ألحان الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تتميز بأنها هي ألحان صوتية بحتة، لا تستخدم فيها آلات موسيقية سوى آلتي الناقوس والمثلث في عدد محدد من الألحان لضبط الإيقاع ولإضفاء روح البهجة في الألحان المفرحة. ويحلل مستر "بول ماكومون"[50] قائلًا: "عندما جاء المسيح وحل العصر المسيحي، اتسع اضطهاد المسيحيين وانتهت اجتماعات العبادة المشتركة عامة، إنما كانت هناك جماعات صغيرة من المؤمنين تستخدم الموسيقى سرًا، أما الاحتفالات الموسيقية الكبيرة التي جاء ذكرها في العهد القديم فلم يعد لها أثر إنما رغبة الشعب المسيحي الفطرية في التعبير عن فرح الخلاص بواسطة الترنيم لم تطمس، وقد ساعد انتعاش الموسيقى في السنين المتأخرة، على إشباع رغبات الشعب الكامنة في أن يهتف ترنمًا، إن الموسيقى التعبدية قد تأسست تأسسًا دائمًا وأصبحت مقبولة عند الشعب أكثر من أي وقت سبق".
وكلمة "سرًا" هذه توضح عدم استخدام الآلات الموسيقية لخفض مستوى التسبيح لأدنى مستوى سمعي بحيث لا يُسمع خارج مكان العبادة. ثم يستطرد بول ماكومون قائلًا: "نجد غالبًا هذه الأيام الذين يصرون على أن الآلات الموسيقية هي من الشيطان ويجب أن لا تستخدم في اجتماعات العبادة ربما إنهم يؤسسون نظريتهم على حقيقة أن العهد الجديد يقول قليلًا عن الآلات الموسيقية غير أنهم يغفلون الحقيقة أنه أثناء العهد الجديد لم تستطع الرعايا أن تشترى آلات غالية الثمن كالتي استخدمت في العهد القديم لأن أكثرية الكنائس في العهد الجديد كانت دائمة الانتقال لسبب الاضطهادات لذا لم يكن لها وقت لتطوير الموسيقى أو لتدريب موسيقيين". إلا أن رأي ماكومون لم يلقى قبولا من الناحية المنطقية عند بعض الباحثين.
أما مجلة "إبداع" العدد الثاني (فبراير 1994) فقد تناولت موضوع منع استخدام الآلات الموسيقية بالكنيسة القبطية، بمقال ذكرت فيه: "إن الغناء كان يعتمد على الحنجرة في بعض معابد مصر القديمة، فمثلًا في مقبرة أوزوريس إله الموتى بجزيرة (فيلا) المقدسة، كان محظورًا استعمال الآلات الموسيقية وهو نفس الطقس المتبع في الكنيسة القبطية وكان عند العبرانيين طقسان موسيقيان هما: طقس الهيكل ويستخدم جميع الآلات الموسيقية في ذلك الوقت، وطقس المجمع وكان يستخدم الموسيقى الصوتية البحتة [51] "A capella" وعندما بشر الرسل الأطهار بالمسيحية في أنحاء المسكونة اختاروا طقس المجمع اليهودي وهو الصوتي البحت وأثبت قانون (رقم 80) لإكليمندس السكندري منع دخول واستعمال الآلات الموسيقية في الكنيسة. فمثلًا كان المتبع في موكب الإمبراطور من قصره إلى الكنيسة أن يعزف على الأرغن المائي، وعندما يقتربون من الكنيسة يترك الأرغن على بعد منها، تثبيتًا للطقس الكنسي الموسيقى الصوتي في العبادة وهذا الطقس بعينه هو المتبع في الكنائس القبطية واليونانية والسريانية والروسية حتى الآن، أما كنيسة روما فقد غيرت موسيقاها الصوتية منذ عام 1000م إلى موسيقى آلية وأضافت الهارموني لتوقيعها على الأرغن".
وأرجع البعض منع استخدام الآلات إلى أن حنجرة الإنسان هي أعظم آلة موسيقية تستطيع تأدية الربع تون الصعب بدقة ومهارة، فلماذا تُستخدم الآلة التي هي أقل عظمة من الحنجرة الطبيعية التي خلقها الله. كما أرجع آخرون منع استخدام الآلات الموسيقية في الكنيسة القبطية إلى القرون الأولى عندما أرادت الكنيسة العامة شرقًا وغربًا أن تقطع كل صلة بالعبادات الأخرى، فمنعت إقامة التماثيل وحرمت استخدام الآلات الموسيقية التي كانت تشكل عنصرًا أساسيًّا في الاحتفالات الوثنية صونًا للمؤمنين من تذكارات الشر الوثنية وتركيزًا لانتباههم في قوة الكلمات الإلهية.
وعلل عادل كامل عدم استخدام الآلات الموسيقية بالكنيسة قائلًا: "إذا كانت الموسيقى القبطية قد جاءتنا من الموسيقى الدينية التي رتلها الفراعنة في المعابد فإن الطبيعة المعمارية في المعبد تختلف تمامًا عن الطبيعة المعمارية لكنائس العصور الأولى والتي كانت تُبنى تحت الأرض هربًا من الاضطهادات والعذابات التي حلت على الشعب القبطي في عصور الاستشهاد المختلفة. وعليه فإن الألحان كانت تؤدى بالأصوات البشرية ومن المستبعد أن تكون الآلات الموسيقية خاصة الإيقاعية قد استخدمها هؤلاء المضطهدون الذي يصلون ويتعبدون وهم مهددون بالموت في آية لحظة".
ومن المعروف أن الأنشاد الجريجوري" Gregorian Chant" كان أسلوبًا للإنشاد والتلحين حسب القواعد والأسس التي وضعها القديس "جريجوري" (590-604م) بابا الكنيسة الكاثوليكية في ميلانو لتلحين التراتيل الكنسية في القرن السادس الميلادي وهو أسلوب للغناء اللحني بدون أي مصاحبة هارمونية أو آلات موسيقية وهو أسلوب يتميز بالوقار والبساطة الفنية حتى أنه كان يطلق عليه الغناء البسيط "Palin Chant" وقد وصل هذا إلى قمته عام 800م ومما لا شك فيه أن هذا الأسلوب الجريجوري الوقور قد انتقل إلى كنيسة روما نقلًا عن الكنيسة القبطية الأم.
← انظر مقالات وكتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
وقد تحدث علماء الحملة الفرنسية في مؤلفهم الشهير "وصف مصر" الكتاب السابع عن اقتناعهم التام بعدم وجود مصاحبة آلية في ترنيمة "موسى النبي" إذ يقولون:
"نتحدى أي سيمفوني مقدام أن يدلنا على آلة واحدة معروفة او حتى متخيلة، تستطيع نغماتها أن تبلغ درجة من التمام أو النضج لحد يكفى معه لأن تلتحم بالصوت في حالة شبيهة، دون أن تنال من رجولة ونبل وبساطة الأسلوب وكذلك من هيبة وجلال وعظمة الأفكار، وإذا حدث أن استطاعت آلات لموسيقى أن تتكيف مع لحن بمثل هذه القوة فإن موسى لم يكن يتردد في استخدامها في هذا اللحن".
وتوجد رسالة للقديس كليمندس السكندري جاءت في كتابه الشهير "المربى" ينتقد فيها بشدة استخدام الآلات الموسيقية إذ كتب يقول: "الإنسان في حقيقته آلة للسلام، في حين أن باقي الآلات الموسيقية إذا بحثت وتحريت سنجدها آلات ووسائل للحرب والقتال تلهب المشاعر نحو الشهوات أو لحمل السلاح وتثير الغضب والحنق أما الآلة الوحيدة التي هي من أجل السلام فهي الرب الكلمة وحده، ذلك الذي علينا أن نستخدمه لكي نسبح الله، ولن نستخدم بعد ذلك الطنبور القديم ولا الصور ولا الدف ولا الناي، تلك التي كان خبراء الحرب والذين لا خوف من الله في قلوبهم يستخدمونها في اجتماعاتهم ومهرجاناتهم هادفين إلى إيقاظ أذهانهم المنحرفة بتلك الأنغام بل لتكن مشاعرنا المهذية الراقية متفقة مع الناموس".
ومن رسالة القديس كليمندس السكندرى يتضح أن منع استخدام الآلة الموسيقية يرجع إلى القرن الثاني الميلادي وأن آلة الناي الرقيقة الخافتة الصوت العذبة النغمات، المريحة للأعصاب المتوترة، الحزينة بما يتناسب ولمسة الحزن الوقورة التي تغلف ألحان الكنيسة القبطية، نُظر إليها في هذا الوقت نظرة تجعلها آلة تلهب المشاعر نحو الشهوات أو لحمل السلاح وتثير الغضب والحنق ولا يجب أن يستخدمها إلا خبراء الحرب. إن الفكر الذي تحويه رسالة القديس "كليمندس السكندري" وإن جاء يتعارض مع نظرة "داود النبي" للآلة الموسيقية والتي كان يصنعها بنفسه لتسبيح الرب وحمده، ومع النظرة الروحية للآلات الموسيقية التي تغلف الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، إلا أنه يبدو أن طبيعة الموسيقى في أواخر القرن الثاني وبداية القرن الثالث الميلادي ربما كانت تثير الغضب والحنق وان مستخدميها كانوا في اجتماعاتهم ومهرجانتهم يهدفوا إلى إيقاظ الأذهان إلى الانحراف بتلك الأنغام مما أدخل الخوف في قلب القديس كليمندس السكندري من أن تتسرب هذه النوعية الرديئة من الموسيقى داخل الكنيسة مستخدمة هذه الآلات الموسيقية فتنحرف الأذهان ويحل الغضب والحنق بديلًا عن السلام والوداعة. إن الحقبة التي سبقت مجيء القديس كليمندس السكندري في أواخر القرن الثاني كُتب عنها أن الأقباط قد تسلموا من النساك اليهود طريقة التسبيح بالناي المزمار "Flute " في اجتماعاتهم العامة المسماة بالأغابي وظلوا يستخدمون الناي في اجتماعات الأغابي حتى سنة 190م.حينما أوقف كليمندس الاسكندري الناي واستبدله بالناقوس "Cymbalon". وأن سنة 190م هي السنة التي بدأ كليمندس السكندري رئاسته لمدرسة الإسكندرية ونشاطه الكنسي الذي تركز في الفترة من عام 190 إلى عام 200م، فمنذ اليوم الأول لتوليه منصب مدير مدرسة اللاهوت ونشاطه الكنسي وقد عقد العزم على منع الآلة الموسيقية من التسبيح حتى في الاجتماعات التي يلتفون فيها حول مائدة الأغابي بعيدًا عن طقوس الليتورجيا المقدسة. ويشرح القديس كليمندس السكندري رؤيته الخاصة ونظرته للآلة الموسيقية عندما يقوم بتحليل المزمور 150 والذي فيه يدعو داود النبي كل الخليقة وجميع الآلات الموسيقية لكي تسبح الرب فيقول كليمندس:
سبحوه بصوت البوق: لأن بصوت البوق سيدعو الراقدين إلى القيامة. سبحوه بالمزمار: أي اللسان الذي هو مزمار الرب. سبحوه بالقيثارة: وهي الفم حينما يحركه الروح القدس كالوتر. سبحوه بطبول ورقص: يشير إلى الكنيسة التي تتأمل القيامة من الأموات من خلال وقع الضرب على الجلد الميت. سبحوه بالوتار والأرغن: الأرغن هو الجسد وأعصابه هي الأوتار التي حينما تتقبل الانتعاش بانسجام من الروح القدس يوقع عليها من الأصوات البشرية. سبحوه بصنوج حسنة الصوت: فهو يشير إلى الشفتين في الفم حينما يوقع عليها النغمات. كل نسمة فلتسبح اسم الرب: هنا يدعو البشرية كلها أن تسبح لأنه يعتني بكل مخلوق يتنفس والإنسان هو حقًا آلة السلام.[52] ويستطرد قائلًا: ولكن لأن الأجناس كل جنس يستخدم آلة من هذه الآلات لإعلان الحرب ولا توجد آلة واحدة للسلام وهي الكلمة التي بها نكرم الله ونمجده" فلذلك لا نستخدم إلا الكلمة وحدها. فنحن لا نستخدم البوق أو المزمار أو الطبل أو الصفارة التي يستخدمها المختصون في الحروب وفي حفلاتهم. أليست القيثارة ذات العشرة أوتار هي إشارة إلى كلمة يسوع"[53].
وإلا أن القيثارة المشهورة التي في منطقة أيرلندا هي مأخوذة بالفعل من القيثارات التي نقلها المبشرون المصريون والتي كانت الكتيبة الطيبية التي بدأت من ايطاليا إلى سويسرا ثم أيرلندا من أهم هذه البعثات التبشيرية. وهذا يدل على أن المبشرين كانوا حريصين على أن يحملوا معهم آلات موسيقية "كالقيثارة" ضمن برنامج التبشير ليكون التسبيح هو الركيزة الأساسية في كرازاتهم. إن المصريون السكندريون على وجه الخصوص كانوا يتفوقون على الشعوب الأخرى في العزف على الناي والجنك حتى أن الرجل من أدنى طبقات الشعب، ذلك الذي لا يعرف كيف يكتب اسمه كان يستطيع أن يضع يده على أدنى خطأ يمكن أن يقع فيه أي عازف عند التوقيع على آلة الناي أو الجنك بل لقد بلغ فن العزف على آلة الناي في مدينة الإسكندرية درجة من الإتقان إلى الحد الذي بات فيه العازفون السكندريون مطلوبين يستدعون إلى كل مكان، وكانت السعادة تتملك الناس حين يستحوذون على واحد من هؤلاء العازفين.[54] وبالرغم من كل هذا إلا أن كليمندس الاسكندري أوقف استخدام الناي واستبداله بالناقوس "Cymbalon".
إن بعض الأوسطيون المعتدلون والمتحمسين للآلات الموسيقية يروا عدم حرمانها من التسبيح خارج الليتورجيا، ويؤيدون منعها داخلها. باعتبار أن استخدام الآلات الموسيقية في الليتورجيا المقدسة سواء في خدمة القداس الإلهي أو في الطقوس الكنسية المرتبطة بصحن الكنيسة تُخرج الكنيسة القبطية التقليدية عن صورتها التي تم استلامها من الآباء الرسل.
_____
[50] بول ماكمون- الموسيقى في الكتاب المقدس- تعريب جس كونراد ولمن- بيروت 1971.
[51] - a Capella أكابيلا، هو لفظ يطلق على الغناء الكورالي بدون آلية، وهو أسلوب أخذ عن الموسيقى الكنائسية كأسلوب غنائي بح، وقد بلغ هذا الأسلوب ذروته في القرن السادس على يد "باليسترينا"..
[52] القس كيرلس كيرلس- القداسات الثلاثة متقابلة مع الضبط والشرح- كنيسة مارجرجس بخماروية- الطبعة الثانية- 1987- ص 240
[53] الأب متى المسكين- الأفخارستيا والقداس- الجزء الأول- دير القديس الأنبا مقار- وادي النطرون- 1977- ص 416
[54] وصف مصر- الكتاب السابع – مرجع سابق – ص132
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/articles/george-kyrillos/musicality-coptic-hymns/acapella.html
تقصير الرابط:
tak.la/adbp9kv