ما أكثر ما يشكو الناس من النسيان, بل يطلبون أيضًا علاجًا للنسيان, حقًا إن للنسيان مساوئ كثيرة, ومع ذلك لكي ننصفه, نقول إن هناك ولا شك فوائد للنسيان. فالنسيان ليس كله شر. ولقد سمح الله به من أجل نفع الإنسان وفائدته, ولو أحسن الإنسان استخدامه, فالإنسان الحكيم يعرف متى ينبغي أن يتذكر ومتى ينبغي أن ينسي..
† من الخطأ طبعًا أن ينسي المرء واجباته الدينية أو واجباته العالمية, ومن الخطأ أن ينسي عهوده ووعوده ونذوره ومواعيده, ومن الخطأ أن ينسي فضل الناس عليه, أو ينسي بالأكثر إحسانات الله العديدة إليه.
† ولعل من أخطر أنواع النسيان, أن ينسي الإنسان أصله الترابي, إذ أن الله -جل جلاله- قد خلق التراب أولًا, ثم خلق الإنسان من هذا التراب, والذي ينسي أصله الترابي قد يقع في الكبرياء, والعجرفة, والإعجاب بالنفس, والتباهي بالمناصب والألقاب, وأتذكر أنني قلت عن ذلك في بعض أبيات الشعر:
قل لمن يعتز بالألقاب إن صاح في فخره من أعظم مني؟!
أنت في الأصل تراب تافه هل سينسي أصله من قال إني؟!
وهكذا فإنني جعلت أمامي هذا الأصل الترابي, كأنشودة أغني بها باستمرار, حيث قلت:
يا تراب الأرض يا جدي وجد الناس طرا
أنت أصلي أنت يا من أقدم من آدم عمرا
ومصيري أنت في القبر إذا وسدت قبرا
† أما عن فوائد النسيان فلعلنا نذكر في قمته أن ننسي إساءات الناس إلينا ننساها لكي نستطيع أن نصفح وأن نسامح.. وننساها لكي لا يملك الغضب علي قلوبنا من جهتهم.. وأيضا لكي نهرب من شيطان الحقد والكراهية.
الذي ينسي أخطاء الناس إليه, يمكنه أن يحب الجميع, ويملأ السلام قلبه من جهة الكل, ويستطيع أن يقابل كل أحد ببشاشة, ولا يخزن في قلبه شرا من جهة أحد, لذلك إن أساء أحد إليك, لا تحاول أن تسترجع في ذهنك إساءته إليك, ولا تجلس مع الناس وتحدثهم عما فعله بك ذلك المسيء, لا تفكر في هذا الموضوع, ولا تتكلم في تفاصيله, لئلا يرسخ كل ذلك في ذاكرتك وفي قلبك ويتعبك.
† وليس فقط تنسي أخطاء الناس إليك, إنما عليك أن تنسي أخطاءهم بصفة عامة, فإنك لو تذكرت علي الدوام أخطاء الناس, لاسودت صورتهم في نظرك, وأصبحت تعجز من أن تجد لك في الناس صديقًا.. فكل الناس لهم أخطاء, ولو تذكرنا لكل واحد أخطاءه, لما استطعنا أن نتعامل مع أحد, وربما يدخل الشك إلي قلوبنا من جهة الناس, وربما لا نستطيع أن نتكلم باحترام مع أحد!
إذن ليتنا ننسي أخطاء الناس, لكي يعاملنا الله بالمثل, وما أجمل قول القديس العظيم الأنبا أنطونيوس: إن ذكرنا خطايانا, لا يذكرها لنا الله, وإن نسينا خطايانا, يذكرها لنا الله.
إذن أذكر خطاياك, وإنس خطايا غيرك, فإن هذا يقودك إلي الاتضاع, وإلي المحبة, أما الإنسان المتكبر أو غير المحب, فإنه علي العكس: دائمًا ينسى نقائصه الخاصة, ودائما يذكر أخطاء غيره, وقد يتحدث عن خطايا الناس, بينما يتضايق إن تحدث الناس عن خطاياه!
† لذلك فإنه من النسيان النافع, أن تنسي فضائلك, أو تنسي الأعمال الحسنة التي شاءت نعمة الله أن تعملها علي يديك.. فإن عملت خيرًا, أو إن عمل الله خيرًا بواسطتك, فالواجب عليك أن تنسي ما عملته, لا تذكره ولا تتذكره لئلا يوقعك هذا الأمر في الإعجاب بالنفس أو في الكبرياء, وأيضًا لكي لا تجلب لنفسك مديحا من الناس, قد تضيع معه بعض أجرك في السماء, ويقال لك تلك العبارة الخطيرة: قد استوفيت خيراتك علي الأرض!!
إن الذي يعمل خيرًا, ليس عليه فقط أن يعمله في الخفاء علي قدر الإمكان, حيث لا يراه الناس.. إنما الأفضل أن يخفي الأمر حتى عن نفسه بالنسيان, حسبما قال السيد المسيح لمن يعمل صدقة: لا تعرف شمالك ما تفعله يمينك، ونص الآية هو: "لاَ تُعَرِّفْ شِمَالَكَ مَا تَفْعَلُ يَمِينُكَ" (إنجيل متى 6: 3).. والله "الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ هُوَ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً" إنجيل متى 6: 4، 6، 18).
حقًا إن الإنسان الذي يحاول أن يظهر فضائله, أو يتحدث عنها, ما أسهل أن يقع في الغرور وربما يفقد ثوابه، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام أخرى. فإن لم تستطع أن تنسي الخير الذي تعمله, وإن ألح عليك الفكر في تذكاره.. فانسب ذلك إلي نعمة الله وعمله وليس إلي نفسك.
† ومن فضائل النسيان أيضًا, أن ننسي المتاعب والضيقات.. فأحيانا يكون التفكير في الضيقة, هو أشد إيلامًا وضررًا من الضيقة ذاتها لذلك اجعل الضيقات خارج نفسك لا داخلها.
لا تسمح لها بالدخول إلي فكرك أو إلي قلبك لئلا تتعبك, حاول أن تنساها, وإن ألح عليك الفكر ولم تستطع أن تنسي, حاول أن تنشغل بالقراءة أو بالعمل أو بالحديث مع الناس, لكي تنسي.. علي قدر إمكانك حاول أن تنسي المتاعب والهموم, لأن تذكرها قد يجلب الأمراض النفسية والعصبية وأمراضًا أخري.
† من فوائد النسيان أيضًا, أن ينسي الإنسان المُعْثِرات التي تجلب الخطية, وقد يقرأ شاب قصة بذيئة أو يري منظرًا خليعًا, أو يسمع كلامًا مثيرًا.. وإن لم ينس كل هذا, تظل هذه الأمور حربًا علي فكره تضيع نقاء قلبه, فمن الخير له أن ينسي.. حاول إذن أن تنسي كل ما يعكر نقاء قلبك.
† من فوائد النسيان أيضًا أن ننسي التفاهات, لكي تبقي في الذهن فقط الأمور المهمة النافعة, فلو ذكر الشخص كل ما يمر عليه في يومه أو طوال الأسبوع من أمور تافهة تختص بالأكل والشرب وأحاديث الناس ومناظر الطريق وأيضا كل القراءات والحديث.. فإن طاقة هذا الإنسان لا تحتمل أن تخزن ما يلزمه من المعلومات الأساسية.
إذن إن النسيان هو عملية غربلة حيوية, تغربل في الذهن وفي الذاكرة جميع المعارف والمعلومات والمناظر والسماعات, فتستبقي منها النافع وتترك ما لا يفيد وتنساه.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/pc55zrk