تقول عذراء النشيد "في الليل علي فراشي، طلبت من تحبه نفسي. طلبته فما وجدته" (نش 3: 1).
إنها عبارة مؤثرة ومتعبة للنفس، كيف أن إنسانًا يطلب الله، فلا يجده في حياته؟! كيف أن الله الذي يقول "أطلبوا تجدوا" (مت 7: 7) تقول عنه العذراء "طلبته فما وجدته" (نش 3: 1)؟! وتكررها مرة أخري (نش 3: 2).
نعم، هناك فترات ن التخلي تبعد فيها النعمة. والنفس تطلب الرب فلا تجده!.. الظلمة تدهمها ، فتبحث عن طاقة من نور..!
فترات فيها "تكون سماؤك التي فوق رأسك نحاسًا، والأرض التي تحتك حديدا!! (تث 28: 23). لا تشعر بالدالة التي بينك وبين الله، والتي كانت بينك وبينه! ولا بالعشرة والصلة القديمة..! لا إحساس بوجود الله، ولا متعة، ولا عاطفة..
مرت عليك أوقات من قبل، كنت فيها نارًا مشتعلة. والآن نبحث عن تلك النار فلا تجدها. لا حرارة في الصلاة، ولا عاطفة في القلب، ولا تعزية ولا شعور، تطلب الله ولا تجده..
هل لأنك الآن علي فراشك، بعد نهار قضيته في مشاغل كثيرة! وإذا بمشاغل النهار التي أخذتها بعمق، جعلت شاعرك الروحية تجف!
لم تخلط عملك النهاري بالله، بل كنت غريبا عنه طول النهار! فلما طلبته بالليل علي فراشك، لم تجده!
في أوقات دالتك مع الله، كان الله بالنسبة إليك، أقرب من النفس الذي يدخل صدرك ويخرج. أما الآن فأنت تدعوه وكأنك نخاطب نفسك..! كنت تقرأ الكتاب المقدس، فتجد تأملات كثيرة تملأ قلبك وفكرك، وفيضا من التعزيات يغمر نفسك. أما الآن فلا تجد!! وتردد عبارة:
"طلبت من تحبه نفسي. طلبته فما وجدته". وتفحص ذاتك فتقول:
إنني لا أجده. ولكنني مع ذلك أطلبه.
ليس هو موجودًا معي. لا أحسه في حياتي. ولكنه موجود في قلبي أحسه في رغباتي وأشواقي..
حرماني من الله، يجعلني أطلبه بالأكثر. أنا لست راضيا عن حرماني منه. لست من الذين أحبوا الظلمة أكثر من النور، "لأن أعمالهم شريرة" (يو 3: 19). فمع أنني في سقوطي، تكون أحيانًا أعمالي شريرة وتشبه ذلك، إلا أنني لست أحب الظلمة..
فلماذا تخلي النعمة يشعرني بالحرمان من الله؟!
* أحيانًا يكون سبب التخلي، كبرياء ارتفعت فيها النفس.
إنسان يكبر في عيني نفسه، ويظن أنه قد أصبح شيئًا. وفي هذا الظن يفقد احتراسه، علي اعتبار أن الخطية لم يعد لها سلطان عليه!! ويريد الرب أن ينقذ هذا الإنسان من كبريائه وارتفاع قلبه. فيتخلى عنه قليلًا، ليشعر بضعفه فلا يرتفع قلبه (اقرأ مقالًا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في قسم الأسئلة والمقالات). لأنه " قريب هو الرب من المنسحقين بقلوبهم" (مز 34: 18). وبابتعاد النعمة، بالتخلي المؤقت، قد يسقط الإنسان، ويهتز قيامه ويضعف. فيعود ويحترس حتى من أقل الخطايا. ويتمسك بالرب بالأكثر.
مثل هذه العذراء التي بعد أن قالت "طلبته فما وجدته" قامت وبحثت عنه. فلما وجدته قالت "أمسكته ولم أرخه" (نش 3: 4).
* سبب آخر من أسباب التخلي، هو اهتمام الإنسان الزائد بالأمور العالمية، بحيث تبرد حرارته الروحية، ويقرع الله علي قلبه وما من مجيب!
و كأنه يقول لصوت الله في قلبه "أما الآن فاذهب. ومتى حصل لي وقت أستدعيك" (أع 24: 25). كما قال فيلكس الوالي لبولس الرسول. وقد حدث هذا لعذراء النشيد مرات عديدة، حينما سمعت صوت الحبيب يناديها فتكاسلت عن أن تفتح له، كما ورد في الإصحاح الخامس (نش 5: 3).
* حقًا إن التمركز حول الذات هو من أسباب التخلي:
ما أكثر ما يكون الإنسان متحوصلا حول نفسه. يفكر في ذاته، وليس في الله.. إذا أعمل؟ وماذا أكون؟ وكيف يكون؟ كيف أبني شخصيتي ومركزي؟ "أهدم مخازني وابني أعظم منها،.. وأفول لنفسي: لك خيرات كثيرة موضوعة لسنين عديدة.. استريحي وافرحي" (لو 12: 18 ، 19). وفيما الإنسان مشغول بذاته، يبحث عن الله فلا يجده!
بل قد يدخل في خدمة الله، وهو متمركز حول ذاته، وليس حول الخدمة، ولا هو متمركز في محبة الله وملكوته.. فيفكر كيف يستحوذ علي كل السلطة في الخدمة، ويوقف فلانا عند حده وكيف تصير كلمته هي الأولي، وهي الوحيدة! وكيف تسير كل الأمور حسب تدبيره هو! وحينئذ يطلب الله فلا يجده..
الله موجود حقًا في كل مكان. فكيف تبحث عنه فلا تجده؟!
هو موجود حقًا. ولكن المهم هو إحساسك بوجوده والصلة به.. الإحساس بالحب والمتعة والعشرة مع الله. الإحساس بالدالة، بحرارة اللقاء، وبسكني الله داخل القلب وعمله فيه.
قد يكون الله موجودًا معك، وأنت لا تشعر ولا تدرك.
كما كلم السيد الرب مريم المجدلية بعد القيامة. ولكنها لم تشعر بوجوده. بل ظنته البستاني. وقالت له عن الرب "إن كنت قد أخذته" (يو 20: 15). بينما كان الرب بذاته هو الذي يكلمها وهي لا تدري، بل شعورها في ذلك الوقت كان "طلبته فما وجدته"..
ونفس الأمر حدث مع تلمذي عمواس. كان الرب معهما وهما لا يعلمان. بل يقولان له "هل أنت وحدك المتغرب عن أورشليم، ولم تعلم الأمور التي حدثت فيها؟!" (لو 24: 18).
تأكد أن الله لا يتركك مهما تركته. وفي نفس الوقت الذي تقول فيه: "طلبته فما وجدته" يكون هو معك، يعمل لأجلك..
لا تيأس إذا مرت عليك فترات من التخلي. لا تظن أنه تخلِّ حقيقي! ولا نظن أن التخلي مستمر..
ما أخلي قول الرب عن إحدى فترات التخلي لتلك العاقر:
"لحيظة تركتك ، وبمراحم عظيمة سأجمعك" (أش 54: 7).
عبارة " طلبته فما وجدته " وردت أيضًا في (نش 5: 6).
حيث تقول عروس النشيد، في مناسبة أخري، فيها تخلت عن حبيبها، فتحول عنها وعبر. فقالت "نفسي خرجت عندما أدبر. طلبته فما وجدته. دعوته فما أجابني" (نش 5: 6) والقصة تبدأ بقولها "صوت حبيبي.. هوذا آتٍ علي الجبال، قافزا علي التلال" (نش 3: 8). ثم " صوت حبيبي قارعا: افتحي لي يا أختي يا حبيبتي، يا حمامتي يا كاملتي، لأن رأسي قد امتلأ من الطل، وقصصي من ندي الليل" (نش 5: 2). ولكن العروس تعتذر قائلا: "خلعت ثوبي، فكيف ألبسه؟! غسلت رجلي، فكيف أوسخها؟! ولم تفتح حينئذ تحول عنها وعبر، بسبب إهمالها.. فذاقت التخلي..
كانت هذه العروس مهتمة بذاتها أكثر من اهتمامها بالله وخدمته!
كانت مهتمة بزينتها الخارجية، بثوبها بنظافتها براحتها. ووسط كل ذلك تثاقلت أن تقوم وتفتح للرب.. فتركها تذوق التخلي.
لقد أنتظر الرب طويلا حتى امتلأت رأسه من الطل، وقصصه من ندي الليل. ولكنها تركته يمد يده طول النهار لقلب معاند مقاوم (رو 10: 21). وهكذا قدمت قلبا متراخيا متكاسلا أمام نداء الله!
عجيب أن تعتذر نفس عن لقاء الله، وتسرد لذلك حججًا..!
آه يا رب، أنا غير متفرغ لك الآن. عندي مشروعات أقوم بها، وخدمة وخدمات عديدة أنما منشغل بها! وخطية محبوبة تسيطر علي عواطفي وفكري! أو مقابلات كثيرة ولقاءات تستغرق نهاري كله وجزءًا من مسائي. لذلك لست أجد لك وقتًا!! أعذرني إن تركتك بعض الوقت دون أن أفتح لك. فامتلأت رأسك من الطل!!
وهكذا يتخلى الله، لا كعقاب وإنما كعلاج..
إنها نفس تزدري بالنعمة، وتهمل صوت الله داخلها، فتقع في التخلي، حتى تعود وتستيقظ، وتعرف ما ينبغي عليها أن تفعله.
ولهذا نجد أن هذه النفس قد استفادت من التخلي..
بعد أن تحول حبيبها وعبر، نراها تقول "نفسي خرجت عندما أدبر". ولم تكتف فقط باشتعال مشاعرها من الداخل، وإنما تقول "إني أقوم أطوف في المدينة وفي الأسواق والشوارع، أطلب من تحبه نفسي".. وفعلًا ذهبت تسأل عنه الحراس: "أرأيتم من تحبه نفسي؟" (نش 3: 3).
وبالإضافة إلي هذا البحث وهذا السعي، نري أن الله يرفع عنها ذلك التخلي، ويعود إلي النفس، فتتمسك به بالأكثر.
وتقول لما رأته "أمسكته ولم أرخه" (نش 3: 4).
إن الله يسمح أحيانًا أن نذوق مرارة البعد عنه بعض الوقت. لكي نشتاق إليه بالأكثر..
لأنه من الجائز أن محبة الله لنا، بدلًا من أن تقودنا إلي الله، نتحول بها إلي التدلل!!
فتقول "غسلت رجلي، فكيف أوسخها؟!"
لك ما شئت. ولكن أن حبيبك تحول وعبر.. فماذا أفادك التدلل؟!
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/7vzx4r4