ما هو الحق؟ الحق هو الصدق، فهو ضد الكذب. والحق هو البِرّ، ولذلك فهو ضد الباطل. والحق هو العدل. ولذلك فالحق ضد الظُّلم. ووزارة العدل كانت تُسمَّى قديمًا بوزارة الحقانية. والكلية الجامعية الخاصة بالقوانين والعدل، هي كلية الحقوق. وأكثر من هذا كله، فإنَّ الحق هو اسم من أسماء اللَّه جلّ وعلا. لذلك فالحق له جلاله، وهو يعلو على كل شيء..
سعيد هو الإنسان الذي لا يقول إلاَّ الحق، ولا يحكم إلاَّ بالحق، ولا يتصرَّف إلاَّ بالحق. والمغالاة فيما تظنه حقًا، ليست هي حقًا خالصًا. فإنَّ بعض الذين يحبون الحق يتطرفون في فهمه، ويكون هذا التطرف ضد الحق. لذلك قال بعض الفلاسفة: إنَّ الفضيلة الحقة هي توازن بين نقيضين هما الإفراط والتفريط.
وهكذا فإنَّ بعض مُحبي الحق يحتارون بين الوداعة والشجاعة: فالبعض قد يبالغون في الوداعة حتى تتحوَّل إلى ضعف وإلى ليونة في الطبع. أو قد يبالغون في الشجاعة حتى تتحوَّل إلى تهور واندفاع. بينما الحق أن يكون التَّصرُّف في حكمة. فيكون الإنسان وديعًا في شجاعته، وشُجاعًا في وداعته، لا يتطرَّف بل يحفظ التوازن بينهما.
وأيضًا في التربية الحقة، يحفظ التوازن بين التدليل والشدة. فليس الحنان الحقَّاني هو حب بلا ضابط، وبلا مبالاة بالأخطاء مِمَّا يُشجِّع على الاستمرار فيها. كذلك من الناحية لا مانع من استخدام الحزم في غير عنف منفر..
والذي يحب الحق، ويهمه الدفاع عنه، يجب عليه -قبل أن يأخذ حق اللَّه من الناس- أن يأخذ حق اللَّه أولًا وقبل كل شيء من نفسه هو. وكما قال الشاعر:
يا أيها الرجل المُعلِّم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليمُ
ابدأ بنفسك فالهها عن غِيّها فإذا انتهت عنه فأنت حكيمُ
الذي يحب الحق، لا يجامل نفسه أبدًا، ولا يدافع عن أخطائه ولا يبرِّرها، ولا يلتمس لنفسه الأعذار في كل سقطاته وضعفاته. بل يعترف أنه أخطأ، فهذا حق. وأيضًا لا يجامل أحدًا من أحبائه أو أصدقائه على حساب الحق. فإنَّ الذي يحب الحق، يفضل الحق أكثر من محبته للأصدقاء.
والذي يحب الحق، له ميزان واحد يزن به كل الأفعال وكل الأشخاص. فهو بعيد عن الطائفية والتَّعصُّب. لا فرق عنده بين قريب وغريب. والحق عنده لا يتأرجح بعوامل تتصل بالدين أو الجنس أو القرابة. وأيضًا في حكمه على الأفعال، لا يبالغ في تقدير الخطأ والصواب... ويعرف تمامًا أنَّ مُبِرِّئُ المُذنِب، ومُذنِّبُ البَرِيءَ، كِلاهُما غير مقبول أمام اللَّه، لأنَّ كليهما ضد الحق.
والذي يحب الحق، لا يظلم أحدًا، ولا يقبل أن يقع ظلم على أحد، حتى لو كان من الذين يعادونه...
وهو لا يدين أحدًا في أمر من الأمور، بينما يبرر غيره في نفس الأمر، بسبب نوعية عواطفه تجاه هذا وتجاه ذاك. هو أيضًا لا مانع عنده من أن يدين نفسه في عمل من الأعمال، إن كان ما عمله ضد الحق...
الذي يدافع عن الحق، ينبغي أن يتأكد تمامًا أن ما يدافع عنه هو الحق. لأنَّ كثيرين يتحمَّسون لأمور مُعيَّنة، ويُدافعون عنها بكل قوَّتهم -عن جهل واندفاع- بينما لا تكون هذه الأمور حقًا في ذاتها، بل تحتاج منهم إلى دراسة متأنية ليتأكَّدوا أنَّ الحق في جانبهم في حماسهم هذا.
وبالمِثل مَن يُهاجم شخصًا ما بِاسم الحق، ينبغي أن يتأكَّد -قبل مهاجمته له- من أنه قد انحرف عن طريق الحق. وإلاَّ فإن مهاجمته له تكون لونًا من الظُّلم والتشهير لا يرضى عنها الحق في شيء، بل يرفضها.
والذي يسير في طريق الحق، يكون بارًا، يتحرَّر من الباطل، ومن الزيف، ومن الرياء والتَّملُّق والنفاق، ومن التَّظاهر بما ليس فيه. فكل هذه أمور ضد الحق... وأيضًا لا يكون شخصًا ذا وجهيْن. ولا يقول غير ما يبطن، بل يكون صادقًا في كل ما يقول. وليعلم أنَّ الرياء لا ينفعه بل ينكشف كما قال الشاعر:
ثوب الرياء يشفّ عما تحته فإذا التحفت به فإنك عاري
والذي يحب الحق يحتمل من أجله، لأنَّ كثيرين لا يحبون الحق إن كان ضدَّ أهوائهم أو ضد مصالحهم، أو إن كان هذا الحق يكشفهم أمام غيرهم. لذلك هم يهاجمون مَن يقول الحق، ويحاولون أن يزيحوه من طريقهم أو يكتموا صوته. فعليه أن يحتمل.
على أنَّ كلمة الحق لها قوَّتها، حتى إن صدرت من طفل صغير ذلك لأنَّ قوة الحق تنبع من ذاته لا من قائله. فكم تكون كلمة الحق أقوى وأقوى إن صدرت من إنسان مسئول له مكانته. بعكس ذلك الباطل الذي ليست له قوة في ذاته، مهما كانت قوة مَن يدافع عنه، ومهما كانت سُلطته.
ومع ذلك فإنَّ العالم منذ القدم يشهد صراعًا مستمرًا طوال الأجيال بين الحق والباطل. والمعروف أنَّ الحق له طريق واحد مستقيم، بينما الباطل له طُرق كثيرة وملتوية.
وفي الصراع بين الحق والباطل، قد يبدو الحق منهزمًا في بادئ الأمر، ولكنه لابد أن ينتصر أخيرًا. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). ولكن لماذا ينهزم الحق أولًا وينتصر الباطل؟ ذلك لأنَّ الباطل يستطيع أن يستخدم الكذب والخداع، بينما يتسامى الحق عن هذا. وأيضًا الباطل يلجأ إلى اللف والدوران، وإلى الدس والتآمر، وقد يجذب إليه كثيرين بأساليبه المخادعة، وبإغراءات ووعود. ولكنه لا يستطيع أن يستمر، فينتصر الحق أخيرًا.
هذا الأمر شبَّهه القديس أوغستينوس بالوقود الذي ينتج عنه دخان ونار. فالدخان يعلو إلى فوق، ويظل يعلو ويعلو، وتتسع رقعته. وفيما هو يعلو وتتسع رقعته، فإنه يتبدد!! أمَّا النار فهي تبقى تحت، ولكنها تحتفظ بقوَّتها وحرارتها وتستمر.
لذلك فلا يصح أن يخاف السائرون في طريق الحق أو ييأسوا، إن وجدوا أنَّ الباطل يرتفع ويعلو، أو حتى يسود. فإن هذا كله إلى حين ولن يستمر... فلابد أن ينتصر الحق أخيرًا وينهزم الباطل أو يزول. ينبغي أن يبقى الحق صامدًا لا يتزعزع. فقوَّته في صموده وفي المعونة الإلهية التي تعاضده من فوق.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/7j8wjtx