* تأملات في كتاب
رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية: الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح |
← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16 - 17 - 18 - 19 - 20 - 21 - 22 - 23 - 24
يبدأ بولس الرسول رسالته هذه بداية جافة تكشف عن طبيعة الرسالة، فهناك من يشكّكون في رسوليته لذلك فهو يقدّم نفسه على أنه رسول ليس من الناس، ولا بواسطة أي إنسان مهما كان، إنما هو رسول يسوع المسيح واللَّه الآب، ويضم إلى صوته صوت الإخوة العاملين معه جميعًا، وبالكاد يهدي النعمة والسلام لهؤلاء الغلاطيين، واضعًا نصب عينيه يسوع المسيح الذي بذل نفسه فديةً عنا لينقذنا من العالم الحاضر الشرير (غل 1: 1 - 5).
ثم يعاتب بولس الرسول الغلاطيين الذين أعطوا أذانًا صاغية لأولئك القوم المزعجين الذين فسَّروا الإنجيل تفسيرًا خاطئًا فحادوا عن جدّة الإيمان المستقيم، وأصدر بولس الرسول حكمه الحاسم على أي إنسان أو رسول، ولو هو نفسه، ولو حتى ملاك، يبشرهم بغير ما تسلموه، فليكن محرومًا، وأوضح بولس الرسول أنه من المستحيل أن يستعطف الناس ويرضيهم على حساب اللَّه (غل 1: 6 - 10).
وأكد بولس الرسول أن الإنجيل الذي سبق وكرز به هو هو الإنجيل الذي تعلَّمه من السيد المسيح الذي ظهر له وأعاده إلى جادة الصواب.. لقد كان حاله الأول معكوسًا، فكم اضطهد كنيسة اللَّه بإفراط وأتلفها؟!.. وكم ألقى بالأبرياء في السجون ودُفِع بهم للعذابات والقتل؟!.. أنه يذكر هذا بأسى بالغ، ومقابل هذا يذكر عمل اللَّه معه، الذي اختاره وأفرزه وهو في بطن أمه، ومنحه الشرف العظيم للكرازة بِاسمه للأمم في العالم كله (غل 1: 11 - 16).
وواضح بولس الرسول تاريخه بعد ظهور الرب له وهو على مشارف أبواب دمشق، وكيف ذهب إلى العربية في خلوة استمرت ثلاث سنوات تتلمذ فيها على يد مَن تتلمذ على يده الرسل الأطهار، وعودته إلى أورشليم التي تركها منذ نحو ثلاث سنوات عندما كان يضطهد أتباع الناصري بإفراط.. فإذ به يعود إلى المدينة عينها وقد صار واحد منهم، ويلتقي ببطرس الرسول والقديس يعقوب ثم ينطلق لتنفيذ المهمة التي أوئتمن عليها وهي الكرازة للأمم فيذهب إلى سورية وكيليكية يبشّر بالإيمان المسيحي وسط إعجاب المؤمنين الذين مجَّدوا اللَّه على عِظم صنيعه (غل 1: 17-24).
ويمكن تقسيم هذا الأصحاح إلى:
أولًا : رسول من اللَّه (غل 1: 1 - 5).
ثانيًا: محروم كل من يحوّر الإنجيل (غل 1: 6 - 10).
ثالثًا: المُضطهد صار مُبشّرًا (غل 1: 11 - 17).
رابعًا: تعرُّف بولس ببطرس (غل 1: 18 - 24).
"بُولُسُ رَسُولٌ لا مِنَ النَّاسِ ولا بِإِنْسَانٍ بل بِيَسُوعَ المَسِيحِ واللَّهِ الآب الَذي أَقَامَهُ مِنَ الأمْوَاتِ. وجَمِيعُ الإِخوَةِ الذِينَ معي إلى كنائِسِ غَلاَطِيَّةَ. نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ اللَّهِ الآبِ وَمِنْ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ. الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ لأَجْلِ خَطَايَانَا لِيُنْقِذَنَا مِنَ الْعَالَمِ الْحَاضِرِ الشِّرِّيرِ حَسَبَ إرَادة اللَّهِ وأبِينَا. الَّذي لَهُ المَجْدُ إلى أبَدِ الآبِدِينَ. آمِينَ" (غل1: 1 - 5).
جرّت العادة في ذلك العصر أن تبدأ الرسالة بِاسم المُرسِل والمُرسَل إليه، وفي هذه الافتتاحية نلتقي ببولس الرسول مُرسِل الرسالة، والغلاطيين المُرسَل لهم الرسالة، والتحية الافتتاحية، والحقيقة أن بولس الرسول كان له مَلَكة خاصة حتى أنه يستطيع أن يعطي ملخَّصًا للرسالة في الفقرة الافتتاحية، فأوضح في هذه الفقرة أنه رسول من يسوع المسيح، أي أنه لا يطرح فكره الخاص بل فكر السيد المسيح نفسه الذي جاء من أجل أن يهب النعمة والسلام للإنسان، ومن أجل هذا بذل نفسه من أجل خطايانا.. إذًا الحل الوحيد للخلاص من خطايانا ونحن نعيش في هذا العالم الشرير هو التبرير بدم المسيح، ليس بالناموس ولا بالختان ولا بأي شيء آخَر، ويُنهي بولس الرسول هذه الفقرة التي لخَّص فيها قصة الخلاص بتمجيد اللَّه.
"بُولُسُ رَسُولٌ لا منَ النَّاسِ ولا بإِنسَانٍ بل بِيَسُوعَ المَسِيحِ واللَّه الآب الَّذي أَقَامهُ من الأموَاتِ" (غل 1: 1).
بُولُسُ.. هو شاول الطرسوسي من كيلكية، وهم من أهم شخصيات العهد الجديد الفذّة في عالم الكرازة، و"شاول" هو اسمه العبري، والذي دعاه به الروح القدس للخدمة مع برنابا روح اللَّه القدوس (أع 13: 2)، وقال شاول عن حياته السابقة: " مِنْ جِهَةِ الْخِتَانِ مَخْتُونٌ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ مِنْ جِنْسِ إِسْرَائِيلَ مِنْ سِبْطِ بِنْيَامِينَ عِبْرَانِيٌّ مِنَ الْعِبْرَانِيِّينَ.. مِنْ جِهَةِ النَّامُوسِ فَرِّيسِيٌّ. مِنْ جِهَةِ الْغَيْرَةِ مُضْطَهِدُ الْكَنِيسَةِ. مِنْ جِهَةِ البِرِّ الذِي فِي النَّامُوسِ بِلاَ لَوْمٍ" (في 3: 5، 6).. أنه كان مُختارًا ومُفرَزًا من بطن أمه للكرازة للأمم (غل 1: 15).. فما باله وقد اضطهد الكنيسة بإفراط؟!.. أنه حال الإنسان الذي لم يلتفت إلى اختياره ودعوته خلال فترة حياته المبكّرة، فيخطئ الطريق، وبينما كان شاول يحرس ثياب الرجال الذين رجموا أسطفانوس وهو راضيًا بقتله، كانت العناية الإلهيَّة تحيط به، فهو الإناء المختار الذي ينبغي أن يجوز رحلة الآلام رافعًا راية الصليب للأمم والولاة والملوك (أع 9: 15). وفي الرحلة التبشيرية الأولى آمن على يديه الوالي الفهيم "سرجيوس بولس" فدُعيَ شاول بِاسمه "بولس" على اسم هذا الوالي العظيم، واسم شاول Saul قريب جدًا من اسم بولس Paul، والاختلاف بينهما في الحرف الأول فقط.
بُولُسُ رَسُولٌ.. والرسول يحمل اسم وكرامة مُرسِله، فهو السفير الذي يمثل مُرسِله، وتكريمه يُعد تكريمًا لمُرسِله.
بُولُسُ رَسُولٌ لا مِنَ النَّاسِ ولا بإنسان.. هذه جملة خبرية في صيغتها السلبية. في الماضي طلب رسائل من رئيس الكهنة ليذهب إلى دمشق ويسوق المؤمنين موثقين إلى سجون أورشليم (أع 9: 1، 2) فكان رسولًا لرئيس كهنة اليهود ولإيذاء الأبرياء، أما الآن فهو يتحمل إيزاء الآخرين من أجل البشارة بالإنجيل، شأنه شأن سيده، فهو يحمل سمات الرب يسوع في جسده.
وهذه العبارة الأولى الاستهلالية التي افتتح بها بولس الرسول رسالته إلى غلاطية، توضح طبيعة هذه الرسالة الدفاعية الحماسية، فمنذ الوهلة الأولى يؤكد كمال سلطانه الرسولي، وهذا لا يتعارض مع تواضع بولس الذي دعى نفسه في مواضع أخرى أنه "عَبْدٌ لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ" (رو 1: 1، في 1: 1)، فهو لم يفعل هذا بدافع الكبرياء، بل حرصًا منه على أولاده الذين قبلوا الإيمان على يديه، فلو شكُّوا في رسوليته لشكُّوا في إيمانهم أيضًا، ويقول "ليتوفت" G.A. Lightfoot : " ارتبط الخطان الممتدان خلال هذه الرسالة - دفاع الكاتب عن رسوليته وتأكيده عقيدة النعمة - معًا في التحية الافتتاحية"(17).
بُولُسُ رَسُولٌ لاَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ بِإِنْسَانٍ بَلْ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ.. الذين شكَّكوا في رسولية بولس الرسول قالوا أنه لم يكن من جملة الاثني عشر تلميذًا، بل هو رسول من الناس والمقصود بالناس الآباء الرسل، وهو رسول بإنسان والمقصود بالإنسان بطرس الرسول، فهو لم يكن مع المسيح منذ معمودية يوحنا وحتى صعوده له المجد إلى السماء. أما بولس فلم يرد أن يدخل معهم في جدال، فكل ما يهمه في الموضوع هو إنقاذ إيمان أولاده من براثنهم، ولذلك أحسن صنعًا عندما بدأ رسالته بتقديم أوراق اعتماده، فهو بالحقيقة رسول، وبالحقيقة ليس رسولًا من الآباء الرسل، ولم يُرسَل بواسطة بطرس الرسول، و"مِنَ" تعني المصدر و"ب" تعني الوسيلة أو الواسطة، فإرساليته لم تصدر من الناس، ولم يعلنها اللَّه له عن طريق إنسان.
ويقول "الخوري بولس الفغالي": "بُولُسُ رَسُولٌ: ما عارض أحد حق بولس بأن يُسمي نفسه رسولًا، ولكن خصومه تحدثوا عنه كرسول من الدرجة الثانية، كشخص جاء متأخرًا فتسلَّم سلطته من البشر لا من يسوع المسيح.
وأطلق بولس جوابه على هذه التلميحات وفيها ما فيها من نوايا خبيثة: لقد تلقى دعوته الرسولية من يسوع المسيح، من يسوع المسيح وحده، من يسوع المسيح بطريقة مباشرة.. هذا لا ينفي الدور الذي لعبه البشر في هذا الحدث. غير أن هذا الدور لا يقلّل في شيء من الأصل الإلهي لدعوته. فخلال اتصالاته بكنيستي دمشق وأورشليم، كان قد صار رسولًا بكل معنى الكلمة.. ولا ننسى بصورة خاصة حنانيا الذي "وضَعَ عليه يَدَيه" (أع 9: 17)"(18).
لم يقبل رسوليته كما قَبِل هارون رسالته بيد موسى النبي (لا 8)، ولا كما قَبِل تيموثاوس رسالته بوضع يده عليه (2تي 1: 6)، إنما قبِل بولس الرسول إرساليته من المسيح رأسًا، وبالتالي فهو مسئول مسئولية مباشرة أمامه، وعندما وضعت كنيسة أنطاكية عليه وعلى برنابا الأيادي (أع 13: 3) لم تمنحه الرسولية، إنما أقرَّت برسوليته التي منحها إياه الثالوث القدوس:
أ- دعاه الآب وأفرزه وهو في بطن أمه: "ولكِنْ لَمَّا سَرَّ اللَّهَ الَّذِي أَفْرَزَنِي مِنْ بَطْنِ أُمِّي، ودَعَانِي بِنِعْمَتِهِ أَنْ يُعْلِنَ ابْنَهُ فِيَّ لأُبَشِّرَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ"(غل 1: 15، 16).
ب- دعاه الابن وهو على مشارف أبواب دمشق، عندما قال له: "قُمْ وَقِفْ على رِجْلَيْكَ لأنِّي لهذا ظَهَرْتُ لك، لأنْتَخِبَكَ خَادِمًا وشَاهدًا بما رَأَيْتَ.. مُنْقِذًا إِيَّاكَ منَ الشَّعْبِ ومنَ الأُممِ الذين أنا الآن أُرسِلُكَ إلَيهمْ" (أع 26: 16، 17) وفي هيكل أورشليم يقول بولس الرسول: "فَرَأَيْتُهُ قائلًا لي: أَسرع! واخْرجْ عاجلًا منْ أُورُشَلِيم.. اذهَبْ فإِنِّي سَأُرسِلُكَ إِلَى الأُمَمِ بَعِيدًا" (أع 22: 18، 21)، فقد سبق السيد المسيح وقال لحنانيا: "لأَنَّ هذَا لِي إِنَاءٌ مُخْتَارٌ لِيَحْمِلَ اسْمِي أَمَامَ أُمَمٍ وَمُلُوكٍ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ. لأَنِّي سَأُرِيهِ كَمْ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ مِنْ أَجْلِ اسْمِي" (أع 9: 15، 16) وأدرك بولس الرسول هذا الأمر جيدًا، فقال لتلميذه تيطس: ".. بالكرازة التي اؤتُمِنت أنا عليها، بحَسَب أمر مُخلّصنا اللَّه" (تي 1: 3).
ج- دعاه الروح القدس: "قَالَ الرُّوحُ القُدُسُ: أفرزوا لِي بَرنَابَا وشَاوُل للْعَمَلِ الذي دعوْتُهُمَا إليه" (أع 13: 2).
تُرى بعد هذا الاختيار للرسولية والدعوة للكرازة للأمم من قِبل الثالوث القدوس.. مَن يستطيع أن يطعن في رسولية بولس الرسول؟!.. ويجب أن نعي جيدًا مدى الخطورة المترتبة على التشكيك والطعن في رسولية بولس الرسول، فإن هذا يعني بطلان إيمان جميع الذين آمنوا على يده وعلى يد رفقائه!!
بُولُسُ رَسُولٌ.. بِيَسُوعَ المَسِيحِ واللَّه الآب.. إذًا بولس رسول مثله مثل بقيّة الآباء الرسل، لم ينقص عنهم في شيء على الإطلاق، فمثلًا:
أ- قَبِل التلاميذ دعوة السيد المسيح لهم مباشرة، وهكذا شاول أيضًا: " فَقَاَلَ وَهُوَ مُرْتَعِدٌ وَمُتَحَيِّر يَا رَبُّ مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ" (أع 9: 6).
ب- تتلمذ التلاميذ على يد السيد المسيح نحو ثلاث سنوات، وهكذا بولس انفرد في خلوة نحو ثلاث سنوات في تلمذة من نوع خاص استلم فيها الإنجيل: "لأَنِّي لم أَقْبَلْهُ منْ عندِ إنسَانٍ ولا عُلِّمْتُهُ. بل بإعلان يَسُوعَ المَسِيحِ" (غل 1: 12) وقال لأهل كورنثوس: "ألَسْتُ أنا رَسُولًا؟.. أما رأَيْتُ يَسُوعَ المَسِيحَ ربنا" (1كو 9: 1).. "لأنَّني تَسَلَّمْتُ من الرَّبِّ ما سَلَّمْتُكُمْ أيضًا.. " (1كو 11: 23).. "فإنَّني سَلَّمتُ إليكم في الأوَّل ما قَبِلْتُهُ أنا أيضًا أَنَّ المَسِيح مات.. " (1كو 15: 3).
ج - رأى بطرس ويعقوب ويوحنا أمجاد التجلي الإلهي، وبولس الرسول أيضًا أُختطف إلى الفردوس وسمع كلمات لا يُنطق بها (2كو 12: 2، 3).
د- تعب الرسل في الكرازة والتبشير، وهكذا بولس الرسول الذي آزرته النعمة الإلهيَّة: "وَنِعْمَتُهُ الْمُعْطَاةُ لِي لَمْ تَكُنْ بَاطِلَةً بَلْ أَنَا تَعِبْتُ أَكْثَرَ مِنْهُمْ جَمِيعِهِمْ. وَلكِنْ لاَ أَنَا بَلْ نِعْمَةُ اللَّهِ الَّتِي مَعِي" (1كو 15: 10).
إذًا، وإن كان اختيار بولس اختيار خاص جدًا، انفرد به لوحده، ولم يماثله فيه آخَر، إلاَّ أن السيد المسيح أودعه كل ما أودعه للآباء الرسل بالسوية، فلم ينقصه عنهم شيئًا، بل صار مساوٍ لبقية الآباء الرسل في الكرامة، واعترف الرسل بهذا وأعطوه يمين الشركة (غل 2: 9)، ويقول: "القديس يوحنا ذهبي الفم": "وكما أن الرب دعا التلاميذ وهو سائر على الشاطئ، كذلك دعا بولس بعد أن صعد إلى السماء (مت 4: 18، أع 9: 3، 4) وكما أن التلاميذ لم يحتاجوا إلى تكرار الدعوة، كذلك بولس لم يعاند الرؤيا السماويَّة.. لذلك فبقوله: " لاَ مِنَ النَّاسِ " يوضح أن أساسات الإنجيل سماوية، وبقوله: "وَلاَ بِإِنْسَانٍ" يصف وضع الرسل الذين لم يُدعَوا عن طريق يد بشرية بل من اللَّه نفسه.. ذلك ليرد افتراءات المقاومين الذين ادعوا أنه أخذ إرساليته من الرسل ولهذا يجب أن يطيعهم تمامًا"(19).
لاَ بِإِنْسَانٍ بَلْ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ وَاللَّهِ الآبِ.. هذه العبارة تحمل العمق اللاهوتي:
أ- يسوع المسيح ليس إنسان، بل هو الإله المتأنس، الإله الذي صار إنسانًا من أجل خلاص جنسنا.
ب- المساواة بين الابن والآب، لذلك قُرن اسم الآب بِاسم الابن يسوع المسيح، ولم يفرق بينهما، دليل على الوحدة والمساواة بين أقنوم الآب وأقنوم الابن، فالأقنومان واحد في الجوهر، أي لهما نفس الجوهر الإلهي الواحد، نفس الطبيعة الإلهيَّة الواحدة، نفس الكيان الإلهي الواحد، نفس الذات الإلهية الواحدة.. الآب في الابن، والابن في الآب، والروح القدس هو روح الآب، وروح الابن معًا.
بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ وَاللَّهِ الآبِ الَّذِي أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ.. ذكر بولس الرسول قيامة السيد المسيح ليوضِّح أن دعوته للكرازة جاءت بعد موت المسيح وقيامته بعدة سنوات، وأن الآب الذي أقام الابن من بين الأموات، هو الذي اختاره وأفرزه من بطن أمه ودعاه للخدمة، وأن الابن الذي أرسل تلاميذه بعد قيامته قائلًا لهم: " دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ، فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَم" (مت 28: 18، 19) هو الذي أرسله أيضًا بعد قيامته من الأموات.
ويقول "الخوري بولس الفغالي": "ونعود إلى العلاقة بين قيامة يسوع ورسالة بولس. هناك آراء عديدة:
الأول : يشدّد بولس على ظهور القائم من الموت، ظهر له كما لسائر الرسل (1كو 9: 1، 15: 8).
الثاني : تُشكّل قيامة يسوع جوهر كرازته الشخصية وكرازة سائر الرسل (1كو 15: 3-5).
الثالث : يبرز بولس سلطة القائم من الموت (الآن)، وبالتالي سلطة اللَّه على عمله الرسولي الشخصي.
أمَّا النقطة المهمة فهي أن سلطة المسيح القائم من الموت على رسالة بولس، تجد ينبوعها في لقاء تاريخي بين بولس والقائم من الموت. وهذا الرباط التاريخي يوحّد انتداب بولس مع انتداب سائر الرسل الذين كانوا شهودًا للقيامة. إن بولس هو شاهد مباشر لهذا الواقع الرئيسي، شأنه شأن سائر الرسل، واللقاء مع القائم من الموت بيَّن له أن مهمة نقل الإنجيل إلى غير المختونين (غل 2: 7) قد أُوكلت إليه"(20).
ولكن ما الذي جَعل بولس الرسول يطرح فكرة قيامة المسيح في هذه الفقرة الافتتاحية؟.. لأنه سيناقش في الرسالة فكرة الخلاص من الموت، فأراد أن يضع مبدأً راسخًا وهو أن الناموس لن ينقذنا ولن يقيمنا من حكم الموت، والذي ينقذنا من حكم الموت هو المسيح القائم من الأموات، الذي قام "وَأَقَامَنَا مَعَه،ُ وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ" (أف 2: 6)، فالمسيح القائم من الأموات هو الذي سيهبنا القيامة من الأموات.
وقال بعض الهراطقة ما دام الآب هو الذي أقام الابن السيد المسيح من بين الأموات، فهذا يعني أن الآب أعظم من الابن، وتغافلوا أن الابن هو أيضًا "رَئِيسُ الحَيَاةِ" (أع 3: 15)، وأنه أقام ذاته كقول الملاك للنسوة: "لَيْسَ هُوَ ههُنَا، لأَنَّهُ قَامَ كَمَا قَالَ" (مت 28: 6).. "قَدْ قَامَ لَيْسَ هُوَ ههُنَا" (مر 16: 6) وفي الترجمة القبطية فعل "قام" هو "أفتونف" ومعناه "هو أقام هو" أي أنه هو أقام نفسه.
ويقول "القديس يوحنا ذهبي الفم": " لكن الهراطقة يستغلون هذه الآية ويصيحون صيحة مهينة: "ما هذا! الآب أقام الابن؟!" مساكين هؤلاء القوم لأنهم بمجرد أن يبدأوا في الطريق يسدُّون مسامعهم عن الحق بإرادتهم فيتحدثون عن طبيعة أضعف للابن الكلمة. أتراهم يريدون أن ينسبوا للابن عجزًا في أن يقيم نفسه؟ ما رأيهم إذًا فيمن أقاموا بالابن أمواتًا (أع 9: 40)، وكانوا يخيمون بثيابهم على الموتى فيقومون! فهل يعجز الابن عن إقامة نفسه؟ يا له من جنون أحمق! ألم يقل: "لي سُلْطَانٌ أنْ أضَعَها ولي سُلْطَانٌ أن آخُذَها أيضًا" (يو 10: 18)"(21).
وقال البعض أن الآب متقدّم على الابن في الكرامة لأن اسمه يأتي قبل اسم الابن، ولم يلتفتوا إلى هذه الآية الواضحة والصريحة والتي جاء فيها اسم الابن قبل اسم الآب، ويقول "القديس يوحنا ذهبي الفم": "ويقول بولس: المسيح والآب، ليس كأنه يضيف عمل المسيح للآب، ولكن ليوضح أنه لا تمييز في قانون التعميد "بِاسم الآب والابن والروح القدس" حيث يذكر فيها الآب قبل الابن، فماذا يقولون الآن أمام تسجيل بولس ذاكرًا المسيح الابن قبل الآب؟ فهل يمكن أن يُقال هنا أن المسيح أعلى من الآب لأنه ذُكر قبل الآب"(22).
"وجَمِيعُ الإِخْوَةِ الَّذِينَ مَعِي إلى كَنَائِسِ غَلاَطِيَّةَ" (غل 1: 2).
وَجَمِيعُ الإِخْوَةِ الَّذِينَ مَعِي.. لم يذكر بولس الرسول اسم شخص أو أكثر مثل سيلا وتيموثاوس ولوقا، إنما قال " جَمِيعُ الإِخْوَةِ " العاملين معه في حقل الكرازة، وهؤلاء الذين أشار لوقا الإنجيلي لبعضهم عندما قال: "فَرَافَقَهُ إِلَى أَسِيَّا سُوبَاترُسُ الْبِيرِيُّ، وَمِنْ أَهْلِ تَسَالُونِيكِي: أَرَسْتَرْخُسُ وَسَكُونْدُسُ وَغَايُوسُ الدَّرْبِيُّ وَتِيمُوثَاوُسُ. وَمِنْ أَهْلِ أَسِيَّا تِيخِيكُسُ وَتُرُوفِيمُسُ" (أع 20: 4).. هؤلاء هم النجوم اللامعة في سماء الكرازة، الذين شاركوا معلمهم بولس الرسول مشقة السفر والتجوال، وكابدوا معه المتاعب والمشقات، وتحمّلوا مرارة الاضطهادات من أجل وصول البشارة المفرحة للأمم، هؤلاء الإخوة الذين التصقوا ببولس الرسول، فكتب لأهل فيلبي: "يُسَلِّمُ عَلَيْكُمُ الإِخْوَةُ الَّذِينَ مَعِي. يُسَلِّمُ عَلَيْكُمْ جَمِيعُ الْقِدِّيسِينَ" (في 4: 21، 22)، وفي وقت الشدّة يظهر موقف الإخوة الأمناء الذين يشدّدون الأخ الذي يجوز التجربة، والإخوة الذين التفوا حول بولس الرسول اختلفوا عن الذين أحاطوا بفلاسفة الرواقيين وغيرهم والذين اقتصر دورهم على التعلُّم والحوار، أما هؤلاء فقد قاسموا معلمهم الألم والمعاناة.
ويقول "الخوري بولس الفغالي": "من هم هؤلاء الإخوة، وكيف تفهم مشاركتهم في الرسالة؟ هم مشاركوا بولس القريبون في العمل إعتاد بولس أن يسميهم في سائر رسائله. في (1كو 1: 1) سمى سوستانيس "الأخ"، وفي (2كو 1: 1) سمى "تيموثاوس الأخ"، وفي (1تس 1: 1) ذكر سلوانس وتيموثاوس. أما هنا فيذكر جميع الإخوة. أنهم أبناء الكنيسة التي يقيم فيها بولس يوم كتب رسالته: أفسس أو كورنثوس. إن كلمة "جميع" تجعلنا نفهم أن بولس قرأ رسالته لكنيسة أفسس أو كورنثوس قبل أن يبعث بها إلى غلاطية، وأن الجميع وافقوا على ما في مضمونها"(23).
وجَمِيعُ الإِخوَة الذِينَ مَعِي.. هؤلاء لم يكتب أي منهم سطرًا واحدًا في الرسالة، فالذي كتب الرسالة بالكامل هو بولس الرسول المتهم الذي يدافع عن قضيته وكرازته. أما هؤلاء الإخوة فأنهم يوافقونه الرأي فيما يكتب، ولا بد أن بولس الرسول قرأ لهم هذه الرسالة قبل أن يرسلها إلى أهل غلاطية.
إِلَى كَنَائِسِ غَلاَطِيَّةَ.. كلمة كنيسة من الأصل العبري "كنيسي" أن "مجمع" وفي السريانية تعني "المجمع" أو "الجماعة"، وفي اليونانية "أككليسيا" أي "جماعة" أو "دعوة"، وجاءت كلمة "الكنيسة" في العهد الجديد تعبيرًا عن:
أ- مكان العبادة كقول بولس الرسول: "سَلِّمُوا عَلَى بِرِيسْكِلاَّ وَأَكِيلاَ.. وَعَلَى الْكَنِيسَةِ الَّتِي فِي بَيْتِهِمَا" (رو 16: 3، 5) وقال لفليمون: "وإِلى الْكَنِيسَةِ الَّتِي فِي بَيْتِكَ" (فل 2).
ب- الكنيسة المحلية مثل كنائس اليهودية (أع 9: 31) وكنيسة أنطاكية (أع 11: 26) وكنيسة أورشليم (أع 15: 4) وكنيسة كورنثوس (1كو 11: 18) وكنيسة تسالونيكي (2تس 1: 1)..
ج- الكنيسة الجامعة كقول السيد المسيح لبطرس "وَعَلَى هذِهِ الصَّخْرَةِ أَبْني كَنِيسَتِي" (مت 16: 18)، وهي جسد المسيح كقول بولس الرسول لأهل أفسس عن السيد المسيح" وإِيَّاهُ جَعَلَ رَأْسًا فَوْقَ كُلِّ شَيْء لِلْكَنِيسَةِ الَّتِي هي جَسَدُهُ" (أف 1: 22، 23).
د- الرعاة من الأكليروس كقول السيد المسيح عن الأخ المتصلّف: " وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُمْ فَقُلْ لِلْكَنِيسَةِ. وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ الْكَنِيسَةِ فَلْيَكُنْ عِنْدَكَ كَالْوَثَنِيِّ وَالْعَشَّارِ" (مت 18: 17).
إِلَى كَنَائِسِ غَلاَطِيَّةَ.. أي كنائس أنطاكية بيسيدية وأيقونية ولسترة ودربة في غلاطية الجنوبية (ولو أن الرسالة تخصّ غلاطية الشمالية فهو يقصد الكنائس في مدن بسينوس، وأنقرة، وتافيوم). وإن كان بولس الرسول قد كتب نسخة واحدة من هذه الرسالة، فإما أنهم تبادلوا هذه الرسالة من كنيسة إلى أخرى، أو قد تكون كل كنيسة قد نسخت نسخة منها كبركة رسولية للأجيال.
إِلَى كَنَائِسِ غَلاَطِيَّةَ.. لم يسبغ عليها بولس الرسول أي وصف مثلما قال:
أ- لأهل رومية: "إِلَى جَمِيعِ الْمَوْجُودِينَ فِي رُومِيَةَ أَحِبَّاءَ اللَّهِ مَدْعُوِّينَ قِدِّيسِينَ" (رو 1: 7).
ب- لأهل كورنثوس: "إِلى كَنِيسَةِ اللَّهِ الَّتِي فِي كُورِنْثُوسَ، الْمُقَدَّسِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ"(1كو 1: 2).
ج- لأهل أفسس: "إِلى الْقِدِّيسِينَ الَّذِينَ فِي أَفَسُسَ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ" (أف 1: 1).
د- لأهل فيلبي: "أَشْكُرُ إلهي عِنْدَ كُلِّ ذِكْرِي إِيَّاكُمْ. دَائِمًا في كُلِّ أَدعِيَتِي مُقَدِّمًا الطَّلْبَةَ لأَجْلِ جَمِيعِكُمْ بِفَرَحٍ" (في 1: 3، 4).
ه- لأهل كولوسي: "إِلَى الْقِدِّيسِينَ فِي كُولُوسِّي، وَالإِخْوَةِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْمَسِيحِ.. نَشْكُرُ اللَّهَ وَأَبَا رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ كُلَّ حِينٍ، مُصَلِّينَ لأَجْلِكُمْ. إِذْ سَمِعْنَا إِيمَانَكُمْ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ وَمَحَبَّتَكُمْ لِجَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ" (كو 1: 2 - 4).
و- لأهل تسالونيكي: "نَشْكُرُ اللَّهَ كُلَّ حِينٍ مِنْ جِهَةِ جَمِيعِكُمْ، ذَاكِرِينَ إِيَّاكُمْ فِي صَلَوَاتِنَا، مُتَذَكِّرِينَ بِلاَ انْقِطَاعٍ عَمَلَ إِيمَانِكُمْ، وَتَعَبَ مَحَبَّتِكُمْ وَصَبْرَ رَجَائِكُمْ" (1تس 1: 2، 3).
" نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ اللَّهِ الآبِ وَمِنْ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (غل 1: 3).
نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ اللَّهِ الآبِ.. كان اليونانيون يفتتحون رسائلهم بكلمة "افرحوا"، واليهود بكلمة "شالوم" Shalom أي سلام، ثم تطوَّرت إلى كلمتي "رحمة وسلام" وهما الكلمتان اللتان استخدمهما بولس الرسول في رسائله "نِعْمَةٌ وَسَلاَمٌ"، ويقول "وليم كلي": "فالكلمة اليونانية Charis تعني النعمة في معناها اللاهوتي، إلاَّ أنها تعني الجمال والجاذبية، وحتى عندما تُستخدم هذه الكلمة في معناها اللاهوتي، ففكرة الجمال ليست بعيدة عنها مُطلقًا0 فعندما تتواجد النعمة في الحياة المسيحية فلابد أن تجعل منها شيئًا جذابًا محبوبًا.. وعمل النعمة يظهر عندما يجتمع الصلاح والجاذبية معًا. والفكرة الثانية هي فكرة الكرم والسخاء الذي يُقدَم دون استحقاق. والفكرة هي فكرة العطية التي ينالها الإنسان دون استحقاق، والتي ما كان يمكنه أن يحصل عليها بمجهوده الشخصي، ولكنها تُقدَم له بناءً على كرم وسخاء وحُب قلب اللَّه له، فكلمة "نِعْمَةٌ" تحوي بين ثناياها كل محبة اللَّه"(24).
نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ.. فالإنسان الذي رفض اللَّه، وأخطأ في حقه، وتعدى على وصاياه، وعصاه، وتمرَّد عليه، وربما جدَّف عليه.. هل يستحق شيئًا غير الدينونة والعقوبة القاسية؟! ولكن اللَّه في محبته يهبه نعمته، أي يقدم له نعمة الخلاص المجاني، فيستريح قلبه وينعم بالسلام، إذ يضع ثقته الكاملة في اللَّه ضابط الكل مُحب البشر الذي سُرَّ أن يُعطي القطيع الصغير ملكوت السموات.
ويقول "الخوري بولس الفغالي": "إن تمنيات بولس تقابل عبارات ليتورجية، فالكلمة "نِعْمَةٌ" (خاريس) ستتكرر مرارًا في الرسالة (غل 1: 6، 15، 2: 9، 21، 5 : 4، 6: 18)، واليهود أنفسهم مهدَّدون بأن يسقطوا من نعمة اللَّه (غل 5: 4) وهم لن يلبثوا في هذه النعمة، إلاَّ إذا ظلوا أبناء للتعليم الرسولي.
والسلام (إيريني في اليونانية، شلوم في العبرية) يشكّل تمنيًا تقليديًا في العالم السامي، ولكن الكلمة تحمل معنى أعمق مما تحمله التحية، فالسلام في القديم يدل على البركة وما تحمله معها من خيرات (وليس فقط الطمأنينة والبُعد عن الحرب). والسلام هنا هو عطية الروح القدس (غل 5: 22) تُمنح للذين يتعلقّون بالقاعدة الإيمانية التي عرضها القديس بولس (غل 6: 16) ويسيرون في الطريق الذي رسمه رسول الأمم. تحية ناشفة ولكنها تجعلنا في إطار ليتورجي، وهذه العبارة التي أوردها الرسول، انتمت إلى شعائر العبادة المسيحية. يبدأ الاحتفال بالسلام، والنعمة (أو كسر الخبز) تختتمه.. نحن أمام عمل اللَّه الحالي من أجل شعبه والسلام هو نتيجة هذه النعمة، وهو يدل على حماية اللَّه وقيادته للكنيسة في حياتها كلها"(25).
نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ.. يقول "ماكدونالد": " النعمة والسلام كلمتان من كلمات الإنجيل العظيمة، فالنعمة هي إحسان اللَّه إلى الخطاة الأثمة دونما استحقاق من جانبهم.. يقول أسكوفيلد ( Scofield ): { بدل التفتيش عن الناس الصالحين بغيّة مدحهم، تبحث النعمة عن المحكوم عليهم والمذنبين والذين بلا حجة ولا معين، لكي تخلّصهم وتقدّسهم وتمجّدهم}.
والسلام هو نتيجة عمل النعمة، لأنه عندما يقبل الخاطئ الرب مخلصنا، يصبح لديه سلام مع اللَّه، فهو يستريح لعلمه أن أجرة خطاياه قد دُفِعت، وأن ذنوبه قد غُفرت، وأنه لن يأتي إلى دينونة أبدًا. ولكن النعمة لا تخلّص فقط بل تحفظ أيضًا.. ولا شك أن أهل غلاطية أدركوا يقينًا أن هذه البركات لا يمكن أن تأتي بواسطة الناموس، فالناموس أصدر حكم اللعنة على كل من كسر وصاياه، ولم يقدّم السلام لأي نفس على الإطلاق"(26).
نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ.. النعمة هي الهبة المجانية التي يهبها اللَّه الكريم للإنسان الذي لا يستحقها، وكان أهل غلاطية أحوج الناس لهذه النعمة لأنهم كانوا على وشك الانزلاق في بدعة التهود، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في صفحات قاموس وتفاسير الكتاب المقدس الأخرى. كانوا يحتاجون لنعمة اللَّه الغنية لتنتشلهم من هوَّة هذه البدعة وتحفظهم من الارتداد للأركان الضعيفة. أما السلام فهو نتيجة طبيعية لمن يتمتع بنعمة اللَّه ويشعر أن اللَّه معه يهبه سلامه، والسلام الذي يهبه اللَّه يختلف عن سلام العالم لأنه ثابت لا تقوى عليه عواصف العالم: "سَلاَمًا أَتْرُكُ لَكُمْ. سَلاَمِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا. لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ وَلاَ تَرْهَبْ" (يو 14: 27)، وكان الغلاطيون في حاجة شديدة أيضًا لهذا السلام، لأن المتهودين قد أزعجوهم وأقلقوهم: "يَا لَيْتَ الَّذِينَ يُقْلِقُونَكُمْ يَقْطَعُونَ أَيْضًا" (غل 5: 12).
نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ.. النعمة تعبير عن خلاص المسيح المجاني المُقدَّم للإنسان غير المستحق، والقديس بولس يضع هنا النعمة مقابل الناموس، والخلاص هو الإيمان بنعمة المسيح المجانية وليس بالناموس: "لَسْتُ أُبْطِلُ نِعْمَةَ اللَّهِ. لأَنَّهُ إِنْ كَانَ بِالنَّامُوسِ بِرٌّ، فَالْمَسِيحُ إِذًا مَاتَ بِلاَ سَبَبٍ" (غل 2: 21)، أي لو كان الناموس يستطيع أن يهب النعمة (الخلاص المجاني) ما كان هناك حاجة لموت المسيح، والذين يسعون للتبرير بالناموس لن ينالوا نعمة الخلاص: "قَدْ تَبَطَّلْتُمْ عَنِ الْمَسِيحِ أَيُّهَا الَّذِينَ تَتَبَرَّرُونَ بِالنَّامُوسِ. سَقَطْتُمْ مِنَ النِّعْمَةِ" (غل 5: 4).
نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ.. استخدمتها الكنيسة في صلواتها الليتورجية، فالأب الكاهن يرفع الصليب مُباركًا الشعب: "بركة (نعمة) وسلام لجميعكم"، والبركة مرادفة للنعمة، والترتيب الطبيعي لنوال البركة هو نوال النعمة أولًا ثم السلام، وليس العكس، والسلام هو راحة القلب التي تنبع من عمل النعمة، وعبثًا يحاول الإنسان الحصول على السلام بعيدًا عن النعمة، ويقول "وليم كلي": "وكلمة "شالوم" تعني أكثر بكثير من مجرّد اتقاء المشاكل، فهي تعني كل شيء يؤدي إلى أفضل خير للإنسان. أنها تعني كل شيء يجعل فكره نقيًا وإرادته ثابتة وقلبه مسرورًا. إنها الشعور بمحبة اللَّه وعنايته التي تحيط قلب الإنسان بالسلام والبهجة حتى ولو كان جسده يعاني ألوان العذاب"(27).
نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ.. قال بولس الرسول لأهل رومية: "وإِلهُ السَّلاَم سَيَسْحَقُ الشَّيْطَانَ تَحْتَ أَرْجُلِكُمْ سَرِيعًا" (رو 16: 20)، فإله السلام الذي بذل ابنه الحبيب لأجل خلاصنا سيسحق الشيطان تحت أرجلنا، بل أنه سيهبنا كل ما هو صالح: "الَّذي لَمْ يُشْفِقْ عَلَى ابنِهِ بَلْ بَذَلَهُ لأَجْلِنَا أَجْمَعِينَ كَيْفَ لاَ يَهَبُنَا أَيْضًا مَعَهُ كُلَّ شَيْءٍ" (رو 8: 32)، وقال يعقوب الرسول: " كُلُّ عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَكُلُّ مَوْهِبَةٍ تَامَّةٍ هي مِنْ فَوْقُ، نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِ أَبِي الأَنْوَارِ" (يع 1: 17).
"الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ لأَجْلِ خَطَايَانَا لِيُنْقِذَنَا مِنَ الْعَالَمِ الْحَاضِرِ الشِّرِّيرِ حَسَبَ إِرَادَةِ اللَّهِ وَأَبِينَا" (غل 1: 4).
في هذه الآية يضع بولس الرسول أمام أولاده الغلاطيين قضية الخلاص باختصار شديد، وهو أن المسيح بذل نفسه، أي قدم نفسه ذبيحة كفارية.. لماذا؟
أولًا: لكي يُكفّر عن خطايانا فنصير أبرارًا بلا خطية ولا لوم أمامه، ونستحق سكنى الملكوت على حساب دمه المسفوك عنا.
ثانيًا: لكي ينقذنا طوال زمان غربتنا على هذه الأرض من شهوات العالم وأهوائه الرديئة، فليس معنى أننا نلنا مغفرة خطايانا أننا خلصنا أو أننا نلنا العصمة ولن نخطئ ثانية، فمادمنا في هذا العالم فحروب عدو الخير ضدنا ستظل قائمة وممتدة، ولذلك لا يمكن أن نستغنى عن المعونة الإلهيَّة التي تنقذنا من فخاخ الشيطان وأسهمه الملتهبة نارًا ومن أعوانه الأشرار.. نحن نعيش في وسط هذا العالم الحاضر الشرير، لا مناص من هذا، ولكن ينبغي أن هذا العالم لا يعيش فينا، من أجل هذا صلى السيد المسيح قائلًا: "لَسْتُ أَسْأَلُ أَنْ تَأْخُذَهُمْ مِنَ الْعَالَمِ بَلْ أَنْ تَحْفَظَهُمْ مِنَ الشِّرِّيرِ" (يو 17: 15).
وبهذا الفداء قد تمَّم السيد المسيح مشيئة وإرادة الآب السمائي في خطة خلاصنا.. فهل بعد هذا نحتاج للرجوع إلى الختان وحفظ مطاليب الناموس؟!!.. والذي يريد أن يرجع إلى الناموس فأنه ينكر كمال عمال الفداء.
الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ لأَجْلِ خَطَايَانَا.. وقد سبق السيد المسيح وقال: "أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ، وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ" (مت 20: 28)، وهذا ما أكده بولس الرسول أكثر من مرة: "الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً لأَجْلِ الْجَمِيعِ" (1تي 2: 6).. "الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، لِكَيْ يَفْدِيَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ"(تي 2: 14).
الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ لأَجْلِ خَطَايَانَا.. لو كان هناك وسيلة أخرى للخلاص ما كان السيد المسيح بذل نفسه ووضعها حتى الموت موت الصليب، ولو كان بالناموس خلاص البشرية فلماذا بذل الابن ذاته؟!!.. "لأَنَّهُ إِنْ كَانَ بِالنَّامُوسِ بِرٌّ، فَالْمَسِيحُ إِذًا مَاتَ بِلاَ سَبَبٍ" (غل 2: 21).
الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ لأَجْلِ خَطَايَانَا.. هذا ما أشار إليه إشعياء النبي قبل وقوع الحدث بنحو سبعمائة عام إذ قال: "سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ، وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي الْمُذْنِبِينَ" (إش 53: 12)، وردَّد صدى هذه الكلمات بولس الرسول بعد إتمام الحدث: "الَّذِي أُسْلِمَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا وَأُقِيمَ لأَجْلِ تَبْرِيرِنَا"(رو 4: 25)، فالخطية التي تكسِر الإنسان وتستعبده وتضعه في موقف الدينونة وتحدِره إلى الهلاك الأبدي كسَر شوكتها الرب يسوع بموته الكفاري وحطم سلطانها فلم يعد لها القوة للتسلط على الإنسان، وعندما مات المسيح عن خطايانا، فالمقصود كافة خطايانا التي فعلناها بمعرفة والتي فعلناها بغير معرفة، التي فعلناها بإرادتنا والتي فعلناها بغير إرادتنا، الخفيّة والظاهرة، الرب غفرها ويغفرها لنا.
ويقول "القديس يوحنا الذهبي الفم": "أنه يظهر لنا بأن المسيح يخلصنا من خطايانا ويهبنا طمأنينة من جهة المستقبل.. لم يحقق الناموس شيئًا من هذين الأمرين، إنما النعمة هي التي كان لنا فيها الكفاية لإشباع احتياجاتنا"(28).
لِيُنْقِذَنَا مِنَ الْعَالَمِ.. وهناك عدة مفاهيم للعالم في الكتاب المقدَّس:
المفهوم الأول: العالم المادي أي الكون، وهو ليس شرًا، لأن اللَّه عندما خلق كل شيء في هذا الكون قال عنه أنه حسن، وهذا الكون هو كتاب لاهوت مفتوح يمجّد اسم اللَّه: "السَّمَوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ اللَّهِ وَالْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ" (مز 19: 1).
المفهوم الثاني: العالم بمعنى البشر، وعن هؤلاء البشر قال الرب يسوع: "لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ" (يو 3: 16).
المفهوم الثالث: الناس الأشرار، وهذا ما حذرنا منهم السيد المسيح: " لَوْ كُنْتُمْ مِنَ الْعَالَمِ لَكَانَ الْعَالَمُ يُحِبُّ خَاصَّتَهُ. وَلكِنْ لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنَ الْعَالَمِ بَلْ أَنَا اخْتَرْتُكُمْ مِنَ الْعَالَمِ لِذلِكَ يُبْغِضُكُمُ الْعَالَمُ " (يو 15: 19)، وفي الصلاة الوداعية قال السيد المسيح للآب: " أَنَا قَدْ أَعطَيْتُهُمْ كَلاَمَكَ، والعَالَمُ أَبْغَضَهُمْ لأَنَّهُمْ لَيْسُوا من العَالَمِ، كما أنِّي أنا لَسْتُ من العَالَمِ" (يو 17: 14).
المفهوم الرابع: العالم بمعنى شهوات العالم وأهوائه الرديئة، وهذا ما قال عنه الإنجيل: "نَعْلَمُ أَنَّنَا نَحْنُ منَ اللَّه، والعَالَمَ كُلَّه قَد وُضِعَ فِي الشِّرِّيرِ" (1يو 5: 19)، وقد أوصانا الإنجيل قائلًا: "لاَ تُحِبُّوا الْعَالَمَ وَلاَ الأَشْيَاءَ الَّتِي فِي الْعَالَمِ.. لأَنَّ كُلَّ مَا فِي العَالَمِ: شَهْوَةَ الْجَسَدِ، وَشَهْوَةَ الْعُيُونِ، وَتَعَظُّمَ الْمَعِيشَةِ.. وَالْعَالَمُ يَمْضِي وَشَهْوَتُهُ" (1يو 2: 15-17). وهذا المفهوم هو الذي قصده بولس الرسول هنا في هذه الآية موضع الحديث (غل 1: 4).
لِيُنْقِذَنَا مِنَ الْعَالَم.. إن كان الإنسان مهما بلغت محبته وعطاياه فلن يستطيع إنقاذ إنسان آخر مصاب بمرض خطير، وبالطبع لن يستطيع أي إنسان مهما فعل أن ينقذ آخَر من براثن الخطية، فالمُنقذ الوحيد هو ربنا يسوع المسيح القادر أن ينقذنا من موت ولعنة الخطية "لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ" (غل 3: 13).. وتعبير "ينقذنا" يعكس حجم المخاطر التي تهدّدنا، فنحن مهدَّدون بالهلاك الأبدي، ومحاربتنا مع عدو شرس: "فَإِنَّ مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، مَعَ السَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ الْعَالَمِ عَلَى ظُلْمَةِ هذَا الدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ" (أف 6: 12)، ورغم كل هذا فإن اللَّه قادر أن ينقذنا.
لِيُنْقِذَنَا مِنَ الْعَالَمِ الْحَاضِرِ الشِّرِّيرِ.. الشرير هو الشيطان رئيس هذا العالم: " رَئِيسَ هذَا الْعَالَمِ يَأْتِي وَلَيْسَ لَهُ فِيَّ شَيْءٌ" (يو 14: 30) وقد طرحه السيد المسيح: " اَلآنَ يُطْرَحُ رَئِيسُ هذَا الْعَالَمِ خَارِجًا" (يو 12: 31).. " فَطُرِحَ التِّنِّينُ الْعَظِيمُ، الْحَيَّةُ الْقَدِيمَةُ الْمَدْعُوُّ إِبْلِيسَ وَالشَّيْطَانَ، الَّذِي يُضِلُّ الْعَالَمَ كُلَّهُ، طُرِحَ إِلَى الأَرْضِ، وَطُرِحَتْ مَعَهُ مَلاَئِكَتُهُ" (رؤ 12: 9)، وصار الشيطان مدانًا: "فَلأَنَّ رَئِيسَ هذَا الْعَالَمِ قَدْ دِينَ" (يو 16: 11).
لِيُنْقِذَنَا مِنَ الْعَالَمِ الْحَاضِرِ الشِّرِّيرِ.. يقول "القديس يوحنا الذهبي الفم": "الحياة الحاضرة ليست شرًا بل هي فرصة بركات ومكافآت عديدة حتى أن الرسول يقول: "إِنْ كَانَتِ الْحَيَاةُ فِي الْجَسَدِ هي لِي ثَمَرُ عَمَلِي، فَمَاذَا أَخْتَارُ. لَسْتُ أَدْرِي" (في 1: 22)، وإذ يقارن بين الخدمة في الأرض والمكوث مع المسيح في السماء يختار الأولى، فلو كانت الحياة شرًّا لما اختارها ولما اتخذها أحد فرصة لخدمة الفضيلة.. لهذا فكلمة "الْعَالَمِ الشِّرِّيرِ" تعني الأفعال الآثمة والمبادئ الفاسدة، والمسيح لم يأتي ليخلّصنا من الحياة الحاضرة بالموت، بل جاء ليعدَّنا فيها لمشاركة سماوية مباركة لهذا يخاطب الآب قائلًا: "وَأَمَّا هؤُلاَءِ فَهُمْ فِي الْعَالَمِ، وَأَنَا آتِي إِلَيْكَ.. لَسْتُ أَسْأَلُ أَنْ تَأْخُذَهُمْ مِنَ الْعَالَمِ بَلْ أَنْ تَحْفَظَهُمْ مِنَ الشِّرِّيرِ" (يو 17: 11، 15) أي من الخطية.. وإن لم نقبل هذا التفسير فعلينا ألاَّ نلوم المنتحرين وكأنهم يسحبون أنفسهم من الشر فيستحقون إكليلًا. وكذلك أن نمنح القتلة تيجانًا إذ يخلصونا من الحياة الشريرة.. وكيف نقول أن هذه الحياة شريرة بينما نتعرَّف فيها على اللَّه ونتأمل في الأمور الآتية ونتحوَّل إلى ملائكة؟! لقد قال الرسول عن العالم أنه شرير بنفس الطريقة التي نصف بها يومًا ما أنه شرير، لا بسبب اليوم ذاته بل بسبب ما حدث فيه من أمور"(29).
الْعَالَمِ الْحَاضِرِ الشِّرِّيرِ.. في هذا العالم الحاضر الشرير تكثر الأخبار المأسوية، نشرات الأخبار في معظمها تحمل أخبار مؤسفة عن صراعات في شتى بقاع العالم، أعمال إرهابية وبلطجة، كوارث طبيعية من فيضانات وأعاصير وبراكين وزلازل وأوبئة، بينما تبدو الأخبار الطيبة متواضعة جدًا في عددها بجوار الأخبار السيئة، وكل هذا ينعكس على الإنسان بالحزن والكآبة.
حَسَبَ إِرَادَةِ اللَّهِ.. فخطة خلاصنا وإنقاذنا لم يكن لنا دور فيها، بل هي عمل إلهي صِرف، فاللَّه وحده هو الذي دبَّر أمر خلاصنا، فلم ينجح آدم وحواء في ستر عريهما بأوراق الأشجار، إنما سترهما الرب الإله بجلد الذبيحة، ولم يكن خلاص الإنسان هو إرادة الابن فقط الذي بذل ذاته عنا، بل هي إرادة الثالوث القدوس الواحدة، فالآب بذل ابنه عنها: "اَلَّذِي لَمْ يُشْفِقْ عَلَى ابْنِه،ِ بَلْ بَذَلَهُ لأَجْلِنَا أَجْمَعِينَ" (رو 8: 32)، والابن بذل ذاته لأجلنا، والروح القدس ينقل لنا استحقاقات دم المسيح.
حَسَبَ إِرَادَةِ اللَّهِ.. قال بولس الرسول: "تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ، لِتَخْتَبِرُوا مَا هي إِرَادَةُ اللَّهِ الصَّالِحَةُ الْمَرْضِيَّةُ الْكَامِلَةُ" (رو 12: 2) فإرادة اللَّه صالحة لأنها صادرة من مصدر الصلاح، ومرضية لأنها مريحة للنفس، وكاملة لأنها تشبع كل احتياجات الإنسان النفسية والروحية والجسدية.
حَسَبَ إرَادَةِ اللَّهِ وأبِينا.. ليس اللَّه هو العالي المتعالي في سماه، القاسي المتجبّر، فهذه نظرة شيطانية، لأن اللَّه هو الأب المحب الذي بذل ابنه الحبيب من أجل إنقاذنا، وبما أنه أبينا فيجب أن نحبه لأنه أحبنا أولًا، وأن نطيعه لأننا بنون لا نغول.
" الَّذِي لَهُ الْمَجْدُ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ آمِينَ" (غل 1: 5).
الَّذِي لَهُ الْمَجْدُ.. هذه العبارة تعود على اللَّه الآب (اللَّه وأبينا) أو على الابن الذي بذل نفسه عنا، ومن قبل تحدث السيد المسيح عن إعلان مجده في الفداء، فعندما انطلق يهوذا لتتميم مشورته: "قَالَ يَسُوعُ الآنَ تَمَجَّدَ ابْنُ الإِنْسَانِ وَتَمَجَّدَ اللَّهُ فِيهِ" (يو 13: 31).
الَّذِي لَهُ الْمَجْدُ.. عندما كان الإنسان اليهودي التقي يسمع اسم يهوه كان ينحني باحترام وتبجيل مُقدمًا المجد والبركة والتقديس للاسم المبارك، وهكذا تعلَّم بولس الرسول، فعندما ذُكر اسم اللَّه الآب والابن أتبعه بالتمجيد اللائق، فهذا أسلوب بولس الرسول الذي يمزج كتاباته بالصلاة والتسبيح والتمجيد، وهذه العبارة لا تدخل في الشرح، إنما تعطي التمجيد للَّه، فهو يكتب وهو يشعر أنه في الحضرة الإلهيَّة، ولذك لم يسعه إلاَّ أن يتوقَّف برهة ليعطي المجد للَّه الآب أبينا وابنه يسوع المسيح الذي بذل ذاته عنا. (راجع رو 1: 25، 9: 5، 1كو 11: 31).
إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ آمِينَ.. في القديم صلّى موسى النبي قائلًا: "مِنْ قَبْلِ أَنْ تُولَدَ الجبَالُ، أَوْ أَبْدَأْتَ الأَرْضَ وَالْمَسْكُونَةَ، مُنْذُ الأَزَلِ إِلَى الأَبَدِ أَنْتَ اللَّهُ" (مز 90: 2)، وإلى أبد الأبدين أي إلى "دَهْرِ الدُّهُورِ" كما جاءت في الرسالة إلى العبرانيين: "وأمَّا عَنْ الابْنِ: كُرْسِيُّكَ يا اللَّهُ إِلَى دَهْرِ الدُّهُورِ" (عب 1: 8) أو إلى " دهرِ الدَّاهرِين" كما جاء في الرسالة إلى فيلبي: "وللَّه وأبِينا المَجْدُ إِلَى دَهْرِ الدَّاهِرِينَ. آمِينَ" (في 4: 20) ويقول "القمص تادرس يعقوب": " آمِينَ: لقد ختم تحيته بذكصولوجية (تسبحة شكر للَّه) تتجلى فيها طبيعة ملكوت اللَّه الأبدية بالمقابلة مع العالم الحاضر الشرير"(30).
إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ آمِينَ.. كلمة "آمِينَ" في الأصل العبري تعكس معنيين:
1 إيمان الذي يصلّي وثقته في المواعيد الإلهيَّة.
2 أمانة اللَّه الثابتة التي لا تتغير من جيل إلى جيل.
وفي الترجمة اليونانية كلمة "آمِينَ" تعني "هذا ما أريده من كل قلبي"، والمعنى العالم لكلمة "آمِينَ" أي "استجب" أو "فليكن هذا"، وهنا يعلن بولس كمال ثقته في المواعيد الإلهيَّة، ولا بد أنه عندما قُرأت الرسالة في كنائس غلاطية كان الحاضرون عندما يسمعون كلمة "آمِينَ" كانوا يردّدون نفس الكلمة، وبهذا قصد بولس الرسول أن يضعهم من بدايات الرسالة في الحضرة الإلهيَّة، وانتشرت كلمة "آمِينَ" بانتشار الإنجيل في كل مكان.
ويقول "الخوري بولس الفغالي": "وتأتي المجدلة (آية 5) كما في رسائل القديس بولس، فتتوجه إلى اللَّه الآب. هذه المجدلات البولسية يتبعها ملخص لأعمال اللَّه من أجل خلاصنا (رو 11 : 36، غل 4: 20-21، 1تي 1: 17). ونجد مجدلة مماثلة لتلك التي نقرأها هنا في (2تي 4: 18) وهي تتوجَّه إلى الرب.
هل نزيد نحن مجدًا على مجد اللَّه؟ كلاَّ، ولكننا نعرف هذا المجد ونُعرّف الناس عليه. "وللَّهِ وأبِينَا المَجْدُ إِلى دَهْرِ الدَّاهِرِين. آمين " (في 4: 20). وينتهي هذا المقطع بكلمة "آمِينَ" فيعطي وزنًا لما قيل من قبل، وهذا ما يجب علينا أن نعرفه. لقد منحنا اللَّه عطية الخلاص وله نُقدم كل إكرام ومجد"(31).
إِلى أَبَدِ الآبِدِينَ آمِينَ.. جاءت كلمة "آمِينَ" على غير العادة في نهاية هذه الفقرة الاستهلالية بدلًا من أن تأتي مع نهاية الرسالة، وكأن بولس الرسول يقول أن هذه الفقرة كافية جدًا لإبلاغ الرسالة المطلوبة، وفعلًا حوت هذه الفقرة بمهارة كبيرة ملخصًا شاملًا للرسالة، ويقول "القديس يوحنا الذهبي الفم": "لن تجد في مقدمة أية رسالة كلمة "آمِينَ" إنما استخدم هذه الكلمة في بداية الرسالة ليُظهر أن ما قاله قبلًا فيه الكفاية من اتهامات الغلاطيين، وأن مجادلاته قد كملت. فإن الخطأ الواضح لا يحتاج إلى تجريم مفصّل. تحدّث (في المقدمة) عن الصليب والقيامة والخلاص من الخطية، وتأمين المستقبل، وغاية الآب، وإرادة الابن، والنعمة والسلام وكل عطاياه الكاملة، خاتمًا كلامه بالتسبيح"(32).
"إِنِّي أَتَعَجَّبُ أَنَّكُمْ تَنْتَقِلُونَ هكَذَا سَرِيعًا عَنِ الَّذِي دَعَاكُمْ بِنِعْمَةِ الْمَسِيحِ إِلَى إِنْجِيل آخَرَ! لَيْسَ هُوَ آخَرَ، غَيْرَ أَنَّهُ يُوجَدُ قَوْمٌ يُزْعِجُونَكُمْ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُحَوِّلُوا إِنْجِيلَ الْمَسِيحِ. وَلكِنْ إِنْ بَشَّرْنَاكُمْ نَحْنُ أَوْ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ بِغَيْرِ مَا بَشَّرْنَاكُمْ فَلْيَكُنْ أَنَاثِيمَا. كَمَا سَبَقْنَا فَقُلْنَا أَقُولُ الآنَ أَيْضًا: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يُبَشِّرُكُمْ بِغَيْرِ مَا قَبِلْتُمْ فَلْيَكُنْ أَنَاثِيمَا. أَفَأَسْتَعْطِفُ الآنَ النَّاسَ أَمِ اللَّهَ؟ أَمْ أَطْلُبُ أَنْ أُرْضِيَ النَّاسَ؟ فَلَوْ كُنْتُ بَعْدُ أُرْضِي النَّاسَ، لَمْ أَكُنْ عَبْدًا لِلْمَسِيحِ" (غل 1: 6 - 10).
وهنا نقف أمام ملاحظتين:
الأولى: في هذه الفقرة بدأ بولس الرسول يستخدم أسلوب المفرد بدلًا من أسلوب الجمع في الفقرة الافتتاحية، فبعد أن أوضح للغلاطيين أنه لا يقف في مواجهة بدعة التهود بمفرده، بل أن جميع الإخوة العاملين معه يؤازرونه، بدأ في هذه الفقرة يفصح عن مشاعره الخاصة.
الثانية: بعد أن إعتاد بولس الرسول على تقديم الشكر للَّه من أجل مخدوميه وتقدمهم الروحي، بعد الفقرة الاستهلالية يفاجئنا هنا بأنه يبدأ رسالته على الفور.
وفي بداية هذه الفقرة يُظهر بولس الرسول علامات التعجُّب من قبول الغلاطيين بدعة التهوُّد بهذه السرعة، وهم لا يدركون أنهم بهذا يتبطّرون على إنجيل النعمة وينحدرون إلى قيود الناموس ولعنته، وكأنهم قد انتقلوا إلى إنجيل آخَر مع أن الإنجيل واحد، ولكن الذي وضعهم في هذا المأزق قبولهم للتفسيرات والتعاليم الخاطئة التي لا تتفق مع روح الإنجيل. ومقابل هذا وقف بولس الرسول موقفًا حازمًا حاسمًا، يحرم كل من يقبل هذه التعاليم الخاطئة حتى لو كان هو نفسه، أو حتى ملاك من السماء، ويكرّر هذا الحرم مرتين " فَلْيَكُنْ أَنَاثِيمَا"، علامة إصراره الكامل على رفض أي تغيير في الإيمان المُسلّم مرة للقديسين، يُعلن أمام الجميع أنه من المستحيل أن يجامل الناس على حساب الإيمان السليم والعقيدة القويمة، ولو تنازل عن مبدأه هذا فهو لا يستحق أن يكون عبدًا للمسيح.
"إِنِّي أَتَعَجَّبُ أَنَّكُمْ تَنْتَقِلُونَ هكَذَا سَرِيعًا عَنِ الَّذِي دَعَاكُمْ بِنِعْمَةِ الْمَسِيحِ إِلَى إِنْجِيل آخَرَ! لَيْسَ هُوَ آخَرَ غَيْرَ أَنَّهُ يُوجَدُ قَوْمٌ يُزْعِجُونَكُمْ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُحَوِّلُوا إِنْجِيلَ الْمَسِيحِ " (غل 1: 6، 7).
إِنِّي أَتَعَجَّبُ أَنَّكُمْ تَنْتَقِلُونَ هكَذَا سَرِيعًا.. الذي يثير عجب الإنسان هو حدوث أمر غريب شاذ غير متوقع، وهذا ما حدث مع بولس الرسول إذ رأى أولاده الذين تمخَّض بهم يرتدون عن الإيمان القويم بهذه السرعة، وفعل " أَتَعَجَّبُ" الذي استخدمه بولس الرسول هنا في الأصل اليوناني يحمل معاني أقوى من التعجب، مثل "أدهش" أو "انذهل"، أو " أُصعق"، وقصد بولس الرسول أن يستخدم هذا الفعل ليُشعِرهم بمدى الخطأ الذي سقطوا فيه فيخجلوا من أنفسهم، وبولس الرسول الذي أوصى تلميذه تيموثاوس قائلًا له: " وَبِّخِ، انْتَهِرْ، عِظْ بِكُلِّ أَنَاةٍ وَتَعْلِيمٍ" (2تي 4: 2) يستخدم نفس الأسلوب هنا مع أهل غلاطية مبتدئًا بداية هادئة بإظهار علامات التعجب، ويقول "القديس يوحنا ذهبي الفم": "هكذا وضع الرسول الغلاطيين أمام قضيتين: هرطقة وانحراف، فيوبّخهم قائلًا: "كيف حدث هذا التحوُّل سريعًا دون أن يحتاج خادعوكم إلى وقت لتنفيذ خططهم، أهكذا يسبونكم بلا جهد؟ نحن نلوم الإنسان كثيرًا إذا ما تحوَّل عن صديقه فكم بالحري أنتم إذ تتحوَّلون عن الذي دعاكم"(33).
ويقول "الخوري بولس الفغالي": "ويبدي بولس دهشته (راجع 2تي 1: 10 دهشة قوية، مت 8: 27، أع 2: 7). ولكن ما الذي يدهشه؟ أولًا، سرعة ما حصل في غلاطية، فانقلاب الغلاطيين لم يكن وليد تطور بطئ تضمن مجادلات معمَّقة مع الرسول، كما حصل له في كورنثوس. بل أن عمل الخصوم وجد تجاوبًا مباشرًا وسريعًا في كنائس غلاطية، وهذا الانقلاب يبدو بشكل انفصال وفك ارتباط: اتهم بولس الغلاطيين بالخيانة، بعد أن فهموا الكرازة البولسية وقبلوها، ها هم يتخلون عنها فجأة وبتأثير خارجي. أنهم يعيشون الآن أزمة حقيقية. إنهم ينتقلون الآن من موقع إلى آخَر.
ولكن عمن ينفصل الغلاطيون؟ مَن هو الذي دعاهم؟ الرسول، اللَّه، أم يسوع المسيح؟ هذا تمييز لا يتوقف عنده الرسول. اللَّه هو الذي يدعو أولًا. ولكن يعبَّر عن هذه الدعوة بالكرازة الرسولية على أساس عمل يسوع المسيح في التاريخ. فإن تخلى الغلاطيون عن بولس، كانوا وكأنهم يتخلون عن كرازته وبالتالي عن المسيح واللَّه..
لقد نسى الغلاطيون عمل اللَّه في يسوع المسيح.. لكي يوجهوا قلوبهم إلى إنجيل آخر. إذًا لسنا أمام خيانة من نوع اللامبالاة والإهمال، بل أمام خطر الجحود. كان الغلاطيون قد سمعوا إنجيل بولس وقبلوه، وهاهم يسمعون إنجيلًا آخَر ويستعدون لقبوله.. نحن أمام كرازة تسمي نفسها "إنجيلية" ولكنها في الواقع تدمر الإنجيل تدميرًا كليًا"(34).
أَنَّكُمْ تَنْتَقِلُونَ هكَذَا سَرِيعًا.. وكلمة " تَنْتَقِلُونَ " المستخدمة هنا هي نفس الكلمة التي اُستخدمت للتعبير عن نقل أخنوخ من الأرض للسماء (عب 11: 5) وأيضًا نقل عظام يوسف من مصر إلى شكيم ( أع 7: 16 )، وهذا يُظهِر اتساع النقلة التي انتقلها الغلاطيون أو التي انحدروا إليها، والانحدار دائمًا ما يكون سريع وشديد، ولذلك قال لهم " سَرِيعًا "، فهو يقول لهم أنكم لم تواجهوا هذا الفكر الفاسد من خلال صراع طويل قد أرهقكم، ولم تستشيروا أباكم الروحي، ولم تلتمسوا المشورة الإلهيَّة من خلال أصوام صادقة وصلوات عميقة، إنما سريعًا ما رفعتم الراية البيضاء، وسلمتم زمام الأمور لهؤلاء المعلمين الكذبة وانسقتم وراءهم. لقد شابهتم الأطفال الذين تسحرهم قطع الحلوى حتى لو كانت في أيدي الأعداء، ولم تفكروا أي نوع من الحلوى هذه، فانجذبتم لهرطقاتهم، وغيرتم أذهانكم وهجرتم إيمانكم القويم، بل صرتم متحمسين لهذه الأفكار الخادعة.
ويقول "الأب متى المسكين": "أما من حيث الغلاطيين الذي وصفهم ق. بولس بالغباء بمعنى عدم الإمساك بالنعمة "ونور" الروح القدس، فهذا يشير إلى أنهم تهاونوا بالعطية العظمة التي نالوها تحت إغراء الحيَّة مرة أخرى في شخص اليهود المتنصّرين الكذبة، الذين أبقوا ولاءهم للناموس وأعماله ورفضوا قوة النعمة ومفاعيلها، فتسرَّب إليهم سُم الحيَّة من أفواه هؤلاء الأخوة الكذبة وسكن أحشاءهم ودخلوا في عملية الانتقال من عمل النعمة إلى عمل الناموس كما ينتقل "الأعمى" من الطريق الصحيح المعبَّد إلى السقوط في حفرة بدفع غاش يأتيه من خلف بيد أعمى مثله، حسب قول الرب: "هَلْ يَقْدِرُ أَعْمَى أَنْ يَقُودَ أَعْمَى؟ أَمَا يَسْقُطُ الاثْنَانِ فِي حُفْرَةٍ" ( لو 6: 39)"(35).
أَنَّكُمْ تَنْتَقِلُونَ هكَذَا سَرِيعًا.. لم يكن قد مرَّ على إيمان الغلاطيين سوى زمن وجيز يتراوح من سنة إلى خمس سنوات، فهم ما زالوا نبتة صغيرة حديثة، تحتاج لرعاية أكبر للحفاظ عليها حتى يشتد عودها فتستطيع أن تواجه الرياح والعواصف.. ولاحظ أن بولس الرسول لم يقل لهم: "قد انتقلتم" بل قال " تَنْتَقِلُونَ" أي أنكم ما زلتم في مرحلة الانتقال لم تنتهوا منها بعد، ولم تسقطوا في شباكهم بالكامل فما زالت هناك الفرصة للنجاة.. تأمل كيف يزن بولس الرسول الأمور ويتخير الألفاظ من أجل رعاية أولاده، فلم يكن هدفه قط تحطيمهم إنما كان هدفه إنقاذهم.
تَنْتَقِلُونَ هكَذَا سَرِيعًا عَنِ الَّذِي دَعَاكُمْ.. إذًا يوجد داعي ومدعوين ودعوة، والداعي هو اللَّه الآب: " وَإِلهُ كُلِّ نِعْمَةٍ الَّذِي دَعَانَا إِلَى مَجْدِهِ الأَبَدِيِّ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ " (1بط 5: 10)، فلن نصل إلى هذا المجد الأبدي بدون نعمة المسيح.. من جهة الداعي فأنه يريد أن الجميع يُخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون، وهو القائل: " اِلْتَفِتُوا إِلَيَّ وَاخْلُصُوا يَاجَمِيعَ أَقَاصِي الأَرْضِ لأَنِّي أَنَا اللَّهُ وَلَيْسَ آخَرَ" (إش 45: 22).. " إِنْ عَطِشَ أَحَدٌ فَلْيُقْبِلْ إِلَيَّ وَيَشْرَبْ" (يو 7: 37) لأن " مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ لاَ أُخْرِجْهُ خَارِجًا" (يو 6: 37). والمدعوون هم العطشى لماء الحياة: " أَيُّهَا الْعِطَاشُ جَمِيعًا هَلُمُّوا إِلَى الْمِيَاهِ وَالَّذِي لَيْسَ لَهُ فِضَّةٌ تَعَالَوْا اشْتَرُوا وَكُلُوا. هَلُمُّوا اشْتَرُوا بِلاَ فِضَّةٍ وَبِلاَ ثَمَنٍ خَمْرًا وَلَبَنًا " (إش 55: 1)، والدعوة هي دعوة للملكوت السمائي، فكان الرب يسوع: "يَكْرِزُ بِبِشَارَةِ مَلَكُوتِ اللَّهِ" (مر 1: 14)، وأرسل تلاميذه ليكرزوا للخليقة كلها (مر 16: 15).
عَنِ الَّذِي دَعَاكُمْ بِنِعْمَةِ الْمَسِيحِ.. قبل الدعوة التعيين وبعد الدعوة التبرير والتمجيد: والَّذِينَ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ، فَهؤُلاَءِ دَعَاهُمْ أَيْضًا. وَالَّذِينَ دَعَاهُمْ، فَهؤُلاَءِ بَرَّرَهُمْ أَيْضًا. وَالَّذِينَ بَرَّرَهُمْ فَهؤُلاَءِ مَجَّدَهُمْ أَيْضًا" (رو 8: 30).. كان الغلاطيون من الأمم الذين انطبقت عليهم نبوّة هوشع النبي: "كَمَا يَقُولُ فِي هُوشَعَ أَيْضًا سَأَدْعُو الَّذي لَيْسَ شَعْبِي شَعْبِي، وَالَّتِي لَيْسَتْ مَحْبُوبَةً مَحْبُوبَةً" (رو 9: 25).. لقد دعانا اللَّه بالمجد والفضيلة: "بِمَعْرِفَةِ الَّذِي دَعَانَا بِالْمَجْدِ وَالْفَضِيلَةِ " (2بط 1: 3) فينبغي أن نسلك فيهما، وأيضًا بموجب هذه الدعوة ينبغي أن نسلك في حياة القداسة: "بَلْ نَظِيرَ الْقُدُّوسِ الَّذِي دَعَاكُمْ، كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضًا قِدِّيسِينَ فِي كُلِّ سِيرَةٍ"(1بط 1: 15).
تَنْتَقِلُونَ.. إِلَى إِنْجِيل آخَرَ.. تنتقلون من إنجيل النعمة إلى الناموس، من دائرة النعمة التي تهب الحياة للخطاة إلى دائرة الناموس الذي عجز أن يهب الحياة للخطاة، ترفضون قبول الخلاص كهبة مجانية من اللَّه، وتسعون للحصول عليها عن طريق الناموس بجهدكم البشري، فتضعون أنفسكم بأنفسكم تحت لعنة الناموس.. لقد أثار هذا حفيظة بولس الرسول حتى أصدر أمره بالحرم لمن يفعل هكذا.
إِلَى إِنْجِيل آخَرَ.. كلمة "إِنْجِيل" باليونانية "إيفنجليون" Evangelion وفي الأصل اليوناني كان يقصد بها المكافأة التي تُمنح لمن يأتي بالخبر الطيب، ثم صارت تعني الأخبار الطيبة أو الأخبار السارة، ثم اقتصر استخدامها على الأخبار السارة المرتبطة بالإنجيل والتي يقدّمها اللَّه للإنسان.. لقد ارتد هؤلاء الغلاطيون عن البشارة المُفرحة السارّة التي بشرهم بها بولس الرسول إلى إنجيل آخَر.
إِلَى إِنْجِيل آخَرَ.. أساء مركيون الهرطقوي فهم هذه العبارة فلم يقبل من البشائر الأربع سوى بشارة لوقا، بعد أن حذف منها ما شاء، كما رفض أسفار العهد القديم والكثير من أسفار العهد الجديد، وادَّعى بعض النُقَّاد غير المسيحيين بأن الإنجيل الآخَر الذي رفضه بولس الرسول هو الإنجيل الحقيقي المفقود، وتغافل هؤلاء النُقَّاد أن الغلاطيين لم يحتجوُّا على الإنجيل الشفاهي الذي بشّرهم به بولس الرسول لكنهم أساءوا تفسيره، ولم يحتجوا على أساسيات الإيمان المسيحي، والتي يرفضها هؤلاء النُقَّاد، مثل التثليث والتوحيد والتجسُّد الإلهي والفداء على عود الصليب.. إلخ، بل كان الخلاف الرئيسي هو هل هناك ضرورة للختان وحفظ الناموس من عدمه.
إِنْجِيل آخَرَ لَيْسَ هُوَ آخَرَ.. الذين يفسرون الإنجيل بطريقة خاطئة كأنهم يكرزون بإنجيل آخَر، والذين يقدِّمون يسوع المسيح للآخرين بطريقة خاطئة كأنهم يقدِّمون يسوع آخَر، وهكذا بالنسبة للروح القدس، وهذا ما أوضحه بولس الرسول في موضع آخَر قائلًا: "فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ الآتِي يَكْرِزُ بِيَسُوعَ آخَرَ لَمْ نَكْرِزْ بِهِ، أَوْ كُنْتُمْ تَأْخُذُونَ رُوحًا آخَرَ لَمْ تَأْخُذُوهُ، أَوْ إِنْجِيلًا آخَرَ لَمْ تَقْبَلُوهُ، فَحَسَنًا كُنْتُمْ تَحْتَمِلُونَ" (2كو 11: 4). إذًا نستطيع أن نقول أن هناك كرازتان مختلفتان أحدهما صحيحة والأخرى خاطئة، ولا يوجد إنجيلان مختلفان، لأن الإنجيل واحد، والإنجيل هو البشارة المفرحة، وليس من المعقول أن يكون هناك بشارة غير مفرحة، فالبشارة من البُشْرَى، والبشرى دائمًا مفرحة، فهي دائمًا إنجيلًا.
إِنْجِيل آخَرَ لَيْسَ هُوَ آخَرَ.. حيث أن اللَّه واحد، فلا بد أن يكون إنجيله واحدًا، وليس إنجيلين متناقضين، فوحدانية اللَّه تفرض وحدانية الإنجيل، وإن تساءل أحد: هل العهد القديم يدخل ضمن الإنجيل؟ نقول له أن الكتاب المقدَّس بعهديه هو كتاب واحد وليس كتابين متضاربين، العهد الجديد مستور في العهد القديم، والعهد القديم مشروح في العهد الجديد، وإن كان العهد الجديد يمثل الشجرة الوارفة، فإن العهد القديم يمثل جذور هذه الشجرة التي لا غنى عنها، وإن كان العهد الجديد يمثل المبنى الشاهق فإن العهد القديم يمثل أساسات هذا المبنى التي لا غنى عنها، وعن الإنجيل الواحد قال بولس الرسول: "لأَنِّي لَسْتُ أَسْتَحِي بِإِنْجِيلِ الْمَسِيحِ، لأَنَّهُ قُوَّةُ اللَّهِ لِلْخَلاَصِ لِكُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ: لِلْيَهُودِيِّ أَوَّلًا ثُمَّ لِلْيُونَانِيِّ" (رو 1: 16)، أما المقصود بالإنجيل الآخَر فهو التعليم الغريب عن روح الإنجيل، إذ جعلوا الختان وأعمال الناموس شرط وأساس للخلاص، وبهذا بخسوا دم المسيح، وكأنه غير كافٍ بمفرده للخلاص.
إِنْجِيل آخَرَ لَيْسَ هُوَ آخَرَ.. سُئل القديس أيريناوس ما هو الخطأ الذي يرتكبه الهراطقة إذا كانوا يسوقون حججهم من آيات الكتاب المقدَّس؟ فقال لو أن هناك فنان بارع (الروح القدس) صنع من قطع الفسيفساء صورة للملك (المسيح)، فجاء فنان آخَر شرير وفكَّك هذه اللوحة الرائعة، واستخدم نفس القطع في عمل صورة لحيوان، فهل نقبل عمله هذا رغم أنه استخدم الوحدات الأولى لصورة الملك؟!.. بالقطع لا، وهذا ما يفعله الهراطقة، ولذلك يجب أن نفهم الإنجيل بحسب مفهوم الكنيسة ونتعلمه بروح التقوى: "إِنْ كَانَ أَحَدٌ يُعَلِّمُ تَعْلِيمًا آخَرَ، وَلاَ يُوافِقُ كَلِمَاتِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ الصَّحِيحَةَ، وَالتَّعْلِيمَ الَّذِي هُوَ حَسَبَ التَّقْوَى، فَقَدْ تَصَلَّفَ، وَهُوَ لاَ يَفْهَمُ شَيْئًا" (1تي 6: 3، 4).
يُوجَدُ قَوْمٌ يُزْعِجُونَكُمْ.. هؤلاء القوم هم الرجال الذين انحدروا من اليهودية إلى أنطاكية وتصدى لهم ونازعهم وباحثهم من قبل بولس الرسول وبرنابا: " وَانْحَدَرَ قَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِيَّةِ وَجَعَلُوا يُعَلِّمُونَ الإِخْوَةَ أَنَّهُ إِنْ لَمْ تَخْتَتِنُوا حَسَبَ عَادَةِ مُوسَى لاَ يُمْكِنُكُمْ أَنْ تَخْلُصُوا. فَلَمَّا حَصَلَ لِبُولُسَ وَبَرْنَابَا مُنَازَعَةٌ وَمُبَاحَثَةٌ لَيْسَتْ بِقَلِيلَةٍ مَعَهُمْ رَتَّبُوا أَنْ يَصْعَدَ بُولُسُ وَبَرْنَابَا وَأُنَاسٌ آخَرُونَ مِنْهُمْ إِلَى الرُّسُلِ وَالْمَشَايخِ إِلَى أُورُشَلِيمَ مِنْ أَجْلِ هذِهِ الْمَسْأَلَةِ" ( أع 15: 1، 2)، وبسببهم اجتمع مجمع أورشليم وأوضح الحقيقة: "إِذْ قَدْ سَمِعْنَا أَنَّ أُنَاسًا خَارِجِينَ مِنْ عِنْدِنَا أَزْعَجُوكُمْ بِأَقْوَال، مُقَلِّبِينَ أَنْفُسَكُمْ، وَقَائِلِينَ أَنْ تَخْتَتِنُوا وَتَحْفَظُوا النَّامُوسَ، الَّذِينَ نَحْنُ لَمْ نَأْمُرْهُمْ" (أع 15: 24)، ووصلت هذه البدعة إلى غلاطية وعمل على نشرها المسيحيون الذين من أصل يهودي، والذي يعتزون بتراثهم اليهودي، فآمنوا بالمسيحية دون أن يتخلوا عن معتقداتهم اليهودية، فأرادوا أن تكون المسيحية امتدادًا لليهودية، وشيعة من شيعها، وهاجموا بولس الرسول الذي تصدى لهم متهمين إياه بأنه ضد ناموس موسى، وألبسوا هرطقتهم ثوب البر، فقال عنهم بولس الرسول: " لأَنَّ مِثْلَ هؤُلاَءِ هُمْ رُسُلٌ كَذَبَةٌ، فَعَلَةٌ مَاكِرُونَ، مُغَيِّرُونَ شَكْلَهُمْ إِلَى شِبْهِ رُسُلِ الْمَسِيحِ. وَلاَ عَجَبَ لأَنَّ الشَّيْطَانَ نَفْسَهُ يُغَيِّرُ شَكْلَهُ إِلَى شِبْهِ مَلاَكِ نُورٍ" (2كو 11: 13-14).
يُوجَدُ قَوْمٌ يُزْعِجُونَكُمْ.. بولس الرسول بحكم خبرته قبل إيمانه بالمسيح، يعرف جيدًا كيف يرتكب الإنسان المتعصب للناموس جرائم بدون وعي وهو مستريح البال، هكذا كان بولس راضيًا بقتل إسطفانوس، وهكذا كان يُوثِق المسيحيين الأبرياء ويزج بهم في السجن، ويقول "الأب متى المسكين": "والقديس بولس.. أدرك أعظم خدعة أوقعه فيها الناموس إذ جعله كالمجنون يضطهد المسيحيين ويتعقبهم رجالًا ونساءً، ويسجن ويقتل ويرجم بدافع من غيرة جامحة على الناموس، معتقدًا أنه بذلك يؤدي خدمة للَّه وواجبًا مقدَّسًا للناموس. وأخيرًا اكتشف أنه واقع في ضلالة خطيرة جعلته يضطهد المسيح نفسه ويؤذي أولاده بل جسده بِاسم الناموس والغيرة على الناموس.. فالقديس بولس إنما يقدّم لهم هذه التوعية كخبير وكمن عاش في هذه الضلالة مخدوعًا تحت غيرة الناموس"(36).
يُوجَدُ قَوْمٌ يُزْعِجُونَكُمْ.. والفعل المستخدم للتعبير عن الإزعاج في الأصل اليوناني يحمل معنى الحيرة والقلق والاضطراب، مثلما اضطرب هيرودس وجميع أورشليم معه (مت 2: 9)، ومثلما اضطرب التلاميذ عندما تعرضوا للغرق (مت 14: 24-26).. هؤلاء القوم يضعونكم في دائرة القلق والاضطراب والانزعاج والبلبلة، ولذلك دعاهم بولس الرسول بالإخوة الكذبة (غل 2: 4)، ففي مظهرهم إخوة لأنهم مسيحيين، وفي حقيقتهم هم كذبة لأنهم لا يحملون الإيمان المسيحي الصحيح، وقد حذر بولس الرسول قسوس كنيسة أفسس من مثل هؤلاء الهراطقة المبتدعين قائلًا: "لأَنِّي أَعْلَمُ هذَا: أَنَّهُ بَعْدَ ذِهَابِي سَيَدْخُلُ بَيْنَكُمْ ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ لاَ تُشْفِقُ عَلَى الرَّعِيَّةِ. وَمِنْكُمْ أَنْتُمْ سَيَقُومُ رِجَالٌ يَتَكَلَّمُونَ بِأُمُورٍ مُلْتَوِيَةٍ لِيَجْتَذِبُوا التَّلاَمِيذَ وَرَاءَهُمْ" (أع 20: 29، 30)، وقال لأهل رومية: " وَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنْ تُلاَحِظُوا الَّذِينَ يَصْنَعُونَ الشِّقَاقَاتِ وَالْعَثَرَاتِ، خِلاَفًا لِلتَّعْلِيمِ الَّذِي تَعَلَّمْتُمُوهُ، وَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ" (رو 16: 17)، وأيضًا حذّر بطرس الرسول من مثل هؤلاء: "كَمَا سَيَكُونُ فِيكُمْ أَيْضًا مُعَلِّمُونَ كَذَبَة،ٌ الَّذِينَ يَدُسُّونَ بِدَعَ هَلاَكٍ" (2بط 2: 1).. هؤلاء وأمثالهم قد سَبق السيد المسيح وحذّر منهم قائلًا: "اِحْتَرِزُوا مِنَ الأَنبِيَاءِ الكَذَبَةِ الَّذِينَ يَأْتُونَكُمْ بِثِيَاب الْحُمْلاَنِ، وَلكِنَّهُمْ مِنْ دَاخِل ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ" (مت 7: 15).
إِنْجِيل الْمسِيحِ.. دُعيَ إنجيل المسيح لأن السيد المسيح هو موضوع الإنجيل، والإنجيل هو البشارة المُفرحة بمصالحة اللَّه للبشرية بواسطة دم المسيح، فدُعيَ الإنجيل ب "إِنْجِيلَ الْمَسِيحِ" (غل 1: 7، في 1: 27)، و"إِنْجِيلِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِ اللَّهِ" (مر 1: 1)، و" إِنْجِيلِ مَجْدِ الْمَسِيحِ" (2كو 4: 4)، و"إِنْجِيلَ ابْنِهِ" (رو 1: 9) و" إِنْجِيلِ اللَّهِ" (رو 1: 1)، كما دُعيَ " إِنْجِيلِ مَجْدِ اللَّهِ" (1تي 1: 11).
"ولكِنْ إِنْ بَشَّرْنَاكُمْ نَحْنُ أَوْ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ بِغَيْرِ مَا بَشَّرْنَاكُمْ، فَلْيَكُنْ أَنَاثِيمَا. كَمَا سَبَقْنَا فَقُلْنَا أَقُولُ الآنَ أَيْضًا: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يُبَشِّرُكُمْ بِغَيْ-رِ مَا قَبِلْتُمْ فَلْيَكُنْ أَنَاثِيمَا" (غل 1: 8، 9).
يَرُد هنا القديس بولس على الذين اتهموه بأنه بعد أن بشرهم في غلاطية بإنجيل النعمة، دون الحاجة للختان وحفظ الناموس، عاد وغيَّر تعاليمه وعقائده، فقال لهم بولس لو أنني فعلت هذا فهذا يعني أنني إنسان غير أمين على الإنجيل، بل إنسان خائن يستوجب القطع من الكنيسة، بل واللعنة أيضًا، وبهذا طبَّق بولس الرسول مبدأ العقوبة والحَرْم على نفسه هو ومن معه. وأيضًا عندما طبَّق القديس بولس الحَرْم على نفسه أولًا، فقد ردَّ على الذين يتهمونه بالتشدُّد وبأن كلامه مُقزّز.
ويقول "الأب متى المسكين": "إذًا فشدة ق. بولس وربما قساوته وتعنيفه وتوبيخه الشديد قد أثمر للجميع ثمر إيمان ومحبة. فلا عتاب على ق. بولس في شدته، بل هو يستحق المديح كمُعلّم مُلهَم يستطيع أن يؤدّب ويكسب من يؤدّبه وهذه نعمة اللَّه عليه، اسمعه يقول: "هَادِمِينَ ظُنُونًا وَكُلَّ عُلْوٍ يَرْتَفِعُ ضِدَّ مَعْرِفَةِ اللَّهِ، وَمُسْتَأْسِرِينَ كُلَّ فِكْرٍ إِلَى طَاعَةِ الْمَسِيحِ، وَمُسْتَعِدِّينَ لأَنْ نَنْتَقِمَ (من الخارجين على الإيمان) عَلَى كُلِّ عِصْيَانٍ، مَتَى كَمِلَتْ طَاعَتُكُمْ (2كو 10: 5، 6)"(37).
وَلكِنْ إِنْ بَشَّرْنَاكُمْ نَحْنُ أَوْ مَلاَكٌ.. لم يقصد بولس الرسول التعالي والتفاخر، ويقول: "القديس يوحنا الذهبي الفم": "تأمل حكمة الرسول، كيف يضم نفسه في الأناثيما حتى يتحاشى الاعتراض بأنه متعالٍ بالمجد الباطل في مدحه لتعليمه الخاص. هنا أيضًا يذكر الملائكة، لأن (المعلمين الكذبة) التجأوا إلى السلطة، أي إلى سلطان يعقوب ويوحنا.. وقد أضاف "مِنَ السَّمَاءِ" عمدًا، لأن الكهنة أيضًا يُدعَون ملائكة"(38).
إِنْ بَشَّرْنَاكُمْ نَحْنُ أَوْ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ.. لقد كان رد فعل بولس الرسول على بدعة التهوُّد قويًا، حتى أنه أصدر حكمه بالحَرْم على من ينادي بهذه البدعة حتى لو كان ملاكًا من السماء، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في صفحات قاموس وتفاسير الكتاب المقدس الأخرى. والملاك النازل من السماء بلا شك يحمل تعاليم السماء، إلاَّ إذا كان بولس الرسول يقصد بالملاك أحد أمرين:
1 أحد الرسل أو الأساقفة كما دعى الرب يسوع الأساقفة في سفر الرؤيا بملائكة الكنائس، فكلمة "مَلاَكٌ" تعني "رسول"، وربما قصد بولس الرسول أن يذكّرهم كيف قبلوه في البداية كملاك: " كَمَلاَكٍ مِنَ اللَّهِ قَبِلْتُمُونِي، كَالْمَسِيحِ يَسُوعَ" (غل 4: 14)، وقال لأهل كورنثوس: "إن كُنْتُ أَتَكَلَّمُ بِأَلْسِنَةِ النَّاسِ وَالْمَلاَئِكَةِ"(1كو 13: 1).
2 الملاك الساقط من السماء أي الشيطان، ولذلك قال: "مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ" ولم يقل "ملاك من اللَّه"، لأن ملاك اللَّه يحمل رسالة اللَّه كما هي بالضبط، وقال بولس الرسول: "ولا عَجَبَ. لأَنَّ الشَّيْطَانَ نَفْسَهُ يُغَيِّر شَكْلَهُ إِلَى شِبْهِ مَلاَكِ نُورٍ" (2كو 11: 14).
إِنْ بَشَّرْنَاكُمْ نَحْنُ أَوْ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ.. سبب شدّة وعنف كلام القديس بولس لأنه يواجه أُناس مكرة كذابين ملتوين، يتمتعون بكاريزما خاصة فيعجب الناس بأشخاصهم ولا ينتبهون لكلماتهم، بينما الكنيسة تؤكد دائمًا على سلامة التعليم قبل شخصية المتكلّم، فكم من أُناس على درجات عالية من الذكاء واللباقة والكياسة وربما من أصحاب الدرجات الكهنوتية الرفيعة، ورغم ذلك ضلّوا الطريق فتاهوا وأتاهوا الآخَرين.
فَلْيَكُنْ أَنَاثِيمَا.. "أَنَاثِيمَا" Anathema كلمة يونانية تعني الحَرم والقطع واللعن، وقد نقلها المترجمون كما هيَ، وجاءت في ترجمة كتاب الحياة "ملعونًا" فأناثيما تدل على الدينونة والهلاك والانفصال عن الكنيسة وعن اللَّه، ويقول "الأب متى المسكين": "وإن كانت الأناثيما تُترجَم بالعربية "حرمًا " فهي مأخوذة من العبرانية herm، وكلمة يحرّم تظهر خطورتها في العهد القديم في حروب اللَّه المقدَّسة، فالذي "يحرِّمونه" في الحرب يعني مباشرة أنهم يهلكونه ويُحرقون كل ما له كما حدث لعخان بن كرمي (يش 7: 1-26).. يفقد نصيبه في الحياة هنا على أيدي الناس وهناك على يد اللَّه، وهي اللعنة بعينها.
فهَهُنا أناثيما تعني فليكن "ملعونًا" أي يفقد نصيبه في الحياة، وهي عكس يكون مباركًا أي تزاد له الحياة بخيراتها الزمنية والأبدية"(39).
فَلْيَكُنْ أَنَاثِيمَا.. في مواجهة بولس الرسول للمعلمين الكذبة يستخدم سلطان الحل والربط كما سلَّمه الرب يسوع لتلاميذه: "الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ كُلُّ مَا تَرْبِطُونَهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَرْبُوطًا فِي السَّمَاءِ، وَكُلُّ مَا تَحُلُّونَهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَحْلُولًا فِي السَّمَاءِ" (مت 18: 18)، ولم يستخدم بولس الرسول هذا السلطان على سبيل الافتخار والكبرياء، ولا التشفّي والانتقام، بل من أجل إنقاذ البنيان الذي أقامه بالتعب والدموع من الانهيار، وليس معنى أن إنسان وقع تحت الحَرْم أن فرصة التوبة قد مرَّت، لأن باب التوبة مفتوح للإنسان طالما قلبه ينبض بالحياة، وعندما قال بطرس لسيمون: "لِتَكُنْ فِضَّتُكَ مَعَكَ لِلْهَلاَكِ، لأَنَّكَ ظَنَنْتَ أَنْ تَقْتَنِيَ مَوْهِبَةَ اللَّهِ بِدَرَاهِمَ" (أع 8: 20) لم يقف عند هذا الحد، بل دعاه للتوبة قائلًا: "فَتُبْ مِنْ شَرِّكَ هذَا، وَاطْلُبْ إِلَى اللَّهِ عَسَى أَنْ يُغْفَرَ لَكَ فِكْرُ قَلْبِكَ" (أع 8: 22).
فَلْيَكُنْ أَنَاثِيمَا.. وعندما استخدم بولس الرسول سلطان الحِل والربط قائلًا: "إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُحِبُّ الرَّبَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ فَلْيَكُنْ أَنَاثِيمَا"(1كو 16: 22) تساءل البعض: وهل الحُب بالإكراه؟.. بالقطع لا، ولكن هذه هي النتيجة الطبيعية لكراهية الرب يسوع ورفض تعاليمه، لأن هذا ليس من روح اللَّه: "لَيْسَ أَحَدٌ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِرُوحِ اللَّهِ يَقُولُ: يَسُوعُ أَنَاثِيمَا" (1كو 12: 3) والذي يفعل هذا يحرم نفسهُ بنفسِهِ من سكنى الملكوت، بل سيسمع صوت ابن اللَّه: "اذْهَبُوا عَنِّي يَا مَلاَعِينُ إِلَى النَّارِ الأَبَدِيَّةِ" (مت 25: 41).
كَمَا سَبَقْنَا فَقُلْنَا.. وهذا الكلام في جوهره لا يختلف عما سبق، فبولس الرسول يصرُّ على رأيه، فيعيد ذات القول الذي قاله من قبل، عندما كان عندهم في غلاطية وقد لاحظ بوادر البدعة، أو عندما ذكره في العدد السابق (غل 1: 8).
إِنْ كَانَ أَحَدٌ يُبَشِّرُكُمْ.. لم يُحدّد شخص معين إنما قال هذا على المُطلق، فأي كائن يبشرهم بغير ما قبلوا سواء كان إنسانًا عاديًا أم رسولًا من الرسل، وفي هذا يَرُدْ على القائلين بأن بطرس ويعقوب ويوحنا يُعلّمون بالختان وحفظ الناموس، فقال لهم حتى لو كان ملاكًا من السماء، يسري عليه ذات الحكم بالحَرْم. فالإنجيل دائمًا وأبدًا أعظم من أي إنسان أو رسول من الرسل، بل وأعظم من أي ملاك مهما علا شأنه.
بِغَيْرِ مَا قَبِلْتُمْ.. لا يطالبهم بولس الرسول بما هو جديد، إنما يطالبهم بالالتزام بما قبلوه، وهذا مبدأ ثابت منذ القِدم، فقال موسى لشعبه: "لاَ تَزِيدُوا عَلَى الْكَلاَمِ الَّذِي أَنَا أُوصِيكُمْ بِهِ وَلاَ تُنَقِّصُوا مِنْه،ُ لِتَحْفَظُوا وَصَايَا الرَّبِّ إِلهِكُمُ الَّتِي أَنَا أُوصِيكُمْ بِهَا" (تث 4: 2).. " كُلُّ الْكَلاَمِ الَّذِي أُوصِيكُمْ بِهِ احْرِصُوا لِتَعْمَلُوهُ. لاَ تَزِدْ عَلَيْهِ وَلاَ تُنَقِّصْ مِنْهُ" (تث 12: 32)، بل أمر بقتل كل من يشجّع على الارتداد سواء كان نبيًا أو أخًا أو حتى سكان مدينة بأكملها (تث 13: 1-17).. وفي سفر الرؤيا جاء التحذير الإلهي قويًا: "إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَزِيدُ عَلَى هذَا، يَزِيدُ اللَّهُ عَلَيْهِ الضَّرَبَاتِ الْمَكْتُوبَةَ فِي هذَا الْكِتَابِ. وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ يَحْذِفُ مِنْ أَقْوَالِ كِتَابِ هذِهِ النُّبُوَّةِ، يَحْذِفُ اللَّهُ نَصِيبَهُ مِنْ سِفْرِ الْحَيَاةِ، وَمِنَ الْمَدِينَةِ الْمُقَدَّسَةِ، وَمِنَ الْمَكْتُوبِ فِي هذَا الْكِتَابِ" (رؤ 22: 18، 19).. يا حسرة على كل نفسٍ بعد أن تقبل غنى الإنجيل ترتد إلى حياة الفقر الروحي!
بِغَيْرِ مَا قَبِلْتُمْ.. في العدد السابق قال: "بِغَيْرِ مَا بَشَّرْنَاكُمْ" وهنا يقول: "بِغَيْرِ مَا قَبِلْتُمْ" وهنا تأكيد على أن ما بشَّرهم به بولس الرسول سابقًا هو هو ما قبلوه قبلًا، وهو هو إنجيل المسيح الصحيح، وكل شيء غيره ويخالفه فمحكوم عليه بالحَرْم واللعنة والدينونة. "أَفَأَسْتَعْطِفُ الآنَ النَّاسَ أَمِ اللَّهَ؟ أَمْ أَطْلُبُ أَنْ أُرْضِيَ النَّاسَ؟ فَلَوْ كُنْتُ بَعْدُ أُرْضِي النَّاسَ، لَمْ أَكُنْ عَبْدًا لِلْمَسِيحِ" (غل 1: 10).
أَفَأَسْتَعْطِفُ الآنَ النَّاسَ أَمِ اللَّهَ؟.. أَفَأَسْتَعْطِفُ الآنَ النَّاسَ؟.. سؤال استنكاري، فهو يستنكر على نفسه استرضاء الناس على حساب اللَّه، وعبارة "أَمِ اللَّهَ" خارجة عن الاستفهام الاستنكاري.. اللَّه: "هُوَ إِلهُنَا، وَنَحْنُ شَعْبُ مَرْعَاهُ وَغَنَمُ يَدِهِ. الْيَوْمَ إِنْ سَمِعْتُمْ صَوْتَهُ فَلاَ تُقَسُّوا قُلُوبَكُمْ" (مز 95: 6، 8).. "اعْلَمُوا أَنَّ الرَّبَّ هُوَ اللَّهُ. هُوَ صَنَعَنَا، وَلَهُ نَحْنُ شَعْبُهُ وَغَنَمُ مَرْعَاهُ " (مز 100: 3). إذًا من المنطقي أن نحب اللَّه ونطيعه ونستعطفه لأنه هو حياتنا، والبُعد عنه وعصيانه هو الموت بعينه.
ويقول "الخوري بولس الفغالي": " أعلن الرسول الحَرْم ضد خصومه، فما أراد أن يساوم، أنه هو هو. لا يستشير إلاَّ اللَّه، ولا يطلب إلاَّ رضى المسيح.. هنا يقدِّم بولس جوابًا على إتهام (لا يذكره هنا بوضوح) نجد صداه في رسائله. اتهموه أنه يمالق الوثنيين، ويقدِّم لهم التسهيلات ليربحهم إليه (1تس 2: 4،6، 2كو 3: 1، 4: 2، 5: 11-12). بدا هذا الاتهام معقولًا في نظر البعض لأن بولس لم يكن يطلب إلاَّ الإيمان كشرط للدخول إلى الكنيسة، وهكذا لم يكن "متطلبًا" مثل الوعاظ الشريعانيين الذين ينادون بالختان..
يقول: هل أحاول أن أرضي الناس أم اللَّه بكرازتي؟ هل أنا بكلامي في خدمة الناس أم في خدمة اللَّه؟ قد يستطيع بولس أن يستعطف تبَّاع الشريعة فيكرز بالشريعة. وقد يستعطف الوثنيين فيكرز بالنعمة. لا يهتم بولس بهؤلاء ولا بأولئك. تعلَّم في مدرسة الكتب المقدَّسة، فعرف أن هناك معارضة أساسية بين رضى الناس وخدمة اللَّه، ففي العهد القديم "عبد اللَّه" محتقر لدى البشر (أناشيد عبد يهوه في إشعياء)"(40).
أَفَأَسْتَعْطِفُ الآنَ النَّاسَ أَمِ اللَّهَ؟.. وضع بولس هذا التساؤل أمام الغلاطيين ليؤكد لهم أن هدفه الأول والأخير هو إرضاء اللَّه أولًا وقبل كل شيء، وهو ما أوضحه لأهل كورنثوس: "لِذلِكَ نَحْتَرِص أَيْضًا.. أَنْ نَكُونَ مَرْضِيِّينَ عِنْدَهُ" (2كو 5: 9)، كما أوضحه أيضًا لأهل تسالونيكي: " بَلْ كَمَا اسْتُحْسِنَّا مِنَ اللَّهِ أَنْ نُؤْتَمَنَ عَلَى الإِنْجِيلِ، هكَذَا نَتَكَلَّمُ، لاَ كَأَنَّنَا نُرْضِي النَّاسَ بَلِ اللَّهَ الَّذِي يَخْتَبِرُ قُلُوبَنَا" (1تس 2: 4).. فقد كان بولس الرسول واضحًا وصريحًا، وهذا ما تعودناه في رجال اللَّه القديسين، فإيليا النبي يصرخ في الشعب قائلًا: "حَتَّى مَتَى تَعْرُجُونَ بَيْنَ الْفِرْقَتَيْنِ؟ إِنْ كَانَ الرَّبُّ هُوَ اللَّهَ فَاتَّبِعُوهُ، وَإِنْ كَانَ الْبَعْلُ فَاتَّبِعُوهُ. فَلَمْ يُجِبْهُ الشَّعْبُ بِكَلِمَةٍ" (1مل 18: 21)، وقال القديس يعقوب: "أَيُّهَا الزُّنَاةُ وَالزَّوَانِي، أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّ مَحَبَّةَ الْعَالَمِ عَدَاوَةٌ ِللَّهِ؟ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مُحِبًّا لِلْعَالَمِ، فَقَدْ صَارَ عَدُوًّا ِللَّهِ" (يع 4: 4).
أَمْ أَطْلُبُ أَنْ أُرْضِيَ النَّاسَ؟.. كثير من العادات الرديئة بدأت بمجاملة الأصدقاء وإرضائهم، فهكذا حدث مع الذين سقطوا في العادات الفاسدة والمفسدة مثل التدخين، ومعاقرة الخمر، والقمار، والإدمان، والسرقة.. إلخ، ومن أجل إرضاء الناس قد يحاول الإنسان أن يتلوَّن بحسب أهوائهم، فيخفي ما لا يرضيهم، ويدّعي أنه يفعل ما يرضيهم، وبهذا يفقد الإنسان مصداقيته وبساطته وضميره النقي.. آه لو جامل يوسف زوجة سيده.. تُرى ماذا كانت النتيجة؟! ولو جامل موسى فرعون وحاشيته.. تُرى ماذا كانت النتيجة؟!.. ولو أرضى الثلاثة فتية القديسين نبوخذنصر ملك بابل.. ماذا كانت النتيجة؟!.. ولو أرضى بولس المتهودين وغض البصر عنهم.. ماذا كانت النتيجة؟!.. ولو أرضى أثناسيوس الأريوسيين.. ماذا كانت النتيجة؟!
أَمْ أَطْلُبُ أَنْ أُرْضِيَ النَّاسَ؟.. هناك قول محبوب: "اصنع محبة لا حربًا".. لكن تُرى هل يستطيع الإنسان أن يحقق هذا في جميع الأحوال؟!.. بالقطع لا،.. فهناك الشياطين والأبالسة والمتشبّسين بشرورهم لا يمكن للإنسان الروحي أن يصنع معهم محبة وسلام، ولذلك حسنًا قال المرنّم: "يَا مُحِبِّي الرَّبِّ أَبْغِضُوا الشَّرَّ" (مز 97: 10) وقال بولس الرسول: "كُونُوا كَارِهِينَ الشَّرَّ، مُلْتَصِقِينَ بِالْخَيْرِ" (رو 12: 9).. الطبيب لا يستطيع أن يتخلّى عن حربه ضد الأمراض والأوبئة، وعلماء البيئة لا يستطيعون أن يتخلوا عن حروبهم ضد التلوث البيئي بشتى صوره، والقضاة لا يمكنهم التخلي عن الحكم على الجرائم والتعديات.
أَمْ أَطْلُبُ أَنْ أُرْضِيَ النَّاسَ؟.. إرضاء الناس ليس هو مقياس نجاح الخادم، وشعبية الخادم الجارفة ليست دليلًا على النجاح الحقيقي، بل أن صنع المعجزات ليس دليلًا على صحة الإيمان.. مقياس النجاح الحقيقي هو الالتزام بكلمة الإنجيل: "بَلْ كَمَا اسْتُحْسِنَّا مِنَ اللَّهِ أَنْ نُؤْتَمَنَ عَلَى الإِنْجِيلِ، هكَذَا نَتَكَلَّمُ، لاَ كَأَنَّنَا نُرْضِي النَّاسَ بَلِ اللَّهَ الَّذِي يَخْتَبِرُ قُلُوبَنَا" (1تس 2: 4).. " إِلَى الشَّرِيعَةِ وَإِلَى الشَّهَادَةِ. إِنْ لَمْ يَقُولُوا مِثْلَ هذَا الْقَوْلِ فَلَيْسَ لَهُمْ فَجْرٌ" (إش 8: 20).
فَلَوْ كُنْتُ بَعْدُ أُرْضِي النَّاسَ لَمْ أَكُنْ عَبْدًا لِلْمَسِيحِ.. يقول بولس الرسول ليس من المعقول بعد أن رأيت يسوع المسيح، وكرَّست حياتي للبشارة بِاسمه، أن أرضي الناس على حساب الحق، ولو أنني فعلت هكذا فلا يمكن أن أكون عبدًا أمينًا للرب يسوع.. في الماضي كنت أرضي رؤساء الكهنة ولكن بجهل: " أَنَا الَّذِي كُنْتُ قَبْلًا مُجَدِّفًا وَمُضْطَهِدًا ومُفْتَرِيًا. وَلكِنَّنِي رُحِمْتُ لأَنِّي فَعَلْتُ بِجَهْل فِي عَدَمِ إِيمَانٍ" (1تي 1: 13)، أمَّا الآن فكل ما يهمني هو إرضاء اللَّه أولًا وأخيرًا، وإن كنت أسعى لإرضاء الجميع فهذا ينحصر في دائرة إرضاء اللَّه لأني صرتُ عبدًا للمسيح ولست عبدًا لأحد.
فَلَوْ كُنْتُ بَعْدُ أُرْضِي النَّاسَ لَمْ أَكُنْ عَبْدًا لِلْمَسِيحِ.. اتهم المعلمون الكذبة بولس الرسول بأنه لم يكن رسولًا حقيقيًا وإنما كان يتظاهر بأنه رسول حقيقي للمسيح، ولهذا فقد سلك مسلكًا سياسيًا متلوّنًا بحسب الموقف لكيما يرضي جميع الأهواء والاتجاهات (1كو 19: 20-22)، فهو ليس له مبدأ ثابت، وهنا يَرُدْ عليهم بولس الرسول أنه لو سعى لإرضاء الناس على حساب الحق فهو لا يستحق أن يكون عبدًا للمسيح، ولو كان يسعى لكسب ود الآخَرين على حساب الحق، فلماذا واجه المتهودين المعلمين الكذبة بهذه الشدة والقوة؟!.. والحقيقة أنه لا يوجد إنسان منصف يستطيع أن يتهم بولس الرسول بأنه كان يتملّق أحد على حساب الحق الإلهي، أو أنه كان يرتضي بالحل الوسط الذي يرضي الناس على حساب المبدأ، أو أنه كان يلعب على حبل خلط السياسة بالدين، لأنه لم يعمل بالسياسة إنما كان صاحب رسالة.
ويقول "الأب متى المسكين": "إن هؤلاء اليهود المتنصرين الغيورين على الناموس والمتمسكين باليهودية وعوايدها يتهمون ق. بولس بأنه جعل الأمم يكرهون الناموس، وأقنعهم بعدم نفع أعمال الناموس والختان، ليس عن حق ولا من اللَّه ولكن بأسلوبه الأدبي الخدَّاع، فهو يبيع الناموس، ويُنكر فضله لإرضاء نفسه وزعامته..
وكان هؤلاء اليهود المتنصرون الغيورون على الناموس يتهمون ق. بولس بأنه تجرّأ وألغى الناموس وأعمال الختانة لكي يرضي الناس ويسهّل الإيمان بالمسيح أمامهم ويجعل الخلاص بالكلام وليس بالعمل.. فيرُد ق. بولس: "وَأَمَّا أَنَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ فَإِنْ كُنْتُ بَعْدُ أَكْرِزُ بِالْخِتَانِ، فَلِمَاذَا أُضْطَهَدُ بَعْدُ؟.. " (غل 5: 11، 12)، وطبعًا كان هؤلاء الإخوة الكذبة يرصدون حركات ق. بولس ليصطادوا ما يهاجمونه به، فقد علموا وربما رأوه وهو يختن تيموثاوس.. (أع 16: 1-3). ولكن كان غرض ق. بولس أن يؤهل تيموثاوس للكرازة بين اليهود أولًا حسب فلسفة ق. بولس: "فَصِرْتُ لِلْيَهُودِ كَيَهُودِيٍّ لأَرْبَحَ الْيَهُودَ" (1كو 9: 20)"(41).
ويقول "القديس يوحنا الذهبي الفم" بلسان بولس الرسول: "واضح أنني أكتب إليكم لا من منطلق حُب السلطة أو لكي أقتني لي تلاميذ، أو حتى لأجد كرامة لديكم، إنما أسعى لأرضي اللَّه لا إنسانًا، وإلاَّ كنتُ قد بقيتُ في توافق مع اليهود أضطهد الكنيسة. إنني قد هجرت وطني ورفقائي وأصدقائي وأنسبائي وكل صيتي، وعوض هذا كله قبلتُ اضطهادات وعداوة ونضالًا ضدي وتهديدات يومية بالموت، هذه جميعها برهان واضح أنني لا أتكلم حبًا في مديح الناس"(42).
ويقول "القديس جيروم": " لقد كفَّ عن إرضاء الناس عندما صار خادم المسيح، جندي المسيح يسير في صيت رديء وصيت حسن (2كو 6: 8).. لا ينتفخ بالمديح، ولا يحطمه التوبيخ. لا يتعالى بالغنى ولا يتقوقع على نفسه بسبب الفقر. يحتقر الفرح والحزن على السواء"(43).
فَلَوْ كُنْتُ بَعْدُ أُرْضِي النَّاسَ لَمْ أَكُنْ عَبْدًا لِلْمَسِيحِ.. عندما يُوضَع الإنسان على المحك والاختيار بين إرضاء الناس وإرضاء اللَّه، ينبغي أن يملك الشجاعة الكافية والسريعة لاختيار إرضاء اللَّه على حساب إرضاء الناس وليس العكس، هكذا كان موقف الآباء الرسل: " يَنْبَغِي أَنْ يُطَاعَ اللَّهُ أَكْثَرَ مِنَ النَّاسِ" (أع 5: 29)، ودفع كل منهم حياته ثمنًا للثبات على المبدأ.
فَلَوْ كُنْتُ بَعْدُ أُرْضِي النَّاسَ.. لا أحد يستطيع أن يُنكر أن بولس الرسول كان يسعى لإرضاء الناس على حساب نفسه: "يَجِبُ عَلَيْنَا نَحْنُ الأَقْوِيَاءَ أَنْ نَحْتَمِلَ أَضْعَافَ الضُّعَفَاءِ، وَلاَ نُرْضِيَ أَنْفُسَنَا"(رو 15: 1).. "كَمَا أَنَا أَيْضًا أُرْضِي الْجَمِيعَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، غَيْرَ طَالِبٍ مَا يُوَافِقُ نَفْسِي، بَلِ الْكَثِيرِينَ، لِكَيْ يَخْلُصُوا" (1كو 10: 33).. "فَإِنِّي إِذْ كُنْتُ حُرًّا مِنَ الْجَمِيعِ، اسْتَعْبَدْتُ نَفْسِي لِلْجَمِيعِ لأَرْبَحَ الأَكْثَرِينَ. فَصِرْتُ لِلْيَهُودِ كَيَهُودِيٍّ لأَرْبَحَ الْيَهُودَ. وَلِلَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ كَأَنِّي تَحْتَ النَّامُوسِ لأَرْبَحَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ.. " (1كو 9: 19 - 22)، ولكن بولس الرسول حرص دائمًا وأبدًا أن يكون إرضاء الناس داخل دائرة إرضاء اللَّه: "فَلْيُرْضِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا قَرِيبَهُ لِلْخَيْرِ لأَجْلِ الْبُنْيَانِ" (رو 15: 2)، فشرط إرضاء القريب أن يكون للخير وللبنيان.
لَمْ أَكُنْ عَبْدًا لِلْمَسِيحِ.. في ذلك العصر الذي كتب فيه معلمنا بولس الرسول هذه الرسالة كانت البلاد تموج بالعبيد والإماء، وهو يدرك تمامًا أنه ليس للعبد أي مشيئة خاصة، فهو ملك سيده ويفعل مشيئة سيده، وهكذا اشتهى بولس الرسول العبودية للمسيح: " وَلكِنَّنِي لَسْتُ أَحْتَسِبُ لِشَيْءٍ، وَلاَ نَفْسِي ثَمِينَةٌ عِنْدِي، حَتَّى أُتَمِّمَ بِفَرَحٍ سَعْيِي وَالْخِدْمَةَ الَّتِي أَخَذْتُهَا مِنَ الرَّبِّ يَسُوعَ، لأَشْهَدَ بِبِشَارَةِ نِعْمَةِ اللَّهِ" (أع 20: 24)، بل كان بولس الرسول يشعر أنه ليس مجرد عبد بل أسير، وظروف الأسير أشد وأصعب من الظروف التي يعيشها العبد الذي ربما يتمتع بألفة ومودة مع سيده، فقال: "أَنَا بُولُسُ، أَسِيرُ الْمَسِيحِ يَسُوعَ" (أف 3: 1).. " فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ، أَنَا الأَسِيرَ فِي الرَّبِّ" (أف 4: 1)، أي أنه رهن إشارة السيد المسيح، وفعلًا نجح بولس الرسول الذي تخلّى تمامًا عن مشيئته الخاصة أن يكن عبدًا أمينًا وأسيرًا ليسوع المسيح الذي رفعه إلى مصاف الرسل، وائتمنه على إنجيل الغرلة.
"وَأُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ الإِنْجِيلَ الَّذِي بَشَّرْتُ بِهِ، أَنَّهُ لَيْسَ بِحَسَبِ إِنْسَانٍ. لأَنِّي لَمْ أَقْبَلْهُ مِنْ عِنْدِ إِنْسَانٍ وَلاَ عُلِّمْتُهُ. بَلْ بِإِعْلاَنِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. فَإِنَّكُمْ سَمِعْتُمْ بِسِيرَتِي قَبْلًا فِي الدِّيَانَةِ الْيَهُودِيَّةِ، أَنِّي كُنْتُ أَضْطَهِدُ كَنِيسَةَ اللَّهِ بِإِفْرَاطٍ وَأُتْلِفُهَا. وَكُنْتُ أَتَقَدَّمُ فِي الدِّيَانَةِ الْيَهُودِيَّةِ عَلَى كَثِيرِينَ مِنْ أَتْرَابِي فِي جِنْسِي، إِذْ كُنْتُ أَوْفَرَ غَيْرَةً فِي تَقْلِيدَاتِ آبَائِي. وَلكِنْ لَمَّا سَرَّ اللَّهَ الَّذِي أَفْرَزَنِي مِنْ بَطْنِ أُمِّي، وَدَعَانِي بِنِعْمَتِهِ. أَنْ يُعْلِنَ ابْنَهُ فِيَّ لأُبَشِّرَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، لِلْوَقْتِ لَمْ أَسْتَشِرْ لَحْمًا وَدَمًا وَلاَ صَعِدْتُ إِلَى أُورُشَلِيمَ، إِلَى الرُّسُلِ الَّذِينَ قَبْلِي بَلِ انْطَلَقْتُ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ رَجَعْتُ أَيْضًا إِلَى دِمَشْقَ" (غل 1: 11 - 17).
في هذه الفقرة يُشدّد بولس الرسول على أن الإنجيل الذي بشَّر به أهل غلاطية لم يتسلّمه من إنسان، بل تسلّمه من الرب يسوع رأسًا، وقدَّم الدليل على هذا، وهو تغيُّر سلوكه إلى النقيض، فبعد أن كان يضطهد الكنيسة بإفراط وجنون يوثق رجالًا ونساءً ويزج بهم داخل السجون، معتبرًا أن يسوع الناصري مُضلًا، وقد وضع في نفسه أن يقضي على هذه الضلالة لمجد اللَّه، وفعل في سبيل ذلك ما فعل، ولكنه فجأة تحوَّل إلى النقيض، إذ صار يكرز ويبشّر بيسوع المسيح مُخلصًا، ويُعلّم بكفاية خلاص المصلوب لجميع البشرية بعيدًا عن الختان وحفظ الناموس، ويُعلن بولس الرسول هنا اختيار اللَّه له وهو في بطن أمه، وكيف أطال أناته عليه كثيرًا، حتى أُستعلن له وهو على أبواب دمشق، ودعاه للبشارة بِاسمه، فأطاع شاول على الفور دون أن يستشير لحمًا ودمًا.
"وَأُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ الإِنْجِيلَ الَّذِي بَشَّرْتُ بِهِ، أَنَّهُ لَيْسَ بِحَسَبِ إِنْسَانٍ. لأَنِّي لَمْ أَقْبَلْهُ مِنْ عِنْدِ إِنْسَانٍ وَلاَ عُلِّمْتُهُ. بَلْ بِإِعْلاَنِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (غل 1: 11، 12).
وَأُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ.. أراد بولس الرسول بهذه العبارة أن ينبّه أولاده ويجذب مسامعهم وأنظارهم، ويستدعي عقولهم وأذهانهم للإصغاء لما سيقول، لأنه سيخبرهم بأمر في غاية الأهمية، وكأنه سيحكي لهم فصلًا خطيرًا من قصة رائعة، ربما كانوا يجهلون ما سيقوله بولس لهم تمامًا، وربما يعرفونه، ولكن معرفتهم به لم تكن يقينية، وسواء هذا أو ذاك فإن بولس الرسول أراد أن يُسكِن في أذهانهم حقيقة هامة جدًا وخطيرة، وبناءً عليها يتوقّف خلاصهم.
وَأُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ.. يشعرهم بقربه منهم ومعزّته لهم، وأراد بولس الرسول أن يضرب على هذا الوتر، ولذلك تجده يذكر هذا التعبير " أَيُّهَا الإِخْوَةُ" مرارًا وتكرارًا (غل 1: 11، 3: 15، 4: 28، 4: 31، 5: 13، 6: 1)، بل يقول: " أَتَضَرَّعُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ" (غل 4: 12)، وفي موضع آخر يدعوهم بأولاده: "يَا أَوْلاَدِي الَّذِينَ أَتَمَخَّضُ بِكُمْ أَيْضًا إِلَى أَنْ يَتَصَوَّرَ الْمَسِيحُ فِيكُمْ" (غل 4: 19).. لقد رفعهم بولس الرسول من رتبة البنين إلى رتبة الإخوة، فهذا ما تعلّمه من سيده الذي: "لاَ يَسْتَحِي أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِخْوَةً، قَائِلًا أُخَبِّرُ بِاسْمِكَ إِخْوَتِي، وَفِي وَسَطِ الْكَنِيسَةِ أُسَبِّحُكَ"(عب 2: 11، 12)، وقال للمجدلية: "اذْهَبِي إِلَى إِخْوَتِي وَقُولِي لَهُمْ.. " (يو 20: 17).
وَأُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ الإِنْجِيلَ الَّذِي بَشَّرْتُ بِهِ.. كرازة وبشارة بولس الرسول دعاها إنجيلًا ليس في هذا الموضع فقط بل في مواضع أخرى، فمثلًا قال لأهل كورنثوس: "وَأُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ بِالإِنْجِيلِ الَّذِي بَشَّرْتُكُمْ بِهِ وَقَبِلْتُمُوهُ وَتَقُومُونَ فِيهِ. وَبِهِ أَيْضًا تَخْلُصُونَ" (1كو 15: 1، 2)، فهوذا يمدح الكورنثوسيين لتمسكهم بالإنجيل وثباتهم فيه، وقال لأهل رومية: "لأَنِّي لَسْتُ أَسْتَحِي بِإِنْجِيلِ الْمَسِيحِ، لأَنَّهُ قُوَّةُ اللَّهِ لِلْخَلاَصِ" (رو 1: 16).
الإِنْجِيلَ الَّذِي بَشَّرْتُ بِهِ.. فإنجيل بولس، إنجيل النعمة الذي بشّر به، هو موضوع هذه الرسالة بالكامل وهدفها، والإنجيل هو صوت اللَّه عبر العصور والأزمان، فهو الصوت الذي نادى أبينا آدم بعد سقوطه: " أَيْنَ أَنْتَ" (تك 3: 9)، وهو الذي نطق بصوت إشعياء النبي: "هَلُمَّ نَتَحَاجَجْ، يَقُولُ الرَّبُّ. إِنْ كَانَتْ خَطَايَاكُمْ كَالْقِرْمِزِ تَبْيَضُّ كَالثَّلْجِ. إِنْ كَانَتْ حَمْرَاءَ كَالدُّودِيِّ تَصِيرُ كَالصُّوفِ" (إش 1: 18).. والإنجيل هو محور وجوهر كرازة الآباء الرسل جميعًا: "اذْهَبُوا إِلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا" (مر 16: 15)، والإنجيل هو كرازة بولس الرسول للعالم أجمع: " وَلكِنَّنِي لَسْتُ أَحْتَسِبُ لِشَيْءٍ وَلاَ نَفْسِي ثَمِينَةٌ عِنْدِي حَتَّى أُتَمِّمَ بِفَرَحٍ سَعْيِي وَالْخِدْمَةَ الَّتِي أَخَذْتُهَا مِنَ الرَّبِّ يَسُوعَ لأَشْهَدَ بِبِشَارَةِ نِعْمَةِ اللَّهِ" (أع 20: 24).
لَيْسَ بِحَسَبِ إِنْسَانٍ.. هذا الإنجيل ليس من صنع ولا اكتشاف الإنسان، ولا يستطيع عقل بشري أن يصل إلى أعماق الإنجيل وأغواره، أو يكتشف كل حقائقه وبركاته ويقول "الدكتور القس غبريال رزق اللَّه": "ليس ولا قطرة من بحره الذي لا قرار لعمقه، ولا نقطة في محيطه الذي لا حد لاتساعه، ولا شرارة من ناره التي لا رادع للهيبها، ولا قبس من نوره الذي لا نهاية لضيائه، ليس من تفكير إنسان أو اختراع بشر. ومَن من الناس، ولو وصل بهم علمهم إلى القمر أو إلى غيره من كواكب الجَلَد، مَن منهم يستطيع البلوغ إلى حكمة ليست من هذا الدهر؟!"(44).
أَنِّي لَمْ أَقْبَلْهُ مِنْ عِنْدِ إِنْسَانٍ وَلاَ عُلِّمْتُه.. فالمتهوّدون ادَّعوا أن بولس تسلّم الإنجيل من بطرس الرسول الذي علّمه إياه، ولهذا شدَّد بولس الرسول القول بأنه لم يقبل الإنجيل من أي إنسان، ولم يتعلّمه من أي إنسان، لا من بطرس الرسول ولا من أي رسول من الآباء الرسل.. سبق بولس وتعلم الناموس والشريعة على يد غمالائيل (أع 22: 3)، أما الإنجيل فلم يتعلَّمهُ من أي إنسان قط.
أَنِّي لَمْ أَقْبَلْهُ مِنْ عِنْدِ إِنْسَانٍ.. وهذا العبارة صدى للآية الأولى: " بُولُسُ رَسُولٌ لاَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ بِإِنْسَانٍ" (غل 1: 1)، وأوضح هذه الحقيقة أيضًا لأهل كورنثوس قائلًا: "فَإِنَّنِي سَلَّمْتُ إِلَيْكُمْ فِي الأَوَّلِ مَا قَبِلْتُهُ أَنَا " (1كو 15: 3).. "لأَنَّنِي تَسَلَّمْتُ مِنَ الرَّبِّ مَا سَلَّمْتُكُمْ أَيْضًا" (1كو 11: 23).. لم يكن الإنجيل الذي بشَّر به بولس الرسول مجرد أخبار لقَّنها له الآخرون، أو قصة سمعها من الآخرين، فهو لم يتسلَّم الإنجيل مكتوبًا ولا مسموعًا من أحد، بل تسلَّمه من اللَّه مباشرة.
الإِنْجِيلَ الَّذِي بَشَّرْتُ بِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَسَبِ إِنْسَانٍ.. وخير دليل على أن بولس لم يتسلَّم الإنجيل من الآباء الرسل ولا تعلّمه من بطرس الرسول، أنه كرز بإنجيل خاليًا من أعمال الناموس ومطالبه، بينما كان الآباء الرسل في أورشليم لم يمنعوا المؤمنين من الختان وتنفيذ مطالب الناموس.. كان بولس الرسول أول إنسان يهودي يجاهر بعدم نفع الختان ولا حاجة لحفظ مطالب الناموس، وهو الذي أعلن قبول اللَّه للأمم لأنهم شركاء في الميراث السمائي (أف 3: 4 - 6، كو 1: 25 - 27) (راجع الأب متى المسكين - رسالة القديس بولس الرسول إلى أهل غلاطية ص 102 - 104).
وَلاَ عُلِّمْتُه.. من الذي علَّم بولس أسرار الإنجيل؟.. من الذي علَّمه سر التثليث والتوحيد، وسر التجسُّد الإلهي، وسر الفداء العظيم، وسر قبول اللَّه للأمم؟!.. لم يتعلَّم بولس الرسول هذه الأسرار وحقائق الإيمان من إنسان، ولم يتتلمذ على يد إنسان، بل تعلّم من السيد المسيح رأسًا خلال خلوته لمدة ثلاث سنوات في العربية، وهي تقابل سنوات تلمذة الرسل الاثني عشر، فتعلَّم بولس الرسول الحق كله.
بَلْ بِإِعْلاَنِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ.. وهذه العبارة أيضًا صدى للآية الأولى: " بَلْ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ وَاللَّهِ الآبِ" (غل 1: 1)، كما قال لأهل أفسس: "أَنَّهُ بِإِعْلاَنٍ عَرَّفَنِي بِالسِّرِّ"(أف 3: 3).. قدم بولس الرسول موقفًا سلبيًا وآخَر إيجابيًا، الموقف السلبي أنه لم يقبل الإنجيل ولم يتعلَّمه من إنسان، والموقف الإيجابي أنه تسلَّم الإنجيل بإعلان خاص من الرب يسوع كقوله لأهل كورنثوس عن مجد الملكوت: "فَأعْلَنَهُ اللَّهُ لَنَا نَحْنُ بِرُوحِهِ" (1كو 2: 10)، فقد أعلن الرب يسوع ذاته لبولس الرسول أكثر من مرة، تارة بصورة قوية صادمة على أبواب دمشق، وتارة بصورة هادئة في هيكل أورشليم، ودائمًا كان يُعلِن لبولس أسراره، حتى أنه أخذه إلى السماء الثالثة فرأى ما لم تره عين، وما لم تسمع به أُذن وما لا يخطر على قلب بشر.
" فَإِنَّكُمْ سَمِعْتُمْ بِسِيرَتِي قَبْلًا فِي الدِّيَانَةِ الْيَهُودِيَّة،ِ أَنِّي كُنْتُ أَضْطَهِدُ كَنِيسَةَ اللَّهِ بِإِفْرَاطٍ وَأُتْلِفُهَا. وَكُنْتُ أَتَقَدَّمُ فِي الدِّيَانَةِ الْيَهُودِيَّةِ عَلَى كَثِيرِينَ مِنْ أَتْرَابِي فِي جِنْسِي، إِذْ كُنْتُ أَوْفَرَ غَيْرَةً فِي تَقْلِيدَاتِ آبَائِي" (غل 1: 13، 14).
فَإِنَّكُمْ سَمِعْتُمْ بِسِيرَتِي قَبْلًا.. كلمة "سيرة " في الأصل اليوناني تحمل معنى السير والسلوك والتصرُّف بين الناس في هذه الحياة، فهي تصف السلوك الأدبي وطريقة الحياة كقول معلمنا بطرس الرسول: "بَلْ نَظِيرَ الْقُدُّوسِ الَّذي دَعَاكُمْ كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضًا قِدِّيسِينَ فِي كُلِّ سِيرَةٍ.. فَسِيرُوا زَمَانَ غُرْبَتِكُمْ بِخَوْفٍ" (1بط 1: 15، 17).. كان بولس الرسول مشهورًا ذائع الصيت، سُمعَته قد عمت الآفاق، ولاسيما بسبب عنفه الشديد مع أتباع المسيح، حتى أن اسمه كان يثير الرعب في قلوب الكثيرين (أع 9: 13)، وقال هو عن نفسه للملك أغريباس: " فَسِيرَتِي مُنْذُ حَدَاثَتِي الَّتِي مِنَ الْبُدَاءَةِ كَانَتْ بَيْنَ أُمَّتِي فِي أُورُشَلِيمَ يَعْرِفُهَا جَمِيعُ الْيَهُودِ" (أع 26: 4)، فقصة إيمان شاول، ذاك الرجل الذي فاضت حياته بالتعصُّب الأعمى، لم تكن بالأمر الهين، بل تناقلتها الأخبار اليهودية والمسيحية على السواء من مجمع إلى آخَر، من كنيسة إلى أخرى، فلا بد أن يهود غلاطية قد سمعوا عنه، وعندما كان هو عندهم غالبًا ما حكى لهم عن سيرته الأولى وقصة تحوُّله العجيب، غير أن المتهوّدين اتخذوا من نقطة اضطهاده للكنيسة ذريعة لزعزعة الثقة فيه، فقالوا: كيف لنا أن نثق بإنسان سبق له واضطهد الكنيسة بإفراط؟! ثم أنه رسول من الدرجة الثانية، فهو لم يكن من الاثني عشر رسولًا تلاميذ المسيح.
فَإِنَّكُمْ سَمِعْتُمْ بِسِيرَتِي قَبْلًا فِي الدِّيَانَةِ الْيَهُودِيَّةِ.. كلمة "ديانة" تكرَّرت في العددين 13، 14، فهل اليهودية ديانة والمسيحية ديانة أخرى؟! وكيف يوجد ديانتان نابعتان من اللَّه الواحد؟!.. بما أن اللَّه واحد فلا بد أن يكون الدين واحد، فوحدانية اللَّه تفرض وحدانية الديانة، والحقيقة أن المسيحية هي امتداد لليهودية واستكمال لها، اليهودية هي جذور شجرة المسيحية الوارفة الممتدة فروعها للسماء، ولذلك جُمِعت الأسفار العتيقة والحديثة في كتابٍ واحدٍ على نفس الدرجة من القداسة، ودُعيت جميعها بالكتاب المقدَّس، لا يوجد تعارض بين أسفار العهد الجديد وأسفار العهد القديم، ولا تناقض بين رجال العهد الجديد ورجال العهد القديم، لأن اللَّه واحد، وهو الذي قال: "لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ" (مت 5: 17).. كان بولس الرسول يريد أن ينقل لنا وجهة النظر اليهودية المتطرفة، وكأن اضطهاد كنيسة اللَّه مرتبط بالتقدُّم في الديانة اليهودية، وكلما كان الإنسان اليهودي متدينًا كلما اضطهد كنيسة اللَّه بإفراط وأتلفها، وكأن الأمران صنوان لا يفترقان، وكأن المسيحية عدو لدود لليهودية.. هذه هي نظرة اليهود المتطرفين: "الْيَهُودِ الَّذِينَ قَتَلُوا الرَّبَّ يَسُوعَ وَأَنْبِيَاءَهُمْ وَاضْطَهَدُونَا نَحْنُ. وَهُمْ غَيْرُ مُرْضِينَ ِللَّهِ وَأَضْدَادٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ" (1تس 2: 14، 15).
أَنِّي كُنْتُ أَضْطَهِدُ كَنِيسَةَ اللَّهِ بِإِفْرَاطٍ.. وقد أوضح القديس لوقا وبولس نفسه هذه الحقيقة بأجلى بيان:
أ - كان بولس حاضرًا رجم إستفانوس وراضيًا بقتله (أع 7: 58)، وقال بولس الرسول للرب يسوع: "يَا رَبُّ هُمْ يَعْلَمُونَ أَنِّي كُنْتُ أَحْبِسُ وَأَضْرِبُ فِي كُلِّ مَجْمَعٍ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِكَ. وَحِينَ سُفِكَ دَمُ اسْتِفَانُوسَ شَهِيدِكَ كُنْتُ أَنَا وَاقِفًا وَرَاضيًا بِقَتْلِهِ وَحَافِظًا ثِيَابَ الَّذِينَ قَتَلُوهُ" (أع 22: 19، 20).
ب- كان شاول يسطو على الكنيسة كلص: " وَأَمَّا شَاوُلُ فَكَانَ يَسْطُو عَلَى الْكَنِيسَةِ وَهُوَ يَدْخُلُ الْبُيُوتَ وَيَجُرُّ رِجَالًا وَنِسَاءً وَيُسَلِّمُهُمْ إِلَى السِّجْنِ" (أع 8: 3).
ج - " أَمَّا شَاوُلُ فَكَانَ لَمْ يَزَلْ يَنْفُثُ تَهَدُّدًا وَقَتْلًا عَلَى تَلاَمِيذِ الرَّبِّ" (أع 9: 1).
د - " فَأَجَابَ حَنَانِيَّا: يَا رَبُّ، قَدْ سَمِعْتُ مِنْ كَثِيرِينَ عَنْ هذَا الرَّجُلِ، كَمْ مِنَ الشُّرُورِ فَعَلَ بِقِدِّيسِيكَ في أُورُشَلِيمَ" (أع 9: 13).
ه- قال بولس لليهود الذين أرادوا قتله: "واضْطَهَدْتُ هذَا الطَّرِيقَ حَتَّى الْمَوْتِ، مُقَيِّدًا ومُسَلِّمًا إِلَى السُّجُونِ رِجَالًا وَنِسَاءً، كَمَا يَشْهَدُ لِي أَيْضًا رَئِيسُ الْكَهَنَةِ وَجَمِيعُ الْمَشْيَخَةِ" (أع 22: 4، 5).
و- قال بولس للملك أغريباس: "وفَعَلْتُ ذلِكَ أيضًا فِي أُورُشَلِيمَ، فَحَبَسْتُ فِي سُجُونٍ كَثِيرِينَ مِنَ الْقِدِّيسِينَ، آخِذًا السُّلْطَانَ مِنْ قِبَلِ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ. وَلَمَّا كَانُوا يُقْتَلُونَ أَلْقَيْتُ قُرْعَةً بِذلِكَ"(أع 26: 10).
ز- قال بولس الرسول لأهل كورنثوس: "لأنِّي أَصْغَرُ الرُّسُلِ، أنا الَّذِي لَسْتُ أَهْلًا لأَنْ أُدْعَى رَسُولًا، لأَنِّي اضْطَهَدْتُ كَنِيسَةَ اللَّهِ" (1كو 15: 9).
ح- قال بولس لتلميذه تيموثاوس: "أنا الذي كنتُ قبلًا مُجدِّفًا ومُضْطَهِدًا ومفتريًا" (1تي 1: 13).
أَنِّي كُنْتُ أَضْطَهِدُ كَنِيسَةَ اللَّهِ بِإِفْرَاطٍ وَأُتْلِفُهَا.. وكلمة "أَضْطَهِدُ" التي استخدمها بولس الرسول هنا هي نفس الكلمة التي استخدمها السيد المسيح عندما قال له: " شاول شاول لماذا تضطهدني"، وقول بولس " كَنِيسَةَ اللَّه" يُظهر بشاعة خطيته فهو كان يضطهد اللَّه في شكل كنيسته، وهذا ما سمعه من فم ابن اللَّه، وقول " أُتْلِفُهَا" فإن الإتلاف يدخل تحت مظلته الإبادة والتدمير والخراب والدمار كما يدخل الجيش المنتصر المدينة المنهزمة فيتلفها، ويُعلّق "وليم باركلي" على هذا قائلًا: " والكلمة (أتلفها) التي يُعبّر بها عن هذه الحقيقة هي الكلمة التي تُعبّر عن سلب المدينة تمامًا. لقد حاول أن يحرث الأرض التي كانت الكنيسة قائمة عليها. أما الآن فقد أصبح الهدف الواحد الذي لأجله كان مستعدًا أن يبذل نفسه حتى الموت، هو أن تنتشر الكنيسة في كل بقاع العالم. وكل مجهود يجب أن يكون له سبب مناسب، فعندما يندفع الإنسان بكل قوته في اتجاه، ثم يتحوَّل فجأة ويندفع في الاتجاه المضاد تمامًا، وعندما تتغيَّر القيم في حياة أي إنسان، فتنقلب رأسًا على عقب، فيجب أن يكون هناك تفسير مناسب لذلك. وكان التفسير بالنسبة لبولس الرسول هو تدخُّل اللَّه المباشر. لقد استقرت يد اللَّه على كتف بولس الرسول وكأنه ألقى القبض عليه وهو في أوج نشاطه هذا"(45).
ويقول "الأب متى المسكين": "القديس بولس لم يذكر هنا مفردات مغامراته المريعة التي روَّع بها المسيحيين في كل أورشليم وما حواليها حتى أفرغ أورشليم كلها من المسيحيين. ولما وجد أن حقده لم يسترح، أخذ يتعقّبهم في البلاد البعيدة، فشدَّ الرحال متجهًا نحو دمشق، ولكنه اكتفى بتصوير الاضطهاد أنه بإفراط.. أي أكثر من الحدود المعقولة أو أكثر من كل قياس. ولم يكتفِ بالإفراط في الاضطهاد ولكنه أضاف النية الداخلية في هذه العملية الخطيرة، وهي إتلاف الكنيسة، والإتلاف هنا.. يعني به أن يفرغ الكنيسة ممن فيها"(46).
كُنْتُ أَضْطَهِدُ كَنِيسَةَ اللَّهِ بِإِفْرَاطٍ وَأُتْلِفُهَا.. إنها ذكريات مؤلمة للغاية يتذكرها بولس الرسول بآسى بالغ وألم شديد وخجل كبير، ودماء الأبرياء تتناثر أمام عينيه، ولولا أن الرب مدَّ يده وشفى بولس من جراحات نفسه ومن تلك الذكريات الأليمة لحطمته تحطيمًا.. فلماذا يعيد بولس الرسول ذكرها مرارًا وتكرارًا؟!.. إنها الدليل العملي الذي يقدِّمه للغلاطيين وغيرهم على صحة الإنجيل الذي بشَّر به، وأن هذا الإنجيل سماويًا ولم يتسلّمه بيد بشرية، فكونه ينتقل من الشيء إلى نقيضه بصورة صارخة مفاجئة معجزية بدون سابق إنذار وبدون مقدمات، فلا بد أن وراء هذا أمرًا عظيمًا، وفعلًا كان هذا الأمر العظيم هو استعلان ابن اللَّه له ونوره أشد بهاءً من نور الشمس، فهذا هو الدليل الأول الذي يقدمه بولس الرسول على صحة إنجيله، وأرفق به الدليل الثاني وهو مع أنه كان يعيش يهوديًا فريسيًا متزمتًا متعصبًا غيورًا على دينه وتقليدات آبائه، فإذ به ينادي بإنجيل خلا تمامًا من هذه النظرة المتطرفة، بل تصل به الجرأة إلى قوله: " هَا أَنَا بُولُسُ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ إِنِ اخْتَتَنْتُمْ لاَ يَنْفَعُكُمُ الْمَسِيحُ شَيْئًا" (غل 5: 2).
ويقول " ماكدويل": "فقد كان بولس، سواء بالولادة أو بالتدريب، متعمقًا في الديانة اليهودية. وباختباره الشخصي أصبح مضطهدًا كبيرًا للكنيسة. وقد تخطّى كثير من أبناء جيله اليهود إذ كان أوفر غيرة في تقليدات الآباء. لذلك فإن إنجيل الخلاص الذي ينادي به بمعزل عن الناموس لا يمكن أن نعزوه لجهل منه بالناموس. لماذا إذًا أسقطه من رسالته؟ لماذا تناقض إنجيله مع خلفيته وميوله الطبيعية وكامل تربيته الدينية؟ السبب البسيط هو أن الإنجيل لم يكن من إنتاجه الفكري بل أُعطي له مباشرة من عند اللَّه"(47). ثم يقدِّم بولس الرسول دليلًا ثالثًا على صحة إنجيله وهو قبول الآباء الرسل له وإعطائه يمين الشركة، موقنين أن اللَّه قد ائتمنه على إنجيل الغرلة للأمم، كما ائتمن بطرس على إنجيل الختان لليهود.
وَكُنْتُ أَتَقَدَّمُ فِي الدِّيَانَةِ الْيَهُودِيَّةِ عَلَى كَثِيرِينَ مِنْ أَتْرَابِي فِي جِنْسِي.. أتراب الإنسان من هم في جيله وفي سنه، وربما قصد بولس الرسول رفقائه في مدرسة غمالائيل، و" فِي جِنْسِي" أي في بني إسرائيل، وهذا يعكس مدى بغض اليهود ولا سيما الشباب منهم للمسيحيين، لقد كان هؤلاء الشباب يحقدون على المسيحية التي اجتذبت الآلاف من اليهود، فمنذ اليوم الأول لولادة المسيحية اجتذبت ثلاثة آلاف جميعهم من اليهود، وشيئًا فشيئًا اجتذبت أعداد أخرى وأخرى وكثير من الكهنة اليهود انضموا إليها، وهذا يُفسّر حقد الشباب اليهودي على أتباع المسيح، ولكن شاول الطرسوسي فاقهم جميعًا في اضطهاده لكنيسة اللَّه، حتى كاد أن يفرغ أورشليم منهم.
وَكُنْتُ أَتَقَدَّمُ فِي الدِّيَانَةِ الْيَهُودِيَّةِ عَلَى كَثِيرِينَ مِنْ أَتْرَابِي فِي جِنْسِي.. " كان بولس يتمتع بالبر الذاتي لدرجة كبيرة، فقد كان منغمسًا في الديانة وتقاليدها وأسلوبها وطقوسها، كان يشعر أنه مقبول لدى اللَّه لأنه كان متدينًا، وكان يفعل الصلاح على قدر ما يستطيع. كان يشعر أن صلاحه وديانته قد جعلاه بارًا أمام اللَّه. لقد فشل في رؤية الكمال المُطلَق للّه ومحبته، والفساد المُطلَق للإنسان وعدم محبته..
لقد أصبح بولس مخدوعًا جدًا لدرجة أنه أطلق سيلًا من الكراهية والقتل ضد تابعي المسيح. لقد استخدم كل ما في متناول يده ليمحو اسم المسيح من على وجه الأرض.. لقد كان بارًا ذاتيًا ومتغطرسًا، ومليئًا بالمرارة والكراهية، والقتل، وراح يسيء استغلال مركزه وسلطته تمامًا كالطاغية، إلى حد حبس وقتل أولئك الذين كانوا يختلفون معه"(48).
كُنْتُ أَوْفَرَ غَيْرَةً فِي تَقْلِيدَاتِ آبَائِي.. قدَّم بولس الرسول نفسه لليهود الثائرين عليه قائلًا: "رَبَيْتُ فِي هذِهِ الْمَدِينَةِ مُؤَدَّبًا عِنْدَ رِجْلَيْ غَمَالاَئِيلَ عَلَى تَحْقِيقِ النَّامُوسِ الأَبَوِيِّ. وَكُنْتُ غَيُورًا للَّهِ كَمَا أَنْتُمْ جَمِيعُكُمُ الْيَوْمَ" (أع 22: 3)، وقال لأهل فيلبي: " مِنْ جِهَةِ النَّامُوسِ فَرِّيسِيٌّ. مِنْ جِهَةِ الْغَيْرَةِ مُضْطَهِدُ الْكَنِيسَةِ" (في 3: 5، 6).
ويقول "الأب متى المسكين": " ال " غَيْرَةً " بحد ذاتها تحتمل "الحق" و"الباطل". فإن كان يواكبها الحكمة والروح العاقلة فهي تؤدي إلى التقوى والتمهُّد في الدراسة والحق، أما إذا كانت دوافعها خالية من النعمة والحق فهي تنشئ ضلالة حتمًا وتؤدي بصاحبها إلى الكوارث. فعندنا من التلاميذ القديسين كان سمعان الغيور (لو 6: 15)، وعندنا في التاريخ ما قبل المسيح مباشرة يهوذا الجليلي الذي هلك ومن معه (أع 5: 37). وعلى العموم يقول ق. بولس: " حَسَنَةٌ هي الْغَيْرَةُ فِي الْحُسْنَى " (غل 4: 18)، طالما كانت النعمة ظاهرة في حياة الإنسان"(49).
كُنْتُ أَوْفَرَ غَيْرَةً فِي تَقْلِيدَاتِ آبَائِي.. كانت غيرة شاول غيرة نارية ملتهبة فاقت غيرة أترابه وأعمت عينيه، فلم يسمح لنفسه أن يتفهّم إيمان وسلوك مَن يضطهدهم، وجاء في "الموسوعة الكنسية": " كن مستعدًا لسماع الرأي الآخَر، فيرشدك اللَّه مهما كان انحرافك وتعود للحق، لا تهمل رأي غيرك أو تقاطعه، بل صلّ أثناء سماعك له فتتعلم من كل أحد وتزداد حكمة من اللَّه يومًا فيوم"(50).
كُنْتُ أَوْفَرَ غَيْرَةً فِي تَقْلِيدَاتِ آبَائِي.. كلمة "تَقْلِيدَاتِ" في الأصل اليوناني تحمل معنى التسليم والتسلم، وتعبّر عن التعاليم التي يتسلّمها الإنسان شفاهة من السلف للخلف، ومن جيل إلى جيل. غير أن هذه التقليدات قد أضاف إليها الفريسيون من عندياتهم الكثير والكثير حتى حمَّلوا الناس أثقالًا عثرة الحمل، وقد حفظوا هذه التقليدات في التلمود، وقالوا أن موسى يوم أن تسلَّم الوصايا المكتوبة من اللَّه تسلَّم معها وصايا شفاهية حفظها التقليد، وجعل الفريسيون من هذه التقليدات الكثيرة سورًا دفاعيًا عن التوراة، وجاء في مقدمة هذه التقليدات "المشنا" ثم المجموعة الثانوية المتأخرة وهي "الجمار"، ومن "المشنا" و"الجمار" تكوَّن التلمود اليهودي، وقالوا: "إن الكتب المقدَّسة هي الماء، والمشنا هي النبيذ، ولكن الجمار هي نبيذ ممزوج"(51).
وبموجب هذه التقليدات أدان الكتبة والفريسيون الرب يسوع، وهو رد عليهم، فقال: "لِمَاذَا يَتَعَدَّى تَلاَمِيذُكَ تَقْلِيدَ الشُّيُوخِ، فَإِنَّهُمْ لاَ يَغْسِلُونَ أَيْدِيَهُمْ حِينَمَا يَأْكُلُونَ خُبْزًا؟ فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: وَأَنْتُمْ أَيْضًا، لِمَاذَا تَتَعَدَّوْنَ وَصِيَّةَ اللَّهِ بِسَبَب تَقْلِيدِكُمْ"(مت 15: 2، 3).. "لأَنَّكُمْ تَرَكْتُمْ وَصِيَّةَ اللَّهِ وَتَتَمَسَّكُونَ بِتَقْلِيدِ النَّاسِ" (مر 7: 8).
كُنْتُ أَوْفَرَ غَيْرَةً فِي تَقْلِيدَاتِ آبَائِي.. كان بولس الرسول فريسي بن فريسي يجلُّ ويقدّر ويحترم تقليدات آبائه الفريسيين، وعندما وقف يُحاكم، وإذ لمح أن بعضهم فريسيين والآخرين صدوقيين، صرخ قائلًا: " أَنَا فَرِّيسِيٌّ ابْنُ فَرِّيسِيّ. عَلَى رَجَاءِ قِيَامَةِ الأَمْوَاتِ أَنَا أُحَاكَمُ" (أع 23: 6).. فمن كان يستطيع أن ينزع شاول من فريسيته هذه إلاَّ اللَّه القادر على كل شيء، ويقول "الأب متى المسكين": "لم يكن أحد كان مَنْ كان بقادر أن يقنعه بالمسيحية أو الإيمان بالمسيح فهو فريسي دارس ومتعصّب، ولغير تقاليد آبائه يستحيل أن يميل أو ينحاز! إذًا فلا بد أن تكون قوة إلهيَّة فائقة على التوراة والناموس والعوايد والتقاليد الآبائية كلها -قوة الحق الإلهي- هي التي اختطفته من يهوديته خطفًا "كشُعْلَةً مُنْتَشَلَةً مِنَ النَّارِ" (زك 3: 2) وألغت كل ما كان له ربحًا من وراء فريسيته وجعلت مكاسب العالم والدراسة والفقه اليهودي عنده خسارة في خسارة بجوار نور الإيمان الطاغي ووجه المسيح المضيء في السماء الذي ملأ فكره وقلبه وروحه"(52).
ويعلّق "الخوري بولس الفغالي" على غيرة بولس الرسول قائلًا: "فما فعله غيرةً من أجل اللَّه (في 3: 6، راجع رو 10 : 2). نحن أمام حمية محرقة تتغذى من التأمل في الوصية الأولى: "أنا إله غيور " (خر 20: 5، تث 4: 24، وراجع 2كو 11: 20). إذا أراد مؤمنو العهد القديم أن يخدموا اللَّه الواحد، كانوا يزيلون كل ما يمس قداسة اللَّه وكرامته. ذاك كان موقف فينحاس أمام البغاء المكرَّس الذي مارسه بنو إسرائيل في بعل فغور (عد 25: 1 - 18). ذاك كان انتقام إيليا من أنبياء بعل الكذبة لأنهم أبعدوا الشعب عن الإله الحقيقي (1مل 18: 40، سي 48: 2). والغيورون الذين كانوا أكثر المتحمسين بين الفريسيين. ما كانوا يترددون في بداية المسيحية، بل كانوا يقتلون كل من ينجّس أرض إسرائيل ويؤخر ساعة الخلاص. هل كان شاول الشاب (أو: بولس) منهم؟ الآمر معقول.
لم يكتفِ بولس باضطهاد الكنيسة، بل فاق جميع معاصرين غيرة وحماسًا. وهذا ما يبرز الطابع العجائبي لانتقاله من العالم اليهودي إلى العالم المسيحي. وتقاليد الآباء التي يتحدث عنها، ليست التعاليم التي نجدها في الكتب المقدَّسة، بل الشروح التي زيدت على شرائع دافع عنها الفريسيون"(53).
" وَلكِنْ لَمَّا سَرَّ اللَّهَ الَّذِي أَفْرَزَنِي مِنْ بَطْنِ أُمِّي، وَدَعَانِي بِنِعْمَتِهِ. أَنْ يُعْلِنَ ابْنَهُ فِيَّ لأُبَشِّرَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، لِلْوَقْتِ لَمْ أَسْتَشِرْ لَحْمًا وَدَمًا وَلاَ صَعِدْتُ إِلَى أُورُشَلِيمَ، إِلَى الرُّسُلِ الَّذِينَ قَبْلِي، بَلِ انْطَلَقْتُ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ رَجَعْتُ أَيْضًا إِلَى دِمَشْقَ" (غل 1: 15 - 17).
وَلكِنْ لَمَّا سَرَّ اللَّهَ الَّذِي أَفْرَزَنِي مِنْ بَطْنِ أُمِّي.. و"وَلكِنْ" للاستدراك، فبولس كان يضطهد الكنيسة بإفراط ويتلفها، فهو مستحق للعقوبة، ولكن اللَّه كان له رأي آخَر في بولس، إذ أفرزه من بطن أمه، واختاره ليكون رسولًا، على قدم المساواة مع الرسل، وهنا يضع بولس الرسول أمامنا مقارنة رائعة بين تصرفات الإنسان الطائش المندفع وبين تصرُّف اللَّه المُحب.
وَلكِنْ لَمَّا سَرَّ اللَّهَ.. لقد سرَّ اللَّه بشاول باعتبار ما سيكون عليه، فقال لحنانيا: "لأَنَّ هذَا لِي إِنَاءٌ مُخْتَارٌ لِيَحْمِلَ اسْمِي أَمَامَ أُمَمٍ وَمُلُوكٍ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ" (أع 9: 15).. لقد سرَّ اللَّه ببنوتنا له: "إِذْ سَبَقَ فَعَيَّنَنَا لِلتَّبَنِّي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ لِنَفْسِهِ، حَسَبَ مَسَرَّةِ مَشِيئَتِهِ" (أف 1: 5)، وسرَّ اللَّه بأن يعطينا الملكوت: "لاَ تَخَفْ، أَيُّهَا الْقَطِيعُ الصَّغِيرُ، لأَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ سُرَّ أَنْ يُعْطِيَكُمُ الْمَلَكُوتَ" (لو 12: 32).
الَّذِي أَفْرَزَنِي مِنْ بَطْنِ أُمِّي.. اختار اللَّه يعقوب: "لأَنَّهُ وَهُمَا لَمْ يُولَدَا بَعْد،ُ وَلاَ فَعَلاَ خَيْرًا أَوْ شَرًّا.. كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: أَحْبَبْتُ يَعْقُوبَ وَأَبْغَضْتُ عِيسُوَ" (رو 9: 11، 13) ولاشك أن اللَّه بسابق علمه كان يعرف ماذا سيكون يعقوب وماذا سيكون عيسو، وقال إشعياء النبي: "الرَّبُّ مِنَ الْبَطْنِ دَعَانِي. مِنْ أَحْشَاءِ أُمِّي ذَكَرَ اسْمِي.. وَالآنَ قَالَ الرَّبُّ جَابِلِي مِنَ الْبَطْنِ" (إش 49: 1، 5)، وقال الرب لإرميا: "قَبْلَمَا صَوَّرْتُكَ فِي الْبَطْنِ عَرَفْتُكَ وَقَبْلَمَا خَرَجْتَ مِنَ الرَّحِمِ قَدَّسْتُكَ" (إر 1: 5)، وقال رئيس الملائكة جبرائيل عن يوحنا المعمدان: "وَمِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يَمْتَلِئُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ" (لو 1: 15).. "فَلَمَّا سَمِعَتْ أَلِيصَابَاتُ سَلاَمَ مَرْيَمَ ارْتَكَضَ الْجَنِينُ فِي بَطْنِهَا، وَامْتَلأَتْ أَلِيصَابَاتُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ" (لو 1: 41).
الَّذِي أَفْرَزَنِي مِنْ بَطْنِ أُمِّي.. أفرز اللَّه شاول من بطن أمه، فلماذا تركه في تعصبه الممقوت نحو نصف عمره؟!.. تركه اللَّه يعيش في اليهودية ليختبر قسوة الحياة في ظل الناموس، وتركه يضطهد الكنيسة بإفراط ويتلفها حتى يدرك أنه مديون للنعمة الإلهيَّة، وصار بولس رمزًا ومثالًا لعمل النعمة الإلهيَّة التي حولَّت شاول إلى بولس، فقال: "لِهذَا رُحِمْتُ: لِيُظْهِرَ يَسُوعُ الْمَسِيحُ فِيَّ أَنَا أَوَّلًا كُلَّ أَنَاةٍ، مِثَالًا لِلْعَتِيدِينَ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ" (1تي 1: 16).
الَّذِي أَفْرَزَنِي مِنْ بَطْنِ أُمِّي.. كان هذا الأمر في خطة اللَّه منذ الأزل، وقبل أن يرى بولس نور الحياة، فاللَّه وضع خطة لكل إنسان، ورتب له أن يعيش في ذاك الزمان وذلك المكان، وفي هذا المجتمع، ودبر له دورًا يقوم به سواء كان كبيرًا أم صغيرًا، ولذلك على الإنسان أن يفهم ويدرك جيدًا: ما هو الدور المطلوب منه، وما هي رسالته في هذه الحياة التي أرادها اللَّه له؟.. وليتأكد كل واحد أنه لا يوجد إنسان واحد لم يؤتمن على وزنات، والإنسان الذي أؤتمن على وزنة واحدة متى تاجر بها فأنه سيربح ويكون له مكانه ومكانته في ملكوت السموات.
وَدَعَانِي بِنِعْمَتِهِ.. تحدث بولس الرسول إلى الغلاطيين عن الذي دعاهم بنعمة المسيح (غل 1: 6)، والآن يتحدث عن الذي دعاه بنعمته: "قَالَ الرُّوحُ الْقُدُسُ: أَفْرِزُوا لِي بَرْنَابَا وَشَاوُلَ لِلْعَمَلِ الَّذِي دَعَوْتُهُمَا إِلَيْهِ" (أع 13: 2)، وسبب دعوة اللَّه لبولس ليست كفاءة بولس ولا استحقاقاته الشخصية بل نعمة اللَّه هي التي أفرزته من بطن أمه. "إن نعمة اللَّه قد أفرزته ليخدم المسيح "من بطن أمه". الفكرة هي أن بولس كان في فكر اللَّه حتى قبل أن يولد. إن دعوة بولس وخدمته لم تكن راجعة إلى بولس، بل إلى اللَّه ونعمته. كانت عين اللَّه على بولس منذ الأزل"(54).
وَدَعَانِي بِنِعْمَتِهِ.. دعوة الإنسان المسيحي ليست من نفسه بل من اللَّه، ولهذا قال بولس الرسول: "مُسْتَنِيرَةً عُيُونُ أَذْهَانِكُمْ، لِتَعْلَمُوا مَا هُوَ رَجَاءُ دَعْوَتِهِ" (أف 1: 18) وفي كل صباح نصلي في صلاة باكر: "فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ، أَنَا الأَسِيرَ فِي الرَّبِّ: أَنْ تَسْلُكُوا كَمَا يَحِقُّ لِلدَّعْوَةِ الَّتِي دُعِيتُمْ بِهَا" (أف 4: 1)، ويؤكد بولس الرسول أن هذه الدعوة ليست بناءً على استحقاقنا ولا بناءً على أعمالنا بل بنعمة المسيح: "الَّذِي خَلَّصَنَا وَدَعَانَا دَعْوَةً مُقَدَّسَةً، لاَ بِمُقْتَضَى أَعْمَالِنَا بَلْ بِمُقْتَضَى الْقَصْدِ وَالنِّعْمَةِ الَّتِي أُعْطِيَتْ لَنَا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ قَبْلَ الأَزْمِنَةِ الأَزَلِيَّةِ" (2تي 1: 9). ومعلمنا بطرس الرسول يحفزنا لكيما نتشبث بهذه الدعوة: "لِذلِكَ بِالأَكْثَرِ اجْتَهِدُوا أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنْ تَجْعَلُوا دَعْوَتَكُمْ وَاخْتِيَارَكُمْ ثَابِتَيْنِ. لأَنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذلِكَ، لَنْ تَزِلُّوا أَبَدًا" (2بط 1: 10).
أَنْ يُعْلِنَ ابْنَهُ فِيَّ.. لَمْ أَسْتَشِرْ لَحْمًا وَدَمًا.. عندما اعترف بطرس الرسول بألوهية السيد المسيح قال له: "طُوبَى لَكَ يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، إِنَّ لَحْمًا وَدَمًا لَمْ يُعْلِنْ لَكَ، لكِنَّ أَبِي الَّذِي فِي السَّموَاتِ" (مت 16: 17)، فمن يستطيع أن يتعرَّف على "الابْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ" (يو 1: 18) بدون إعلان الآب السماوي له، وبدون أن يشرق عليه نور الروح القدس: "وَلَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَقُولَ يَسُوعُ رَبٌّ إِلاَّ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ" (1كو 12: 3)، وبعد عودة إرسالية السبعين: "تَهَلَّلَ يَسُوعُ بِالرُّوحِ وَقَالَ: أَحْمَدُكَ أَيُّهَا الآبُ، رَبُّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هذِهِ عَنِ الْحُكَمَاءِ وَالْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلأَطْفَالِ. نَعَمْ أَيُّهَا الآبُ لأَنْ هكَذَا صَارَتِ الْمَسَرَّةُ أَمَامَكَ"(لو 10: 21)، فاللَّه يسر بإعلان ذاته للبسطاء بساطة الأطفال.. " بَلْ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ: مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ. فَأَعْلَنَهُ اللَّهُ لَنَا نَحْنُ بِرُوحِهِ" (1كو 2: 9، 10).. " لأَنَّ اللَّهَ الَّذِي قَالَ: أَنْ يُشْرِقَ نُورٌ مِنْ ظُلْمَةٍ، هُوَ الَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا، لإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ اللَّهِ فِي وَجْهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (2كو 4: 6)، فاللَّه يسر بأن يعلن ذاته لنا ويشرق في قلوبنا بروحه القدوس.. في الوقت الذي أعلن اللَّه نوره ومجده لشاول من الخارج أُستعلن له في الداخل، فظهور المسيح الخارجي لبولس كان يقابله حلول باطني للمسيح في قلبه، والحقيقة أن جوهر الإيمان المسيحي أن يستعلن اللَّه في حياتنا وسلوكنا وتصرفاتنا، حتى تنطبع فينا صورة المسيح.
أَنْ يُعْلِنَ ابْنَهُ فِيَّ.. لَمْ أَسْتَشِرْ لَحْمًا وَدَمًا.. لم يكن بولس الرسول في احتياج لاستشارة أي إنسان لذلك قال أنه لم يستشر لحمًا ودمًا، بل كان الطريق واضحًا أمامه محدَّد المعالم بعد ظهور الرب له، وبعد التقائه بحنانيا وعماده وعودة بصره إليه وعودته عن غيه، ويقول "دكتور وليم أدي": "وهذا الإعلان حمله على أن يؤمن به وأن يتيقن كل التيقن أن يسوع هو المسيح، وهذا الذي قدَّره أن يحتمل كل أتعابه وبلاياه بلا اكتراث إلى آخِر حياته وأن يختتم إيمانه بدمه"(55)، وكتب لأهل كورنثوس قائلًا: " أَلَسْتُ أَنَا رَسُولًا.. أَمَا رَأَيْتُ يَسُوعَ الْمَسِيحَ رَبَّنَا" (1كو 9: 1).
لأُبَشِّرَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ.. لقد أعلن اللَّه الآب ابنه في بولس الرسول الإناء المختار ليبشر الأمم بالحياة الأبدية، وقال بولس الرسول عن الرب: " فَقَالَ لِي اذْهَبْ فَإِنِّي سَأُرْسِلُكَ إِلَى الأُمَمِ بَعِيدًا" (أع 22: 21)، كما قال له: " لِتَفْتَحَ عُيُونَهُمْ كَيْ يَرْجِعُوا مِنْ ظُلُمَاتٍ إِلَى نُورٍ، وَمِنْ سُلْطَانِ الشَّيْطَانِ إِلَى اللَّهِ، حَتَّى يَنَالُوا بِالإِيمَانِ بِي غُفْرَانَ الْخَطَايَا وَنَصِيبًا مَعَ الْمُقَدَّسِينَ" (أع 26: 18)(راجع أيضًا أف 3: 8، 9).. الرب يعطي كلمة للمبشرين، وليس هناك عمل أعظم من عمل المبشر: "مَا أَجْمَلَ أَقْدَامَ الْمُبَشِّرِينَ بِالسَّلاَمِ، الْمُبَشِّرِينَ بِالْخَيْرَاتِ" (رو 10: 15).
لأُبَشِّرَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ.. كان اليهود ينظرون لأنفسهم على أنهم أبناء اللَّه، بينما كانت نظرتهم للأمم قاسية، حتى أنهم اعتبروهم كلاب، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في صفحات قاموس وتفاسير الكتاب المقدس الأخرى. وعندما قال السيد المسيح للكنعانية: " لَيْسَ حَسَنًا أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَب" كان يقصد إعلان نظرة اليهودي الخاطئة لأخيه الأممي، وكان اليهود يتجنبون السلام على الأمميين، ولذلك عندما كان يعود اليهودي من السوق كان يُسرع بغسل يديه لئلا يكون قد سلَّم على أحد من الأمم، أمّا بولس الرسول فيذكر هناك بكل فخر أن اللَّه أرسله ليكرز بين الأمم، فجال من مدينة إلى أخرى يحمل لهم بشرى الخلاص، وأيضًا بالرغم من أن بولس هو رسول الأمم لكنه لم يغفل البشارة لبني جنسه، فكلما دخل مدينة كان يُسرع بالدخول أولًا إلى المجمع يكرز لليهود أولًا، وعندما كان يُرفَض كان يتجه للأمم.
لأُبَشِّرَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ.. اعتبر بولس الرسول أن تدبير اللَّه من أجل الأمم كان سرًّا أعلنه اللَّه له، فقال لأهل أفسس: "إِنْ كُنْتُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ بِتَدْبِيرِ نِعْمَةِ اللَّهِ الْمُعْطَاةِ لِي لأَجْلِكُمْ. أَنَّهُ بِإِعْلاَنٍ عَرَّفَنِي بِالسِّرِّ "(أف 3: 2، 3)، وقال لأهل كولوسي: "السِّرِّ الْمَكْتُومِ مُنْذُ الدُّهُورِ وَمُنْذُ الأَجْيَالِ، لكِنَّهُ الآنَ قَدْ أُظْهِرَ لِقِدِّيسِيهِ، الَّذِينَ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُعَرِّفَهُمْ مَا هُوَ غِنَى مَجْدِ هذَا السِّرِّ فِي الأُمَمِ، الَّذِي هُوَ الْمَسِيحُ فِيكُمْ رَجَاءُ الْمَجْدِ"(كو 1: 26، 27)، ويقول "الدكتور القس غبريال رزق اللَّه" عن سر قبول اللَّه للأمم: "كنز ثمين مجيد، في مخابئ الأزل كله لألئ كثيرة الثمن ودرر لا تثمَّن مكنونة أجيالًا فأجيالًا ودهورًا فدهورًا. عبَّر عنه الرسول بولس متحدثًا مع اللَّه: "الَّذِي فِي الأَجْيَالِ الْمَاضِيَةِ تَرَكَ جَمِيعَ الأُمَمِ يَسْلُكُونَ فِي طُرُقِهِمْ. مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ نَفْسَهُ بِلاَ شَاهِدٍ وَهُوَ يَفْعَلُ خَيْرًا يُعْطِينَا مِنَ السَّمَاءِ أَمْطَارًا وَأَزْمِنَةً مُثْمِرَةً وَيَمْلأُ قُلُوبَنَا طَعَامًا وَسُرُورًا" (أع 14: 16، 17). أما الآن بعد الإعلان، وقد انفتحت المخابئ وبرزت الدرر متلألئة فيقول الرسول: "فَاللَّهُ الآنَ يَأْمُرُ جَمِيعَ النَّاسِ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَنْ يَتُوبُوا، مُتَغَاضِيًا عَنْ أَزْمِنَةِ الْجَهْلِ.. " (أع 17: 30، 31)"(56).
لَمْ أَسْتَشِرْ لَحْمًا وَدَمًا. وَلاَ صَعِدْتُ إِلَى أُورُشَلِيمَ إِلَى الرُّسُلِ الَّذِينَ قَبْلِي.. هاجم الإخوة الكذبة بولس الرسول وطعنوا في رسوليته، وأنقصوه من الرسل، فأراد بولس الرسول أن يوضح للغلاطيين أنه مساوٍ للرسل وليس أقل منهم لذلك قال أنه لم يصعد إلى أورشليم للآباء الرسل ليتتلمذ على أيديهم، وفي موضع آخَر يقول لأولاده في كورنثوس: "لأَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ أُمْدَحَ مِنْكُمْ، إِذْ لَمْ أَنْقُصْ شَيْئًا عَنْ فَائِقِي الرُّسُلِ، وَإِنْ كُنْتُ لَسْتُ شَيْئًا"(2كو 12: 11)، ويقول "القديس يوحنا ذهبي الفم": "فلنفحص إذًا الدافع وراء هذه الكلمات ولا نأخذها حسب الظاهر.. لم يحدث أن تحدّث الرسول عن نفسه بكبرياء، أو عن الرسل باحتقار. ألم يُدخِل نفسه ضمن الحرمان قبلًا.. فما دام المغرضون قد انتقصوا من رسوليته ورفعوا من شأن باقي الرسل ليُدخِلوا على الإنجيل انحرافهم اليهودي كان يجب أن يثبت للغلاطيين مساواته للرسل ليقطع عليهم الفرصة، فهو لم يستشر لحمًا ودمًا لأنه لا يليق بمن استلم تعليمه من اللَّه أن يرجع إلى البشر ليستشيرهم"(57).
ويقول "الأب متى المسكين": "هنا يُنبّه ذهن الغلاطيين أنه رسول من قِبَل اللَّه مباشرة، ومعيَّن للأمم.. لم يذهب إلى أورشليم لتظل رسوليته مستقلة عن باقي الرسل حتى لا يُقال عنه أنه مُرسَل من الاثني عشر أو حتى يحمل رسالته بناءً على توجيه أو تعليم أو تسليم الرسل. وهكذا ظلت رسوليته فريدة من نوعها شكلًا وموضوعًا. كل هذا يقوله ق. بولس ليقطع خط الرجعة على الرسل الكذبة، الذين تسرَّبوا إلى كنائس غلاطية بادعاء أنهم تبع الرسل الاثني عشر، وبالتالي لهم السلطان على مراجعة تعاليم بولس الرسول وشجب تعليمه الخاص بعدم الالتزام بالناموس والفرائض والعوايد التي لليهود ونقض السبت والختان.. فالقديس بولس ينفي هنا بادئ ذي بدء أن يكون تابعًا للرسل أو كارزًا بما يكرزون به، بل هو رسول من اللَّه لخدمة الأمم"(58).
وَلاَ صَعِدْتُ إِلَى أُورُشَلِيمَ إِلَى الرُّسُلِ الَّذِينَ قَبْلِي.. الدليل على أن بولس الرسول لم يستشر لحمًا ودمًا أنه لم يصعد إلى أورشليم، لأنه لو كان في نيته أن يستشير إنسانًا لكان بالأولى أن يصعد إلى أورشليم لاستشارة الآباء الرسل الذين تتلمذوا على يد السيد المسيح، والذين سبقوه إلى الإيمان، فكنيسة أورشليم هي أم جميع الكنائس، التي أوصى الرب يسوع بالتبشير فيها أولًا ثم اليهودية فالسامرة وإلى أقاصي الأرض (أع 1: 8)، وبالرغم من نزوح المسيحيين من المدينة بسبب الاضطهادات الرهيبة التي تعرّضوا لها، لكن الآباء الرسل الذين حملوا رؤوسهم على أكفهم لم يتركوا المدينة المقدَّسة، فهذه المدينة موضع النبوات: "وَتَسِيرُ شُعُوبٌ كَثِيرَةٌ، وَيَقُولُونَ: هَلُمَّ نَصْعَدْ إِلَى جَبَلِ الرَّبِّ، إِلَى بَيْتِ إِلهِ يَعْقُوبَ، فَيُعَلِّمَنَا مِنْ طُرُقِهِ وَنَسْلُكَ فِي سُبُلِهِ. لأَنَّهُ مِنْ صِهْيَوْنَ تَخْرُجُ الشَّرِيعَةُ، وَمِنْ أُورُشَلِيمَ كَلِمَةُ الرَّبِّ" (إش 2: 3)، وكان من الطبيعي أن يسرع شاول إلى أورشليم مدينة الهيكل العظيم ومركز اليهودية لكيما يبشّر بني جنسه، هذا اتجاه، واتجاه آخَر لكيما تشهد المدينة المقدَّسة التي شهدت اضطهاداته كرازته أيضًا، ولكنه لم يفعل هذا.
وَلاَ صَعِدْتُ إِلَى أُورُشَلِيمَ إِلَى الرُّسُلِ.. لم يكن هذا تعظم وكبرياء من بولس الرسول، فهو يعرف جيدًا ما جاء في سفر الأمثال: "أَرَأَيْتَ رَجُلًا حَكِيمًا فِي عَيْنَيْ نَفْسِهِ؟ الرَّجَاءُ بِالْجَاهِلِ أَكْثَرُ مِنَ الرَّجَاءِ بِهِ" (أم 26: 12) وما جاء في سفر إشعياء: "وَيْلٌ لِلْحُكَمَاءِ فِي أَعْيُنِ أَنْفُسِهِمْ، وَالْفُهَمَاءِ عِنْدَ ذَوَاتِهِمْ" (إش 5: 21)، وهو الذي أوصى أهل رومية: "لاَ تَكُونُوا حُكَمَاءَ عِنْدَ أَنْفُسِكُمْ" (رو 12: 16).. إذًا لماذا لم يصعد إلى أورشليم؟.. لأنه كان مُنقادًا بالروح القدس إلى حياة الخلوة بالبرية.
بَلِ انْطَلَقْتُ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ.. ليست العربية هي الجزيرة العربية، لكنها صحراء العربية التي تقع جنوب دمشق أو اليهودية، وتمتد إلى جبل حوريب (راجع د. وليم أدي - الكنز الجليل في تفسير الإنجيل ج 7 ص 50)، ومنطقة العربية بعيدة عن أي مصدر للتعليم البشري، بل أن بولس الرسول بعدما عاين أمجاد ابن اللَّه لم يكن محتاجًا لنصيحة أحد، إنما كان في حاجة إلى الهدوء والسكينة والاختلاء بنفسه، وفي هذه الخلوة تلقى تعليمه وإرشاده من الروح القدس بطريقة فريدة، وفُكَّت أمامه الختوم فأدرك أسرار النبوات والرموز المُخبأة في طيات الأسفار المقدَّسة.. وربما لو لم ينطلق بولس الرسول إلى العربية وصعد إلى أورشليم ربما تعرَّض للاغتيال بيد أحد أترابه المتعصبين.
بَلِ انْطَلَقْتُ إِلَى الْعَرَبِيَّةِ.. "عندما تجدَّد بولس، كانت لديه رغبة مُلحة ليكون وحده مع اللَّه. لم يكن بحاجة إلى المشورة ومساعدة البشر: كان بحاجة لحضور ومساعدة اللَّه وروحه. كان يعرف الأسفار المقدَّسة من قبل. كان قد درسها عند قدمي أعظم معلمي الديانة في عصره، ولكنه لم يكن قد عرف اللَّه ولا المسيح بطريقة شخصية. لم يكن لدى بولس معرفة شخصية باللَّه. ما كان يعرفه عن اللَّه كان ملتويًا وفاسدًا، أسيء تطبيقه وأسيء استعماله. كان بحاجة ماسة إلى..
· الوقت لكي يتعلّم كيف يعيش مع المسيح يومًا بيوم، مستمدًا منه الثقة والقوة.
· الوقت لكي يتعلّم المعنى الحقيقي للأسفار المقدَّسة: كيف كانت تنطبق على المسيح.
· الوقت للتعامل الصحيح مع كلمة الحق (الكتاب المقدَّس).
· الوقت لكي يتعلم أن يمشي مع المسيح في حضوره وفي الشركة معه طوال اليوم.
· الوقت لكي يتعلم كيف يسلك في حضرة وشركة المسيح طوال النهار.
· الوقت لكي يتعلم وصايا وإرادة المسيح.
· الوقت ليفكر مليًا في الطريقة التي يسلك بها لكي يجعل المسيح معروفًا لعالم منغمس في احتياج مُلح وفي الخطية والظلام.
كم من الوقت كان بولس محتاجًا إليه؟ من الواضح، أنه أمضى حوالي ثلاث سنوات في العربية"(59).
ثُمَّ رَجَعْتُ أَيْضًا إِلَى دِمَشْقَ.. وهنا الإشارة واضحة أن بولس الرسول بعد أن عاين مجد المسيح انطلق من دمشق إلى العربية، وإليها عاد بعد خلوته التي استغرقت ثلاث سنوات، وتُعد دمشق من أقدم مدن العالم، فجاء ذكرها في أيام أبينا إبراهيم (تك 14: 15)، وصارت عاصمة آرام التي استولى عليها داود النبي (2صم 8: 5، 6)، واستولى عليها الرومان سنة 60 ق. م، وكانت تخضع غالبًا في أيام بولس الرسول لسلطة الحارس الغساني (2 كو 11: 32)، وكانت دمشق مركزًا هامًا للمسيحيين، وهذا يفسر لنا لماذا قصد بولس دمشق أولًا ليوثق المسيحيين رجالًا ونساءً إلى أورشليم (أع 9: 1، 2). لقد كان يريد أن يُفرِغ دمشق من المسيحيين كما أفرغ أورشليم من قبل، حيث هجرها المسيحيون إثر سماعهم بقدومه وتركوا بيوتهم وحقولهم وعائلاتهم ولقمة عيشهم، ولكنه سقط على وجهه وتغيرت حياته، وهوذا الآن يعود من العربية إلى دمشق ليصنع خيرًا. ليكرز بالمسيح عوضًا عن الشر الذي كان يضمره لهم.. "عاد بولس إلى دمشق لتصحيح الخطأ الذي عمله سابقًا. عندما تجدَّد بولس كان في طريقه إلى دمشق لكي يقبض على أتباع المسيح ويبطش بهم. كان هدفه وغرضه أن يُطهّر دمشق. إن الاضطهاد المريع قد أوقع الفوضى بالطبع في صفوف المؤمنين. لقد أجبر الكثيرين على الهروب لحياتهم، تاركين عائلاتهم، وبيوتهم، ووظائفهم وكل وسائل الحصول على لقمة العيش. الفكرة هكذا: عاد بولس إلى دمشق ليفعل كل ما في استطاعته لتصحيح الخطأ المريع الذي عمله لمؤمني دمشق. لقد أراد أن يطلب منهم المغفرة ويؤكد لهم أنه قد خلص"(60).
"ثُمَّ بَعْدَ ثَلاَثِ سِنِينَ صَعِدْتُ إِلَى أُورُشَلِيمَ لأَتَعَرَّفَ بِبُطْرُسَ، فَمَكَثْتُ عِنْدَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَلكِنَّنِي لَمْ أَرَ غَيْرَهُ مِنَ الرُّسُلِ إِلاَّ يَعْقُوبَ أَخَا الرَّبِّ. وَالَّذِي أَكْتُبُ بِهِ إِلَيْكُمْ هُوَذَا قُدَّامَ اللَّهِ أَنِّي لَسْتُ أَكْذِبُ فِيهِ. وَبَعْدَ ذلِكَ جِئْتُ إِلَى أَقَالِيمِ سُورِيَّةَ وَكِيلِيكِيَّةَ. وَلكِنَّنِي كُنْتُ غَيْرَ مَعْرُوفٍ بِالْوَجْهِ عِنْدَ كَنَائِسِ الْيَهُودِيَّةِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ. غَيْرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْمَعُونَ أَنَّ الَّذِي كَانَ يَضْطَهِدُنَا قَبْلًا، يُبَشِّرُ الآنَ بِالإِيمَانِ الَّذِي كَانَ قَبْلًا يُتْلِفُهُ. فَكَانُوا يُمَجِّدُونَ اللَّهَ فِيَّ" (غل 1: 18 - 24).
في هذه الفقرة يحكي بولس الرسول جزء من ذكرياته، إذ بعد أن رأى مجد الرب يسوع وسمع كلمة من فم البار انطلق إلى العربية في خلوة طويلة استغرقت ثلاث سنوات، عاد على أثرها إلى دمشق، وإذ تشاور عليه اليهود ليقتلوه وراقبوا الأبواب تدلى في سلٍ من على السور، وانطلق إلى أورشليم، وهناك تعرَّف على بطرس الرسول، كما التقى بالقديس يعقوب أخي الرب، وأمضى أيامًا رائعة، وإذ تباحث مع اليونانيين أرادوا الفتك به، في الوقت الذي قال له الرب يسوع أن يترك أورشليم ليكرز للأمم، فتركها بعد أن أقام فيها خمسة عشر يومًا، فواضح أنه لم يذهب إلى هناك ليتتلمذ على يدي بطرس، وترك أورشليم متجهًا إلى طرسوس مسقط رأسه، فكرز فيها وفي كيلكية، ثم ذهب إلى كنائس اليهودية فابتهجوا ومجدوا اللَّه كثيرًا الذي حوَّل الذئب المفترس إلى حمل وديع. ومن الملاحظ أن بولس الرسول لم يذكر أحداث تلك الفترة بالتفصيل، فمثلًا أغفل كرازته مع برنابا في أنطاكية سوريا، ونبوة أغابوس عن المجاعة التي ستعم المسكونة، وجمع التبرعات لفقراء أورشليم، وحمله هذه العطايا والأموال إلى أورشليم، "وَرَجَعَ بَرْنَابَا وَشَاوُلُ مِنْ أُورُشَلِيمَ بَعْدَ مَا كَمَّلاَ الْخِدْمَةَ" (أع 12: 25)، والمقصود بالخدمة هنا خدمة توزيع العطايا على الفقراء.
" ثُمَّ بَعْدَ ثَلاَثِ سِنِينَ صَعِدْتُ إِلَى أُورُشَلِيمَ لأَتَعَرَّفَ بِبُطْرُسَ، فَمَكَثْتُ عِنْدَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَلكِنَّنِي لَمْ أَرَ غَيْرَهُ مِنَ الرُّسُلِ إِلاَّ يَعْقُوبَ أَخَا الرَّبِّ. وَالَّذِي أَكْتُبُ بِهِ إِلَيْكُمْ هُوَذَا قُدَّامَ اللَّهِ أَنِّي لَسْتُ أَكْذِبُ فِيهِ" (غل 1: 18 - 20).
ثُمَّ بَعْدَ ثَلاَثِ سِنِينَ صَعِدْتُ إِلَى أُورُشَلِيمَ.. قام بولس الرسول برحلته الأولى إلى أورشليم بعد رؤيته للسيد المسيح بنحو ثلاث سنوات، وهذه الرحلة التي سجلها سفر الأعمال: "وَلَمَّا جَاءَ شَاوُلُ إِلَى أُورُشَلِيمَ حَاوَلَ أَنْ يَلْتَصِقَ بِالتَّلاَمِيذِ، وَكَانَ الْجَمِيعُ يَخَافُونَهُ غَيْرَ مُصَدِّقِينَ أَنَّهُ تِلْمِيذٌ. فَأَخَذَهُ بَرْنَابَا وَأَحْضَرَهُ إِلَى الرُّسُلِ، وَحَدَّثَهُمْ كَيْفَ أَبْصَرَ الرَّبَّ فِي الطَّرِيقِ وَأَنَّهُ كَلَّمَهُ، وَكَيْفَ جَاهَرَ فِي دِمَشْقَ بِاسْمِ يَسُوعَ" (أع 9: 26، 27).. لقد كانت رحلة بولس الرسول إلى أورشليم تحمل قدرًا كبيرًا من الشجاعة لأنها كانت محفوفة بالمخاطر، فهو في نظر أترابه من اليهود الغيورين المتعصبين بمثابة مرتد، يستحق الرجم مثله مثل إسطفانوس، ثم كيف ينقلب ذاك الذي اضطهد أتباع المسيح بشدة إلى مُقدام لهم، ومع ذلك لم يتردَّد بولس الرسول أن يذهب إلى تلك المدينة التي شهدت تعصُّبه الأعمى المقيت لتشهده كارزًا عظيمًا ورعًا، وراعيًا أمينًا مستعدًا بكل سرور أن يبذل حياته بكل رضى من أجل البشارة بِاسم المسيح.
لأَتَعَرَّفَ بِبُطْرُسَ.. كان بطرس رجلًا يهوديًا بسيطًا صياد سمك من الجليل، بينما كان بولس يهوديًا عارفًا بالشريعة والناموس والتلمود، تعلَّم عند غمالائيل أحد مشاهير عصره في أورشليم، كما كان فيلسوفًا يتمتع بالرعوية الرومانية، فشخصية هذا غير شخصية ذاك تمامًا، ولكن في المسيح يسوع الذي يحتوي الجميع يستطيع بولس أن يتلاقى مع بطرس بسهولة ويُسر وانسجام تام، فالمسيح يجمع في أحضانه العالِم والبسيط، الغني والفقير، وفي ملكوته سيجتمعون من كل أمة وكل لسان وكل لون وكل جنس.
لأَتَعَرَّفَ بِبُطْرُسَ.. هل بولس لم يكن يعرف بطرس؟.. لا بد أن بولس الذي عاش في أورشليم سمع عن بطرس، وربما استمع لعظته الشهيرة يوم الخمسين، وقد يكون عاين معجزة شفاء الأعرج من بطن أمه، وربما رأى بطرس ويوحنا عندما قبضت عليهما القيادات اليهودية.. لقد اشتاق بولس أن يتعرَّف على بطرس عن قُرب، ولذلك بعد أن هرب من دمشق ناجيًا من موت مُحقّق قصد أورشليم ليلتقي ببطرس، ويسعد بلقائه ويستمع لكلمات النعمة البسيطة الخارجة من فيه، ويراه فرعًا ثابتًا في شجرة الحياة التي تحمله هو أيضًا، وبلا شك أن قبول بطرس والرسل له سيسهل له طريق الكرازة في مجامع اليهود، ويقول "صموئيل مايكوكسكي": "الزيارة الأولى تلك قد تكون زيارة حاسمة جدًا في خدمة الرسولية فيما هو حاول أن ينال تأييد الرسل"(61).
لأَتَعَرَّفَ بِبُطْرُسَ.. هل أراد بولس الرسول أن يستشير بطرس في بعض الأمور الإيمانية؟.. كلاَّ.. هل أراد أن يتتلمذ على يدي بطرس؟.. كلاَّ.. هل أراد أن يتعلّم منه أسس الإيمان المستقيم؟.. كلاَّ.. فعندما ذهب بولس للقاء بطرس لم يكن هذا عقب إيمانه مباشرة، إنما مرَّ ثلاث سنوات تأسَّس فيها بولس في الإيمان، فكان في ملء الثقة من إيمانه وتعليمه الذي استمده من الرب يسوع رأسًا.
لأَتَعَرَّفَ بِبُطْرُسَ.. تُرى كيف كان لقاء بولس، الذي سبق واضطهد الكنيسة بإفراط وأتلفها مع بطرس الرسول الذي سبق وأنكر سيده وجدف على الاسم الحسن؟!.. تُرى هل بطرس التمس العذر لبولس؟!.. ربما هذا الذي سهل اللقاء بين هذين العملاقين، أن كل منهما حمل قدرًا عظيمًا من التواضع، فلا بد أن كل منهما نظر لأخيه نظرة حب واعتزاز وتقدير.. تُرى في لقائهما الأول هذا، هل كانا يدركان أن خاتمة حياتهما ستكون في روما وفي يوم واحد؟!.. لم يكشف لنا الكتاب عن حميمية هذا اللقاء، لكن لا بد أن كل منهما شعر أنه عضو في ذات الجسد الواحد، وأن كليهما يكمل الآخَر.. فأي اتفاق، وأي انسجام حدث بين هذين العملاقين؟!.. وأي سيمفونية عُزفت بينهما؟!.. مرت الأيام وفرت كحلم جميل رائع استضافت فيه الكنيسة الأم أبنها كاروز الأمم، ويقول "القديس يوحنا ذهبي الفم": " أي اتضاع هذا؟!.. فرغم عدم حاجة بولس إلى بطرس، ورغم مساواتهما كرسولين، وبعد هذا النجاح العظيم، يأتي إليه كأكبر ومتقدم0 ولقد كان الهدف الوحيد هو زيارة بطرس، وهكذا يقدّر بولس إخوته ولا يحسب نفسه أفضل منهم0 لم يكن بولس في حاجة إلى تعاليم أو تصحيحات بل حضر تكريمًا لبطرس ورغبته في التعرف عليه"(62).
كما يقول "يوحنا ذهبي الفم" أيضًا: " لقد قام الرسول بهذه الرحلة خصيصًا ليرى بطرس، وها هو لم يرَ غيره سوى يعقوب، مما يؤكد محبة الرسول لبطرس ويوضح أن مقاومته إياه لم تكن بدافع العداوة والامتهان، ولنلاحظ أنه قال (لم أرَ) ليؤكد الزيارة لمجرد رؤياهم وليست لتلقي التعاليم منهم، ولقد قرن اسم يعقوب بلقبه فلقد كان ممكنًا أنه يدعوه يعقوب بن كلوبا كما فعل البشير ولكنه دعاه "أخا الرب" بمحبة وتوقير شديد"(63).
فَمَكَثْتُ عِنْدَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا.. مدة قصيرة، وربما كان بولس يخطط لقضاء فترة أطول في أورشليم، ولكن اللَّه كان له رأي آخَر، وبينما يقضي بولس أيام رائعة في أحضان الكنيسة الأم ويكرز ويبشر ويعلم ويتباحث ويجادل أعلن اليونانيون أي اليهود من أصل يوناني غضبتهم عليه فخططوا لقتله (أع 9: 29، 30) وأيضًا تلقى أمرًا مباشرًا من السيد المسيح بترك أورشليم ليذهب ويكرز للأمم (أع 22: 17-21)، فأطاع بولس وترك أورشليم المدينة المحبوبة.
لَمْ أَرَ غَيْرَهُ مِنَ الرُّسُلِ إِلاَّ يَعْقُوبَ أَخَا الرَّبِّ.. لقد هَجَر كثير من المسيحيين أورشليم بسبب شدة الاضطهاد وتشتتوا، والأمر العجيب أنهم في الطرق التي تشتتوا فيها جالوا مبشرين بالكلمة (أع 8: 4) فنشروا نور الإيمان في ربوع اليهودية والسامرة، أما الرسل فأصروا على البقاء في أورشليم، وأحيانًا كانوا يتركونها لافتقاد المؤمنين الجدد في تلك البلدان، ولهذا لم يرَ بولس من الرسل غير بطرس ويعقوب، حتى أنه لم يرَ يوحنا الحبيب في هذه الزيارة، وفي حديثه مع يعقوب علم منه أن الرب قد ظهر له بعد القيامة فسجل هذه الحقيقة: "وَبَعْدَ ذلِكَ ظَهَرَ لِيَعْقُوبَ" (1كو 15: 7).
يَعْقُوبَ أَخَا الرَّبِّ.. يعقوب هذا غير يعقوب بن زبدي شقيق يوحنا الحبيب، بل هو ابن خالة السيد المسيح، ودعاه اليهود مع أخوته أخوة للمسيح: "أَلَيْسَ هذَا هُوَ النَّجَّارَ ابْنَ مَرْيَمَ، وَأَخُو يَعْقُوبَ وَيُوسِي وَيَهُوذَا وَسِمْعَانَ؟" (مر 6: 3).. "وَفِيمَا هُوَ يُكَلِّمُ الْجُمُوعَ إِذَا أُمُّهُ وَإِخْوَتُهُ قَدْ وَقَفُوا خَارِجًا طَالِبِينَ أَنْ يُكَلِّمُوهُ" (مت 12: 46)، وإخوة الرب هؤلاء لم يؤمنوا به أثناء حياته على الأرض: "لأَنَّ إِخْوَتَهُ أَيْضًا لَمْ يَكُونُوا يُؤْمِنُونَ بِهِ" (يو 7: 5)، بل حسبه أقرباؤه أنه مُختل: "وَلَمَّا سَمِعَ أَقْرِبَاؤُهُ خَرَجُوا لِيُمْسِكُوهُ، لأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّهُ مُخْتَل" (مر 3: 21).. فهل كان بين هؤلاء يعقوب وإخوته؟!.. ربما، وقال البعض أن يعقوب وإخوته كانوا أبناء يوسف من زوجة سابقة قد ماتت، وعندما ظهر الرب يسوع بعد القيامة ليعقوب (1كو 15: 7) كانت نقطة التحول في حياته.
وفيما بعد قبض هيرودس على يعقوب بن زبدي وقتله بالسيف، وقبض على بطرس ولكن ملاك الرب أنقذه فترك أورشليم.. صار يعقوب أخا الرب أسقفًا لأورشليم، وترأَس مجمع أورشليم سنة 49م، وفي زيارة بولس الرسول الثانية إلى أورشليم بعد أربعة عشر عامًا التقى بيعقوب أخي الرب هذا ومعه بطرس ويوحنا، فأعطى هؤلاء الثلاثة لمعلمنا بولس الرسول يمين الشركة ليكرز بين الأمم، وفي زيارة بولس الرسول الأخيرة إلى أورشليم أشار عليه القديس يعقوب بأن يأخذ أربعة رجال عليهم نذر ويتطهر معهم وينفق عليهم ليحلقوا رؤوسهم، وذلك ليتقي غضبة اليهود عليه، وليعلموا أنه يحترم ويقدس ويجل الناموس، ولكن لم تنجح هذه الخطة إذ هاج اليهود على بولس مُصرّين على قتله لولا أن القائد الروماني قد أنقذه من بين أيديهم. وكان القديس يعقوب مداومًا على العبادة في هيكل أورشليم، متقشفًا ناسكًا مصليًا حتى أن ركبتاه صارتا كخُفي الجمل من كثرة السجود والركوع، وكانوا يدعونه بيعقوب البار، وبأمر من مجمع السنهدريم سنة 62م حمله اليهود على جناح الهيكل ليصف السيد المسيح بأنه مخادع ومضل، فإذ به يشهد الشهادة الحسنة للسيد المسيح ولأمه العذراء مريم، فطرحوه من على حجاب الهيكل ورجموه حتى أسلم الروح ونال إكليل الشهادة.
يَعْقُوبَ أَخَا الرَّبِّ.. اعتاد التلاميذ على دعوة السيد المسيح بالرب، فبطرس قال له: "اخْرُجْ مِنْ سَفِينَتِي يَا رَبُّ، لأَنِّي رَجُلٌ خَاطِئٌ" (لو 5: 8) وقال يوحنا لبطرس وهم في بحيرة طبرية: "هُوَ الرَّبُّ" (يو 21: 7)، بل "وَلَمْ يَجْسُرْ أَحَدٌ مِنَ التَّلاَمِيذِ أَنْ يَسْأَلَهُ مَنْ أَنْتَ إِذْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ الرَّبُّ "(يو 21: 12).
وَالَّذِي أَكْتُبُ بِهِ إِلَيْكُمْ هُوَذَا قُدَّامَ اللَّهِ أَنِّي لَسْتُ أَكْذِبُ فِيهِ.. لماذا اضطر بولس الرسول أن يؤكد صدقه.. هل شكَّك أحد في أقواله؟.. نعم، لقد أشاع الإخوة الكذبة في غلاطية أن بولس الرسول أمضى وقتًا طويلًا في أورشليم يتعلَّم من الرسل ولا سيما بطرس، ولذلك أكد بولس الرسول أنه لم يبقَ في أورشليم سوى خمسة عشر يومًا وهي غير كافية لتصنع رجلًا في قامة بولس الرسول، وأيضًا أكد بولس الرسول أن ما يقوله هو الصدق بعينه، واللَّه شاهد على كلامه، فهوذا بولس الرسول يستخدم كل وسيلة مقدَّسة ليقنع الغلاطيين بصدق الإنجيل الذي بشرهم به لكي لا يتشكَّك أحد من الذين بشرهم ويقع في الشك والريبة في إيمانه.
وقول بولس الرسول "قُدَّامَ اللَّهِ" لا يُعد قسمًا من الأقسام، ولا يُعد مخالفة لوصية المسيح " لاَ تَحْلِفُوا الْبَتَّةَ.. لِيَكُنْ كَلاَمُكُمْ: نَعَمْ نَعَمْ، لاَ لاَ. وَمَا زَادَ عَلَى ذلِكَ فَهُوَ مِنَ الشِّرِّيرِ" (مت 5: 34، 37)، فبولس لم يقسم بالذات الإلهيَّة ولا بالسماء ولا بالأرض، إنما وضع نفسه في الحضرة الإلهيَّة، كما كان إيليا النبي الذي كان شعاره: "حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ الَّذِي وَقَفْتُ أَمَامَهُ" (1مل 17: 1)، وإنما جعل بولس الرسول اللَّه تبارك اسمه شاهدًا على أقواله، كقوله لأهل رومية: " أَقُولُ الصِّدْقَ فِي الْمَسِيحِ، لاَ أَكْذِبُ، وَضَمِيرِي شَاهِدٌ لِي بِالرُّوحِ الْقُدُسِ" (رو 9: 1)، وقال لأهل كورنثوس: "اَللَّهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي هُوَ مُبَارَكٌ إِلَى الأَبَدِ يَعْلَمُ أَنِّي لَسْتُ أَكْذِبُ" (2كو 11: 31)، ويقول "القديس يوحنا ذهبي الفم": "وهكذا يتحدث الرسول باتضاع شديد كمتهم في محكمة العدالة، وكشخص مطلوب منه أن يجيب عن حياته "(64).
" وَبَعْدَ ذلِكَ جِئْتُ إِلَى أَقَالِيمِ سُورِيَّةَ وَكِيلِيكِيَّةَ" (غل 1: 21).. لم يمضِ بولس الرسول في أورشليم أكثر من أسبوعين حتى هاج عليه اليهود الذين من أصل يوناني بسبب مباحثاته معهم وإفحامهم، وعندما يقف العقل عاجزًا يتحرك السلاح، فحاولوا الفتك به: " فَلَمَّا عَلِمَ الإِخْوَةُ أَحْدَرُوهُ إِلَى قَيْصَرِيَّةَ وَأَرْسَلُوهُ إِلَى طَرْسُوسَ" (أع 9: 30)، فعاد بولس الرسول إلى مسقط رأسه وموطنه ومحل إقامة عائلته وأصدقائه في طرسوس، فالتقى بأصدقاء الطفولة والشباب الذين طالما شهدوا غيرته الجامحة على الديانة اليهودية، وبالتأكيد أنه لم يخفي إيمانه بالمسيح عنهم، بل صار يكرز بينهم بالحياة الأبدية، وهو لا يعبأ سواء بسخريتهم منه وهزئهم به ولا بغضبهم وانتقامهم الذي قد يصل إلى حد قتله.. لقد رأى بولس واجبًا عليه أن يخبر بعمل اللَّه العجيب معه داخل بيته ومدينته: "اذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ وَإِلَى أَهْلِكَ، وَأَخْبِرْهُمْ كَمْ صَنَعَ الرَّبُّ بِكَ وَرَحِمَكَ"(مر 5: 19).
وتعتبر طرسوس عاصمة كيلكية، فقال بولس الرسول: "أَنَا رَجُلٌ يَهُودِيٌّ طَرْسُوسِيٌّ، مِنْ أَهْلِ مَدِينَةٍ غَيْرِ دَنِيَّةٍ مِنْ كِيلِيكِيَّةَ" (أع 21: 39)، وتقع كيلكية في الجزء الجنوبي الشرقي من آسيا الصغرى، وهي ولاية رومانية، وقد منح الإمبراطور "أغسطس قيصر" ست مدن من مدن كيلكية الرعوية الرومانية، ومن هذه المدن طرسوس التي وُلد فيها بولس الرسول متمتعًا بحق هذه الرعوية، وعندما كان بولس في طرسوس أرسلت كنيسة أورشليم برنابا إلى أنطاكية (أع 11: 22) وأنطاكية قريبة من كيلكية: "ثُمَّ خَرَجَ بَرْنَابَا إِلَى طَرْسُوسَ لِيَطْلُبَ شَاوُلَ. وَلَمَّا وَجَدَهُ جَاءَ بِهِ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ. فَحَدَثَ أَنَّهُمَا اجْتَمَعَا فِي الْكَنِيسَةِ سَنَةً كَامِلَةً وَعَلَّمَا جَمْعًا غَفِيرًا"(أع 11: 25، 26)، وسورية هي بلاد آرام التي خضعت لداود الملك والتي حكمها السلوقيين بعد موت الإسكندر الأكبر، والتي سيطر عليها الرومان سنة 64 ق. م، وكل من سورية وكيلكية انضما معًا كإقليم روماني واحد سنة 25م، ودُعي إقليم سوريا كيليكية Syria Cilicia.
وفي أنطاكية دعا الروح القدس برنابا وشاول للخدمة التي دعاهما إليها، وسورية وكيلكية مناطق بعيدة عن أورشليم حتى لا يدَّعي أحد أنه كان يخدم تحت إشراف الرسل، فتبشير بولس في سورية وكيلكية يوضح أنه لم يكن يخدم في منطقة تابعة لإشراف الآباء الرسل. وفي الرحلة التبشيرية الثانية ذهب بولس الرسول أيضًا ومعه سيلا: "فَاجْتَازَ فِي سُورِيَّةَ وَكِيلِيكِيَّةَ يُشَدِّدُ الْكَنَائِسَ" (أع 15: 41).
"وَلكِنَّنِي كُنْتُ غَيْرَ مَعْرُوفٍ بِالْوَجْهِ عِنْدَ كَنَائِسِ الْيَهُودِيَّةِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ. غَيْرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْمَعُونَ: أَنَّ الَّذِي كَانَ يَضْطَهِدُنَا قَبْلًا، يُبَشِّرُ الآنَ بِالإِيمَانِ الَّذِي كَانَ قَبْلًا يُتْلِفُهُ. فَكَانُوا يُمَجِّدُونَ اللَّهَ فِيَّ" (غل 1: 22 - 24).
وَلكِنَّنِي كُنْتُ غَيْرَ مَعْرُوفٍ بِالْوَجْهِ عِنْدَ كَنَائِسِ الْيَهُودِيَّةِ.. تمثل منطقة اليهودية المنطقة الجنوبية من أرض فلسطين، وبها أورشليم وبيت لحم وغيرهما، ولأن بولس الرسول قطع رحلته من دمشق إلى أورشليم مباشرة، فهو لم يقم بزيارة كنائس اليهودية التي قال عنها سفر الأعمال: " وَأَمَّا الْكَنَائِسُ فِي جَمِيعِ الْيَهُودِيَّةِ وَالْجَلِيلِ وَالسَّامِرَةِ فَكَانَ لَهَا سَلاَمٌ. وَكَانَتْ تُبْنَى وَتَسِيرُ فِي خَوْفِ الرَّبِّ وَبِتَعْزِيَةِ الرُّوحِ الْقُدُسِ كَانَتْ تَتَكَاثَرُ" (أع 9: 31).. قد يسمح الرب بالاضطهاد من أجل انتشار الكرازة: " فَالَّذِينَ تَشَتَّتُوا جَالُوا مُبَشِّرِينَ بِالْكَلِمَةِ" (أع 8: 4)، وقد يسمح اللَّه بفترات راحة وهدوء فتنمو الكنائس وتمتد وتزدهر.. لم يكن بولس الرسول معروفًا في تلك الكنائس، باستثناء كنيسة أورشليم التي أمضى بها خمسة عشر يومًا، فربما رآه بعض المؤمنين وتعرفوا عليه دون البعض الآخَر، ولا سيما أن سمعته الرديئة قبل إيمانه كانت قد عمّت آفاق أورشليم، فكم من الرجال والنساء قبض عليهم وساقهم إلى السجون؟! وكم قتل منهم؟! وكانوا يشتهون رؤيته بعد إيمانه والتعرُّف عليه، وبحسب ما وصل إلينا عن وصف القديس بولس فهو رجل قصير القامة، أصلع الرأس، كثيف الحاجبين، له عينان ثاقبتان.
وَلكِنَّنِي كُنْتُ غَيْرَ مَعْرُوفٍ بِالْوَجْهِ عِنْدَ كَنَائِسِ الْيَهُودِيَّةِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ.. لم يكن بولس معروفًا عند كنائس اليهودية حتى هذه اللحظة، لكن فيما بعد واتته الفرصة لزيارة تلك الكنائس والتعرُّف عليها عن قُرب، والارتباط بعلاقات حميمة مع بعض أبنائها، حتى أنه شبّه كنيسة تسالونيكي المتألمة بكنائس اليهودية قائلًا: "فَإِنِّكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ صِرْتُمْ مُتَمَثِّلِينَ بِكَنَائِسِ اللَّهِ الَّتِي هي فِي الْيَهُودِيَّةِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، لأَنَّكُمْ تَأَلَّمْتُمْ أَنْتُمْ أَيْضًا مِنْ أَهْلِ عَشِيرَتِكُمْ تِلْكَ الآلاَمَ عَيْنَهَا، كَمَا هُمْ أَيْضًا مِنَ الْيَهُودِ" (1تس 2: 14)، وإلى هذه الكنائس كتب بولس الرسول رسالته إلى العبرانيين.
كَنَائِسِ الْيَهُودِيَّةِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ.. ينبغي أن يكون المسيح يسوع ظاهرًا في الكنائس، بأن تكون الكنائس ثابتة فيه، وكلمة "فِي الْمَسِيحِ" كلمة محببة لدى معلمنا بولس الرسول، فيقول عن أندرونيكس ويونياس: "وَقَدْ كَانَا فِي الْمَسِيحِ قَبْلِي" (رو 16: 6)، وأشاد بولس الرسول بكنائس اليهودية المتألمة الثابتة في المسيح وجعلها مقياسًا للكنائس الأخرى (1تس 2: 14، 15).
ويقول "د. وليم آدي": " الَّتِي فِي الْمَسِيحِ ذكر هنا العلاقة العامة التي ربطت بعض الكنائس ببعض، وهذا يدل على وحدة إيمانهم وعقائدهم فوق دلالته على أنها كانت متحدة بالمسيح باعتبار كونه رأسها وكونه حاضرًا بروحه في كل منها"(65).
غَيْرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْمَعُونَ أَنَّ الَّذِي كَانَ يَضْطَهِدُنَا قَبْلًا يُبَشِّرُ الآنَ.. فقد بلغتهم الأخبار التي أثارت تعجبهم واندهاشهم، كيف تحوَّل القاتل، الوحش الكاسر، الذئب الضاري إلى حمل وديع، إنسان متواضع القلب يموت كل النهار من أجل المصلوب عنه؟!! كيف تحوَّل الذي طالما اضطهد أتباع الصليب بإفراط، حتى صار الصليب موضع إعزازه وافتخاره؟!!.. صار يحمل الصليب على منكبيه، بل في قلبه أينما توجه للكرازة، يرسمه أمام أعين أولاده وفي أذهانهم وقلوبهم.
وكم أثلج إيمان شاول وتوبته قلوب الأرضيين بل والسمائيين أيضًا، فيقول "الدكتور القس غبريال رزق اللَّه": "وإن كان في السماء من فوق وقدام ملائكة اللَّه أمام العرش يكون فرح بخاطئ واحد يتوب (لو 15: 7، 10) فكيف لا ترقص القلوب فرحًا؟! وكيف لا تهتز النفوس ابتهاجًا؟! ويرتفع النشيد بنغمة السرور والنصرة، ويعلو صوت الموسيقى إلى السماء بين قديسي العلي على الأرض؟! لا بخاطئ واحد قد تاب، بل بالحري برسول عظيم تغيَّر من "مجدف ومضطهد ومفتري" (1تي 1: 13) ومتلف لكنيسة اللَّه إلى مبشّر بالإنجيل لجميع الأمم، وعامل قوي في بناء ملكوت اللَّه، وتأسيس الحق في الأرض"(66).
يُبَشِّرُ الآنَ بِالإِيمَانِ الَّذِي كَانَ قَبْلًا يُتْلِفُهُ.. هذه معجزة النعمة التي ينعم بها اللَّه على كنيسته من جيل إلى جيل، فطالما حوَّل اللَّه أناسًا أشرارًا أعداء للكنيسة إلى مؤمنين أبرار، وكم من ذئاب مفترسة تحوَّلت إلى حملان وديعة، مثل شاول الطرسوسي، وأريانوس والي أنصنا وغيرهما الكثير والكثير، ويقول "القديس يوحنا ذهبي الفم": "الرسول يتذكّر دوامًا إتلافه الماضي للكنيسة، بينما يتغاضى عن ذكر أعماله المجيدة فيما بعد، يا له من اتضاع مبارك وواضح من عبارة: "كُنْتُ غَيْرَ مَعْرُوفٍ بِالْوَجْهِ عِنْدَ كَنَائِسِ الْيَهُودِيَّةِ"، أنه يؤكد للغلاطيين أنه لا يبشر بالختان بل حتى أنه غير معروف عند كنائس اليهودية"(67).
فَكَانُوا يُمَجِّدُونَ اللَّهَ فِيَّ.. يمجدون اللَّه لأجل عمله العجيب فيَّ، فطالما صلوا من أجلي ومن أجل أمثالي من المسيئين إليهم لكيما يردنا الرب إلى صوابنا: "غير المؤمنين ردُّهم"، وهاهم يرون ثمرة صلواتهم فيَّ ولذلك مجدوا اسم اللَّه الذي استجاب لصلواتهم. فإن تغيري إلى النقيض أثار دهشتهم، إذ كيف يتحوَّل الذئب الضاري إلى حمل وديع؟!.. لقد كنتُ أكثر من ذئب يتعطش لدماء المسيحيين ولا يشبع، أما الآن فصرت أموت طوال النهار من أجل الذي كنت أضطهد أتباعه.. ويقول "الدكتور القس غبريال رزق اللَّه" عن شاول الطرسوسي: "فقد كانت غيرته نار متقدة، وجمراتها لهيب آتون محمى سبعة أضعاف لإحراق وملاشاة كل أثر للكرازة ببر الإيمان.. فكان قبلًا يتلف بر الإيمان إثباتًا لبر الناموس، أما الآن فقد انقلب الوضع وأصبح يبشر ببر الإيمان"(68).
فَكَانُوا يُمَجِّدُونَ اللَّهَ فِيَّ.. لم يقل بولس الرسول أن المؤمنين في كنائس اليهودية كانوا يمتدحونني لأنني نلت إعجابهم، فلم يسعَ بولس لكسب مجد شخصي ولا كسب ود الآخَرين، إنما كان جلَّ اهتمامه مجد اللَّه، هذه النبرة التي لم تخلو منها كتاباته، فيقول في رسالته إلى أهل رومية: "لأَنَّ مِنْهُ وَبِهِ وَلَهُ كُلَّ الأَشْيَاءِ. لَهُ الْمَجْدُ إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ" (رو 11: 36).. " لَهُ الْمَجْدُ إِلَى الأَبَدِ آمِينَ" (رو 16: 27)، وقال لأهل كورنثوس: "لأَنَّكُمْ قَدِ اشْتُرِيتُمْ بِثَمَنٍ فَمَجِّدُوا اللَّهَ فِي أَجْسَادِكُمْ وَفِي أَرْوَاحِكُمُ الَّتِي هي للَّهِ" (1كو 6: 20).. "فَإِذَا كُنْتُمْ تَأْكُلُونَ أَوْ تَشْرَبُونَ أَوْ تَفْعَلُونَ شَيْئًا فَافْعَلُوا كُلَّ شَيْءٍ لِمَجْدِ اللَّهِ"(1كو 10: 31)، وقال لأهل أفسس: "لَهُ الْمَجْدُ فِي الْكَنِيسَةِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ إِلَى جَمِيعِ أَجْيَالِ دَهْرِ الدُّهُورِ آمِينَ" (أف 3: 21)، وقال لأهل فيلبي: "وَللَّهِ وَأَبِينَا الْمَجْدُ إِلَى دَهْرِ الدَّاهِرِينَ. آمِينَ" (في 4: 20).
فَكَانُوا يُمَجِّدُونَ اللَّهَ فِيَّ.. عودة الشرير عن شروره مدعاة لفرح المؤمنين، بل وفرح ملائكة السماء، ومدعاة أيضًا لتمجيد اسم اللَّه، وأيضًا عمل اللَّه في قديسيه مدعاة لتمجيد اسمه، فعندما نتلامس مع عمل اللَّه في قديسيه نمجد اللَّه فيهم، وجاء في "الموسوعة الكنسية": "إن كانت الكنيسة تعمل تمجيدًا للَّه في أعياد القديسين لأن المسيح كان يحيا فيهم فظهر بنوره وتعاليمه في حياتهم العملية، فهل حياتنا تمجد اللَّه أم تعثر الآخرين؟! وهل نصلي من أجل توبتنا وتوبة الآخرين ليتمجد اللَّه فينا"(69).
← تفاسير أصحاحات غلاطية: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6
الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح
تفسير الرسالة إلى أهل غلاطية 2 |
قسم
تفاسير العهد الجديد الأستاذ حلمي القمص يعقوب |
مقدمة رسالة غلاطية |
_____
(17) أورده القمص تادرس يعقوب - رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية ص 17
(18) رسالة القديس بولس إلى أهل غلاطية ص 43، 44
(19) تفسير رسالة غلاطية للقديس يوحنا ذهبي الفم ص 7، 8
(20) رسالة القديس بولس إلى أهل غلاطية ص 46
(21) تفسير رسالة غلاطية للقديس يوحنا ذهبي الفم ص 9
(22) شرح رسالة القديس بولس الرسول إلى أهل غلاطية ص 69
(23) رسالة القديس بولس إلى أهل غلاطية ص 47
(24) تفسير العهد الجديد - رسالتا غلاطية وأفسس ص 21، 22
(25) رسالة القديس بولس إلى أهل غلاطية ص 48، 49
(26) الرسالة إلى أهل غلاطية ص 971
(27) تفسير العهد الجديد - رسالتا غلاطية وأفسس ص 22
(28) أورده القمص تادرس يعقوب - رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية ص 18
(29) تفسير رسالة غلاطية للقديس يوحنا ذهبي الفم ص 10، 11
(30) رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية ص 20
(31) رسالة القديس بولس إلى أهل غلاطية ص 53، 54
(32) أورده القمص تادرس يعقوب - رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية ص 20
(33) تفسير رسالة غلاطية للقديس يوحنا ذهبي الفم ص 12
(34) رسالة القديس بولس إلى أهل غلاطية ص 57، 58
(35) شرح رسالة القديس بولس الرسول إلى أهل غلاطية ص 90
(36) شرح رسائل القديس بولس الرسول إلى أهل غلاطية ص 94
(37) شرح رسالة القديس بولس الرسول إلى أهل غلاطية ص 97
(38) أورده القمص تادرس يعقوب - رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية ص 22
(39) شرح رسالة القديس بولس الرسول إلى أهل غلاطية ص 95
(40) رسالة القديس بولس الرسول إلى أهل غلاطية ص 62
(41) شرح رسالة القديس بولس إلى أهل غلاطية ص 98 - 100
(42) أورده القمص تادرس يعقوب - رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية ص 23
(43) المرجع السابق ص 24
(44) شرح رسالة غلاطية ص 63
(45) تفسير العهد الجديد - رسالتا غلاطية وأفسس ص 27
(46) شرح رسالة القديس بولس الرسول إلى أهل غلاطية ص 108، 109
(47) الرسالة إلى أهل غلاطية ص 973
(48) الأفكار الرئيسية للعظات الكتابية ج 9 الرسالة إلى أهل غلاطية ص 20
(49) شرح رسالة القديس بولس الرسول إلى أهل غلاطية ص 109، 110
(50) الموسوعة الكنسية لتفسير العهد الجديد ج 4 ص 235
(51) ر. آلان كول - ترجمة ألفي فاضل - التفسير الحديث للكتاب المقدَّس - الرسالة إلى غلاطية ص 47
(52) شرح رسالة القديس بولس الرسول إلى أهل غلاطية ص 110
(53) رسالة القديس بولس إلى أهل غلاطية ص 70، 71
(54) الأفكار الرئيسية للعظات الكتابية ج 9 الرسالة إلى أهل غلاطية ص 17
(55) الكنز الجليل في تفسير الإنجيل ج 7 ص 16، 17
(56) شرح رسالة غلاطية ص 90
(57) تفسير رسالة غلاطية للقديس يوحنا ذهبي الفم ص 47
(58) شرح رسالة القديس بولس الرسول إلى أهل غلاطية ص 116
(59) الأفكار الرئيسية للعظات الكتابية ج 9 الرسالة إلى أهل غلاطية ص 20
(60) الأفكار الرئيسية للعظات الكتابية ج 9 الرسالة إلى أهل غلاطية ص 20
(61) منشورات النفير - تفسير الكتاب المقدَّس ج 6 ص 214
(62) تفسير رسالة غلاطية للقديس يوحنا ذهبي الفم ص 18
(63) المرجع السابق ص 18، 19
(64) تفسير رسالة غلاطية للقديس يوحنا ذهبي الفم ص 19
(65) الكنز الجليل في تفسير الإنجيل ص 19
(66) شرح رسالة غلاطية ص 119
(67) تفسير رسالة غلاطية للقديس يوحنا ذهبي الفم ص 19
(68) شرح رسالة غلاطية ص 117
(69) الموسوعة الكنسية لتفسير العهد الجديد ج 4 ص 237
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/bible/commentary/ar/nt/helmy-elkomos/galatians/chapter-01.html
تقصير الرابط:
tak.la/9h4tgbv