قليلاً ما نتحدّث حول الجمال اللّيتورجي في كنيستنا السكندريّة الثقافة، المرقسيّة التسليم، القبطيّة التاريخ، الأرثوذكسيّة الإيمان. كثيرًا ما نختزله في نغمةٍ! إلاّ أنّ الجمال اللّيتورجي يتعدّى نغمة تهتز لها النفس طربًا إلى معنى مُرتّل يُغيّر النفس لتلتقي المسيح في حضرة سمائيّة تشعر بألفة معها كما لعائلة بيت الله كما يكتب القديس بولس. أن نكون معًا في الحضور الإلهي هذا هو المعنى الأصيل للّيتورجيّة. وحينما نجتمع بقلب واحد وعلى إيمانٍ واحد بل متطلّعين إلى الرجاء الواحد، يأتي الله الذي يتناغم حضوره مع الوحدانيّة. فالله لا يُقدِّس التشرذم الإيماني ولا يُبارِك على الانقسام الجماعي بحضوره الفاعل؛ إنّه إله الوحدانيّة التي يتناغم فيها أقانيم الثالوث في حبِّ.
نجتمع معًا ولا يملك علينا سوى شوق التغيُّر إلى تلك الصورة عينها صورة يسوع محبوب النفس الذي بإمكانه وحده أن يُجمِّل كلّ قبحٍ رسمه العالم والشرير على صورتنا الأصليّة الإلهيّة.
نجتمع معًا في تضرُّع أن يسكب علينا الروح الواحد فنتّحد في الحبّ لنخرج للعالم في وحدانيّة الحب نكرز لهم بجمالٍ لا يمكن استحضاره من بيوت التجميل؛ هو جمال الروح الوديعة الهادئة الصافية المحدِّقة في شوقٍ إلى العلاء تتنسّم رائحة المسيح الذكيّة التي يجلبها الروح القدس وتعيد انتاجها في العالم حيّة بشهادة الفضيلة.
في عالمٍ لم يَعُد فيه من إمكانيّة توحُّد ولو حول مائدة عائليّة، تدعونا الكنيسة لنتّحد معًا في خبز التسبيح الذي يرفعنا فوق العالم الحاضر ويثبِّت وجوهنا إلى أورشليم العليا أمّنا جميعًا. وبينما نتغذّى معًا على خبز التسبيح الذي يتحوَّل إلى شهد العسل في القلوب التائبة والمنكسرة تحت أقدام المُخلِّص، يقدِّم الله لنا أثمن ما في الوجود، يقدِّم ذاته، ليرفعنا فوق الوجود المادّي. يقدِّم ذاته في كسرةٍ من خبزٍ ورشفةٍ من كأسٍ، تحمل سرّ الحياة، وتُغيّر الحياة. خبز التسبيح اللّيتورجي لا ينفصل عن خبز الحياة المأكول في شوق الحبّ.
ليتورجيتنا يستشعرها القلب المترّجي الله في توبة. كلّ كبرياء وذاتية تأنف من الحضور للاجتماع اللّيتورجي جملةً إذ يضع الإنسان أمام حالة من السكينة الضاغطة على قلب الإنسان المعاصر والذي يفرّ بكلّ ما يملك من تلك القوة ليتجنّب تلك السكينة المؤلمة. نعم السكينة مؤلمة لأنّها فاضحة لخواء الإنسان. هي أشبه بتوقُّف المُخدِّر لمريض جراحه متقيّحة، يغيب الألم مع المخدِّر ولكن توقُّف المخدِّر يجعل من أنينه صدّاحًا حتى إلى عنان السماء.
السكينة اللّيتورجيّة ليست نتاج نغمات خارجيّة بقدر ما هي سكينة حضور روح الله الوديع للروح الإنسانيّة والذي يجعلها تنصت لصوت الله الشافي العذب الذي يأتي كما من نسيمٍ رطب على وجهٍ لفحته شمس الظهيرة.
كلّ صخبٍ ليس من اللّيتورجيّة القبطيّة في شيء؛ فإن جاز لنا أن نشير إلى ميزة رئيسة للّيتورجيّة القبطيّة عن الكثير من ليتورجيات الكنائس الأخرى، نجد أنّ الخشوع الصوتي واللّحني الذي يستحضر اتّضاع الإنسان أمام الله لينال منه ملء قوّته فيخرج من الصلاة اللّيتورجيّة مسيحيًّا فتيًّا بالمسيح لا بذاته.
إلاّ إننا كثيرًا ما نتوقّف عند اللّحن اللّيتورجي وجماله لأنّ الصوت بطبيعته تستقبله إحدى الحواس الأكثر تأثيرًا في النفس؛ حاسّة السمع. بيد أنّه علينا بنفس القدر أن نكتشف الجمال اللّيتورجي في النصّ وما به من مدلولالات ومعانٍ وجمالات ترفع النفس إلى مواجهة الحبّ مع الله الثالوث. هذا يتطلّب فقط أن يكون الإنسان في حالة احتياج لله شاعرًا بهشاشته ويكون في الوقت عينه غير مكتفٍ بذاته.
المعاني تؤسِّس للإيمان وهو ما يجب أن ننتبه له إذ أن إيماننا يتشكّل من المعاني التي تذخر بها عبادتنا اللّيتورجيّة أو عبادتنا الشخصيّة التي أوصت بها الكنيسة من نسيج الإنجيل وليس من موضع آخر. التغرُّب عن المعنى يؤدِّي إلى اغتراب عن الإيمان الذي يُميِّز حسّ الجماعة الكنسيّة من نحو الله. ليتنا نتوقّف عند المعاني اللّيتورجيّة بالكثير من التأمُّل والتمعُّن والفهم ولكن الأهم بالكثير من الصلاة؛ فالصلاة هي التي تبقينا في حالة الاتضاع والذي يكرِّس الاتّصال بيننا وبين الله لننال البصيرة وننعم بدفء النور.
هبنا أيها الآب السماوي اتضاع الحبّ
لننال من ملء قوّتك التي ترفعنا فوق أركان العالم الزائل
إلى أعمدة عرشك الإلهي فوق الزمني
لك المجد مع الابن الحبيب والروح المحيي.
أمين.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/articles/fr-seraphim-al-baramosy/a/liturgy-1.html
تقصير الرابط:
tak.la/dkbr5r3