لذلك فالشيطان يقاوم جلوس الإنسان مع نفسه. وذلك بأمرين:
أ- إما أنه يمنع جلوسك مع نفسك بأن يقدم لك عشرات المشغوليات، ومئات الأفكار. ويذكرك بأمور ترى أنها هامة جدًا ويجب أن تتفرغ لها. وكل ذلك لكي تعود إلى دوامتك مرة أخرى...
مثال ذلك إن انتهرت فرصة بداية عام جديد من حياتك لتجلس مع نفسك، يمكن للشيطان أن يعمل على شغل هذه المناسبة بالحفلات والمجاملات، حتى تشتغل بها ولا تخلو للتفكير في نفسك.
وإن كانت بداية عام ميلادي، أو عام قبطي، تريد أن تجلس فيها مع نفسك، يحاول أن يمنعك عن ذلك بأنشطة روحية واجتماعات وكلمات، حتى لا تتفرغ لنفسك. فما أسهل في عيد النيروز مثلًا، أن ننشغل بالحديث عن الشهداء وعذاباتهم واحتمالهم وشجاعتهم وأمجادهم، وننسى أنفسنا... نتحدث عن التاريخ، وننسى الواقع الذي نعيشه... نتحدث عن جدودنا العظام، ولا نفكر في كيف نشأتهم... حسنة بلا شك هي أخبار الشهداء، ولكن إلى جوارها فلنفكر في أنفسنا، لأنهم تركوا لنا مثالًا لنقتدي به...
ولكنها محاولة -ولو بأسلوب روحي- لمنع الإنسان من الجلوس مع نفسه. فإن أصررت على الجلوس مع نفسك. وقلت "افعلوا هذه، ولا تتركوا تلك"... حينئذ يلجأ الشيطان إلى حيلته الثانية وهي:
ب - يحاول الشيطان أن يدخل في جلستك مع نفسك، ليفقدها فوائدها...
إنه لا ييأس أبدًا. ما دام لم يستطع أن يمنعك عن الجلوس مع نفسك، فليمنع عنك روحياتهم. وذلك بأن يقدم لك أفكارًا وأحاسيس، ويمنعك من تبكيت نفسك، ويخفف من مشاعر ندمك...! فكيف ذلك؟
إن تذكرت أيَّة خطية، فبدلًا من أن ينسحق قلبك بسببها، وتوبخ ذاتك عليها بدموع التوبة، يقدم لك الشيطان عنها أعذارًا وتبريرات!
أما أنت فأعلم أن هدفك من هذه الجلسة الروحية هو تنقية نفسك وليس تبريرها. وتنقية نفسك وليس تبريرها. وتنقية النفس تأتي بمعرفة خطاياها وتبكيتها عليها، وليس بتدليل النفس أو مجاملتها أو تخفيف المسئولية عنها بإلقائها على الوسط الخارجي أو على الآخرين.
لذلك في جلستك مع نفسك، كُن صريحًا معها إلى أبعد حد...
لا تجاملها ولا تدللها، فهذا لا ينفعك روحيًا، ولا يقودك إلى التوبة. بل اكشف لها كل أخطائها وكل ضعفاتها، بكل ما فيها من دنس ومن بشاعة. ولا تحاول أن تقدم عنها أعذارًا أو تبريرات. إنما قدم عنها توبة وندمًا وانسحاق قلب. واعرف أن العشار قد خرج مبررًا دون الفريسي، لأنه انسحق أمام الله وطلب الرحمة لأنه خاطئ (لو18: 13). والكتاب يقول "أنت بلا عذر أيها الإنسان" (رو2: 1). ويقول أيضًا "ليس لهم هذر في خطيتهم" (يو15: 22).
إنك لا تنال المغفرة بالتبريرات، إنما بالتوبة تؤهل للغفران...
فكما تَمَيَّز العشار على الفريسي بإدانته لنفسه، كذلك تميز اللص اليمين على زميلة اللص الآخر في قوله "نحن بعدل جوزينا، لأننا ننال استحقاق ما فعلناه" (لو23: 41)...
مغبوط هو الإنسان الذي يتكشف خطاياه في جلسته مع نفسه. ومغبوط أكثر من يقدم هذه الخطايا للرب محفوفة بالندم، مبللة بالدموع.
اهتم إذن بإدانة نفسك، فإن ذلك يساعدك على التوبة ويجلب لك الاتضاع وانسحاق القلب، ويمكنك من الاعتراف، ويجعلك قريبًا من الرب الذي يقول عنه الكتاب "قريب هو الرب من المنسحقين بقلوبهم". وحسنًا قال القديس الأنبا أنطونيوس "إن دنا أنفسنا، رضي الديان عنا".
ولهذا فإن جلست مع نفسك، وتذكرت خطاياك، فلا تعذر ذاتك، ولا تجلب اللوم على غيرك ناسيًا ما فعلته أنت، كما فعل آدم وحواء...
إن لومك لغيرك لا يبررك، حتى لو كان ذلك الغير ملومًا فعلًا... لهذا يجب أن تركز على ما فعلته أنت، لأنك مطالب به...
إنها حيلة ولا شك من الشيطان أن يجعلك في محاسبتك لنفسك، تهتم بمسئولية الآخرين عن خطاياك، وليس بمسئوليتك أنت...!
ولعل من حِيَلهُ أيضًا، أنه يقلل لك من خطورة خطاياك...
ولا يجعلها تبدو على حقيقتها في بشاعتها، كما لو كانت شيئًا بسيطًا، لا تستحق أن تحزن بسببها وتندم. وما أسهل أن يُسَمِّي لك الخطايا بغير أسمائها، أو يفلسف الخطية، ويحاول أن يخفيها وراء سلامة القصد أو حسن النية...!
وهكذا يوسع ضميرك، لكي يبتلع خطايا معينة، لا تريد أن تتحمل مسئوليتها أو نتائجها...
وكل هذا يقودك ولا شك إلى الاستهانة واللامبالاة، ولا يساعدك على التوبة، بل ربما يدفعك إلى الاستمرار فيما أنت فيه، ويبعد عنك خشوع القلب وانسحاقه.
أما أنت فَكُن حازمًا مع نفسك ووبخها. وإن كنت لا تحتمل أحيانًا أن يكلمك الغير بصراحة من جهة أخطائك ويوبخك، فعلى الأقل يمكنك أن توبخ نفسك بنفسك. قل لها ما يريد الناس أن يواجهوك به، ولكن يمنعهم الخجل، أو الأدب والاحتشام، أو عدم رغبتهم في جرح شعورك... (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). وكما قال القديس مقاريوس الكبير "أحكم يا أخي على نفسك، قبل أن يحكموا عليك".
وإن كان في طبعك شيء من القسوة أو الشدة فاستخدمه ضد نفسك ولا تستخدمه مع الناس... إن نفسك هي التي تحتاج إلى الشدة لكي ترتدع ولا تعود تخطئ. أدبها إذن بقضيب من حديد، وربها في خوف الله وفي طاعته. وإن كان يلزمك باستمرار محاسبة النفس، فإنه يلزمك أيضًا معاقبة النفس، بدلًا من أن يعاقبها الله...
وفي إدانتك لنفسك، تذكر قول القديس العظيم الأنبا أنطونيوس:
"إن ذكرنا خطايانا، ينساها لنا الله، وإن نسينا خطايانا، يذكرها لنا الله".
إن داود الملك، لما كان لا يحس بخطيئته ولا يذكرها، أرسل له الله ناثان النبي، فشرح له بشاعة الخطية وقال له "أنت هو الرجل" (2صم12: 7). ولما أدان داود نفسه وقال "أخطأت إلى الرب "سمع بعدها مباشرة عبارة "والرب نقل عنك خطيتك. لا تموت" (2صم12: 13). فلا تنتظر أنت أن يرسل لك الله ناثان آخر يكشفك...
اجلس إذن مع نفسك لكي تدينها، وتؤهلها بالتوبة لنوال المغفرة.
وإن كان البعض قد تعود أن يجلس جلسة جدية مع نفسه في بداية العام الجديد، أو في الأصوام، أو في مناسبات هامة في حياته...
فاجلس أنت مع نفسك كل يوم وحاسبها...
افحصها، واطمئن باستمرار على نقاوتها. واسهر على سلامة اتجاهاتها، وتابعها في حياة التوبة، إن كانت قد بدأت هذه التوبة من قبل... خوفًا من أن تفتر الحرارة التي بدأت بها الطريق مع الله.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/2xd7f4j