العقل البشري محدود، ولا يدرك سوى الأمور المحدودة التي تدخل في نطاق إمكانياته. فهو يستطيع أن يوصلك إلى مُجرَّد معرفة وجود الله، وإلى معرفة بعض صفاته. ولكن الإيمان يكمل معك الطريق إلى أقصاه. وهكذا فإنَّ الإيمان بالوحي يكمّل ما لم يصل إليه العقل..
فليس من طبيعته أن يرفض كل ما لا يدركه. بل حتى في المحيط المادي في العالم الذي نعيش فيه، توجد مثلًا مخترعات كثيرة لا يدركها إلا المتخصصون، ومع ذلك فالعقل العادي يقبلها ويتعامل معها، دون أن يدرك كيف تعمل وكيف تحدث. والموت يقبله العقل ويتحدَّث عنه، ومع ذلك فهو لا يدركه، ولا يعرف كيف يحدث افتراق الروح عن الجسد! فإن كان العقل يقبل أمورًا كثيرة في عالمنا، وهو لا يدركها، فطبيعي لا يوجد ما يمنعه من قبول أمور أخرى أعلى من مستوى هذا العالم..
العقل لا يدرك (المعجزة) كيف تتم، ولكنه يقبلها ويطلبها بل يفرح بها. وقد سميت المعجزة معجزة، لأنَّ العقل يعجز عن إدراكها وعن تفسيرها. ولكنه يقبلها بالإيمان، الإيمان بوجود قوة غير محدودة أعلى من مستواه، يمكنها أن تعمل المعجزة التي يعجز العقل عن إدراكها. وهذه القوة هي قوة الله القادر على كل شيء... وكمثال للمعجزات التي نقبلها جميعًا دون أن ندركها: معجزة خلق الكون من العدم، ومعجزة القيامة العامة من الأموات..
إننا نحترم العقل ونستخدمه. ولكننا في نفس الوقت ندرك حدود النطاق الذي يعمل فيه. ولا نوافق العقل المغرور الذي يريد أن يعي كل شيء، رافضًا كل ما هو فوق مستوى إدراكه...
إنه قدرة أعلى من قدرة الحواس التي لها نطاق مُعيَّن لا تتعداه. فالحواس المادية تدرك الماديات. غير أن هناك أمورًا غير مادية، تخرج عن نطاق قدرة الحواس المادية من نظر وسمع ولمس وشم... وحتى قدرة الحواس بالنسبة إلى الأشياء المادية، هي محدودة أيضًا. وكثيرًا ما تستعين الحواس بعديد من الأجهزة لمعرفة أشياء مادية أدق من أن تدركها حواسنا البشرية الضعيفة.
وهكذا فالحواس لا تدرك ما لا يُرى، أي غير الماديات وغير المرئيات، كالأرواح مثلًا، سواء كانت أرواح بشر، أم أرواح الملائكة، أو الشياطين... وعدم إدراك الحواس لها، لا يعني عدم وجودها، إنما يعني أن قدرة الحواس محدودة.
لذلك فإنني عجبت من رائد الفضاء الملحد، الذي قال إنه صعد إلى السماء ولم يرَ الله!! ظانًا أنه في تهكمه يمكن أن يرى الله بهذه العين الجسدية القاصرة التي لا ترى كثيرًا من الماديات! كما أن الله في كل مكان، في السماء وفي الأرض وما بينهما، ولا يحدّه مكان. فإن كان لم يرَ الله على الأرض، فطبيعي أنه لا يراه على القمر، ولا في أي موضع. إنَّ الله لا يراه أحد إلا بالإيمان.
وكل مَن آمن بفكرة، يعطيه الإيمان بها قوة لكي ينفذها. من هنا فإنَّ المصلحين -في كل زمان ومكان- آمن كل منهم بفكرة، فجاهد بكل قوة لتنفيذها، مهما احتمل من مشقة، ومهما صبر.
المهاتما غاندي مثلًا، آمن بحق بلاده في الحرية، وآمن بسياسة عدم العنف. ومنحه ذلك الإيمان قوة عجيبة استطاع بها أن يُحرِّر الهند، وأن يعطي الحقوق للمنبوذين ليتساووا مع إخوتهم. وأمكنه أن يحتمل الكثير لكي لا يسلك بعنف هو وأتباعه، ولا أن يلاقوا العنف بالعنف. إيمانه بالفكرة أعطاه القوة لتنفيذها...
مثال ذلك روَّاد الفضاء. وكمثال لإيمانهم ما درسوه عن منطقة انعدام الوزن في الفضاء، وكيف أن الإنسان يمكنه أن يمشي في الجو دون أن يسقط! فمَن من الناس يجرؤ أن يمشي في الجو دون أن يخاف؟ أمَّا الذي جعلهم ينفذون ذلك، فهو إيمانهم الأكيد ببحوث العلماء الذين قالوا بهذا. فمنحهم الإيمان شجاعة... (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). حقًا إنَّ الفرق بين أشجع الناس وأخوف الناس هو الإيمان...
هناك إيمان سطحي، نظري، عبارة عن عقائد مُعيَّنة يعتنقها الشخص، دون أن يكون لها تأثير في حياته. فيكون له اسم المؤمن، دون أن يكون له قلب المؤمن.
وهناك أيضًا إيمان المناسبات، يظهر فقط في أماكن العبادة، وفي أوقات الصلاة والاستماع إلى العظات الدينية، ثم تنتهي فاعليته، ولا يكون له الدوام في باقي ظروف الحياة...
وهناك إيمان قوي لا يتزعزع، مهما حاربته الشكوك أو حلَّت به الضيقات. وإيمان آخر مبني على الخبرات مع الله وعمله...
أمَّا الإيمان العملي، فهو الإيمان الذي يمارسه الإنسان في كل يوم، فهو بالنسبة إليه حياة يحياها وله نتائج هامة جدًا...
إذ يكون القلب مملوءًا بالسلام والهدوء. لا يضطرب مطلقًا، ولا يقلق، ولا يخاف. لأنه يؤمن بعناية الله وحمايته له، مهما كانت الظروف المحيطة تبدو مخيفة ومزعجة! فالقلب المؤمن لا يستمد سلامه من تحسن الظروف الخارجية، إنما من حفظ الله وعنايته.
يخاف الشخص الذي يشعر أنه واقف وحده. أمَّا الذي يؤمن أن الله معه، فإنه لا يخاف. فإن قَلَّ إيمانه، ودخله الشك في حفظ الله له، حينئذ يخاف. الشك يضعف الإيمان، وضعف الإيمان يؤدي إلى الخوف. والخوف يؤدِّي إلى الانهيار والضياع. ففي كل مرَّة تخاف، وبّخ نفسك على قلة إيمانك. وقل لنفسك: أين هو إيماني بأنَّ الله موجود، وأنه هو الحافظ والمعين.
إن ضيقة واحدة قد تصيب اثنين: أحدهما مؤمن، والآخر غير مؤمن. فيضطرب غير المؤمن ويخاف ويقلق، ويتصوَّر أسوأ النتائج، وتزعجه الأفكار. أمَّا المؤمن فيُقابل الضيقة بكل اطمئنان. ويقول: "هذه المشكلة سيتدخَّل الله فيها ويحلّها وتزول". وقد تسأله كيف سيتدخَّل الله؟ وكيف يحلّها؟ فيجيبك: أنا لا أعرف كيف؟ ولكنني مؤمن أنَّ الله يهتم بنا أكثر مما نهتم بأنفسنا. وعند الله حلول كثيرة. وهو قادر أن يفتح كل باب مُغلَق.
إنَّ المؤمنين ما كانوا يخافون حتى من الاستشهاد، لإيمانهم بأنه يوصلّهم إلى حياة أخرى أكثر سعادة، وهى أبدية.
فالإنسان المؤمن يحترس في كل لفظ ينطق به، وفي كل عمل يعمله. لأنه يؤمن أنَّ الله موجود في كل مكان، ويسمع ويرى كل ما يفعله. لذلك هو يخجل من أن يرتكب خطيئة أمام الله الذي يراه. بل أن المؤمن يُدقق بحيث أن أفكار الخطيئة لا يقبلها عقله، ولا شهواتها تسكن في قلبه. وذلك لأنه يؤمن تمامًا بأنَّ الله يفحص القلوب ويقرأ الأفكار. لذلك يعمل المؤمن على حفظ ذاته نقيًا طاهرًا، سواء بالعمل أو اللسان، أو بالفكر أو بمشاعر القلب.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/vtffb6p