المقصود بوصايا الله هو روح الوصية وليس مجرد حرفيتها، لكن هناك وصايا واضحة جدًا من جهة الحرف مثل وصية: لا تقتل، أو لا تزن، أو لا تسرق، ويمكن الدخول في بعض تفاصيل هذه الوصايا مثلا، وتبقي حرفيتها قائمة، وكما تقول القاعدة: لا اجتهاد مع النص، مادام النص واضحًا تمامًا.
ـ ونحن في هذا المقال نود أن نشرح روحيا المقصود ببعض الوصايا العامة التي لا يمكن الاكتفاء فيها بمجرد النص، وإنما يجب الدخول في عمق روحانيتها.
ـ من جهة العطاء (أو الصدقة): المفروض هو الروح وليس الحرفية، فالإنسان الروحي يعطي من قلبه بكامل حبه، قبل أن يعطي من جيبه، فالعطاء إذن هو مجرد تعبير عن المشاركة القلبية في احتياجات الآخرين، ولا تعطي الإنسان لمجرد الإحراج، أو لمجرد تنفيذ الوصية، بغير مشاعر وبغير روح، وفي روح الوصية حينما يعطي يجب أن تعترف داخل نفسك بأن المعطي الحقيقي هو الله، وهو الذي أعطاك لكي تعطي غيرك، وهو الذي أعطاك الرغبة في العطاء، وأنت مجرد موصل عطايا الله للآخرين، لأنه ليس من عندك الذي تعطيه، إنما هو من عند الله، وهكذا لا يفتخر أحد إذا أعطي، وأيضا روح العطاء يعني أنك تعطي إخوتك في البشرية، فلا تدقق في الحساب معهم، ولا تعاملهم بطريقة سيئة كأنك تحسن إليهم! واعرف أن القلب إن لم يشترك بحب وفرح في وصية العطاء، يكون في عطائه مجرد الحرفية وليس الروح.
ـ نقول الكلام نفسه عن الخدمة الاجتماعية: كثير من الناس يأخذون من هذه الخدمة حرفيتها أو شكلياتها دون روحها، وينسون في ذلك أنها خدمة وليست مجالا لإظهار الذات، ولا يجوز أن تختلط بحب السيطرة والنفوذ، أو أن تصبح مجرد أعمال إدارية ومالية دون روح، ويجب علي العامل في الخدمة الاجتماعية أن يذكر أنه خادم للآخرين، وليس مسيطرا عليهم.
ـ فالصوم مثلا ليس هو مجرد الصوم عن الطعام، فهو في روح الوصية يحمل معني ضبط النفس، والارتفاع عن مستوي شهوة الجسد، فقد يصوم شخص عن الطعام، ولا يصوم عن متعة جسده بالتدخين، وتبقي هذه العادة مسيطرة عليه علي الرغم من صومه، وهو هنا يكون قد دخل في شكلية الوصية وحرفيتها دون روحها، وإن كان الصوم يحمل معني المنع أيضا، فالمفروض أن يشمل هذا المنع كثيرا من الأخطاء، فيمنع نفسه عن أخطاء كثيرة.
وهكذا يدخل في صوم اللسان عن الكلام الرديء، وصوم العقل عن أخطاء الفكر، وصوم القلب عن الشهوات الرديئة، وتصبح فترة الصوم تدريبًا روحيًّا علي خطايا كثيرة يمتنع عنها في أثناء صومه، وبتوالي ذلك يتحول هذا المنع إلي منهج حياة.
نقول ذلك لأن كثيرين يصومون ولا يستفيدون، لأنهم يسلكون في صومهم بطريقة حرفية شكلية، دون الدخول إلي روح الصوم وما يريده الله منه، وهكذا قد يرجع البعض في نهاية فترة الصوم إلي عادته السابقة، ويذكرني ذلك بقول أمير الشعراء أحمد شوقي:
رمضان ولي هاتها يا ساقي مشتاقة تسعي إلي مشتاق
ومعني ذلك أنه لم يستفد من الصوم في منع نفسه عن زجاجة الخمر إلا مؤقتا، فما إن انتهي صومه حتى عاد إلي اشتياقه إلي الشرب مرة أخري، فأخذ حرفية الوصية دون أن يدخل في روحانيتها، وهكذا نري أن البعض كانت أجسادهم صائمة، بينما أرواحهم مفطرة.
* كذلك السجود أيضًا: الإنسان الروحي لا يدخل في حرفية السجود، إنما في روحه، فليس السجود مجرد انحناء الجسد إلي الأرض، إنما أيضا انحناء الروح مع الجسد، فلا يقتصر الأمر علي خشوع الجسد، إنما أيضا خشوع الروح. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). والذي يكتفي بمجرد حرفية المعني من السجود دون روحه، لا يكتسب خشوعا لا في الجسد ولا في الروح، وأنت يا أخي حينما تسجد أمام الله ليكن في قلبك وذهنك الشعور بأنك تراب ورماد، تنحني أمام خالقك الذي صنعك ومنحك هذا الجسد الذي تسجد به.
أيضا الصلاة حرفيًا يظنها البعض أنها الحديث مع الله، ولكن ما هي الصلاة الروحية؟ من واقع عبارة الصلاة واضح أن معناها الصلة بالله، وقد يصلي إنسان، أو يظن أنه يصلي، بينما لا توجد هذه الصلة بينه وبين الله!! إنه يكلم الله بشفتيه، أما قلبه فمبتعد عنه بعيدا! والله يريد القلب قبل كل شيء، أتظن يا أخي أنك تصلي، بأنك تحرك شفتيك أمام الله؟! بينما تكون الصلاة بلا روح، ولا مشاعر، ولا خشوع، ولا اتضاع، وربما لا تعني عمق ما فيها من ألفاظ، أتريد أن ترضي ضميرك من جهة الصلاة، حتى ولو كانت هكذا؟ أم تصلي بروحك، وتصلي بذهنك، وتقصد كل كلمة تقولها في صلاتك، صدق أحد الآباء الكبار حينما قال عن مثل تلك الصلاة التي بلا روح: إذا حوربت بمثل هذه الصلاة، فقل لنفسك: أنا ما وقفت أمام الله لكي أعد ألفاظا!!
ذلك لأن كثيرين يهمهم أن يطيلوا الصلاة بغير فهم، ويفرحوا بهذا! دون أن يدخلوا في عمق المعاني التي في ألفاظ الصلاة، وبالمثل يفعلون ذلك في كل التراتيل والتسابيح، المهم عندهم هو الحرف وليس الروح، وتستريح ضمائرهم لأنهم قاموا بواجبهم الروحي في العبادة، بينما لم تصعد تلك الصلوات إلي الله، ولا تلك التسابيح، لأنه في كل ذلك لم تكن هناك صلة بينهم وبين ربهم، ولم تشترك الروح ولا القلب في أثناء الصلاة.
* في السلام أيضا: غالبية الناس يسلمون علي غيرهم، وليس في قلوبهم سلام، إنما يأخذون من كلمة السلام حرفيتها فقط دون روح هذا السلام، وما أكثر ما نقوله في هذا المجال من كلام، ومن تحيات، ومن مجاملات، لمجرد الحرف وبلا روح، لذلك ينبغي أن يكون سلامنا مع الناس بالروح والحق، وبالحب والتعاطف وحسن التعامل، علي أن يكون كل ذلك من عمق القلب.
* الناس أيضا ربما لا يفهمون معني الراحة الحقيقية، فيظن الشخص أنه يهم براحته الشخصية بينما المعني الحقيقي أن يجد راحته في إراحة الآخرين، وفي راحة ضميره من نحو نفسه، ومن نحو واجبه حيال غيره، إذن ما يتصف علي المعني الحرفي للراحة، بل علي معناه الروحي، إذ فيها يريح روحه، ويريح كل من يتصل به.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/tm5g3j2