتفق القديس أغسطينوس مع كثير من الآباء الذين أكدوا على الفجوة الأبستيمولوجية (المعرفية) بين الخالق والمخلوق، وأن الخالق هو من يبادر بالإعلان عن نفسه. ويتشابه كلام القديس أغسطينوس كثيرًا مع كلام القديس غريغوريوس اللاهوتي الذي قال: ”لقد أسرعت لبلوغ الله، وصعدت هكذا إلى الجبل، ودخلت الغمام، منعزلاً في داخلي عن المادة والماديات، ومنكفئًا على ذاتي قدر المستطاع، وعندما نظرت لم أكد أرى سوى قفا الله“ (العظة 28: 3 منشورات المكتبة البولسية، ص 42)، والذي قال في نفس العظة أيضًا ”التعبير عن الله مستحيل، وإدراكه أشد استحالة“ (عظة 28: 4). (المترجم)
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/adel-zekri/augustine-matthew-3-13/divinity-not-limited.html
تقصير الرابط:
tak.la/79zpxyr