مثال ذلك الموقف العجيب الذي وقفه النبي، لما أخبره الله أنه سيهلك الشعب إذ عبدوا العجل الذهبي... حينئذ شفع فيهم موسى بكل غيرة، طالِبًا من الله أن يغفر لهم فلا يهلكوا ووصل في حماسه أنه قال:
"لِمَاذَا يَا رَبُّ يَحْمَى غَضَبُكَ عَلَى شَعْبِكَ؟!.. وَالآنَ إِنْ غَفَرْتَ خَطِيَّتَهُمْ، وَإِلاَّ فَامْحُنِي مِنْ كِتَابِكَ الَّذِي كَتَبْتَ" (خر 32: 11، 32).
أي أنه يقول: لا أريد أن أدخل الملكوت وحدي. فإما أن تغفر لهؤلاء، وإما أن أهلك معهم إن هلكوا، وتمحو اسمي من كتابك الذي كتبت..!! انظروا إلى أية درجة وصلت محبة موسى وغيرته، لذلك فإن الله -قبل أن يعاقب- قال له: "اتْرُكْنِي لِيَحْمَى غَضَبِي عَلَيْهِمْ وَأُفْنِيَهُمْ، فَأُصَيِّرَكَ شَعْبًا عَظِيمًا" (خر 32: 10).
وأنا أقف منذهلًا أمام كلمة "اتركني" يقولها الرب لموسى، كما لو كان موسى ممسكًا به لا يدعه يفعل..!
تقول له: "اتركني"؟! ومن الذي يمسكك يا رب؟! وما الذي يمنعك، وأنت الإله القادر على كل شيء؟! إنها محبة موسى للشعب، وغيرة موسى على خلاصهم، تمسك بالرب، تمنعه من إفنائهم... هوذا موسى يقول له: ارجع يا رب عن حمو غضبك، واندم على الشر بشبعك... اذكر إبراهيم واسحق..." (خر 32: 12، 13) "لماذا يتكلم المصريون قائلين: أخرجهم بخبث ليقتلهم في الجبال، ويفنيهم عن وجه الأرض؟!" (خر 32: 12).
هذا هو الصراع مع الله: فيه تضرع، وشفاعة، وفي منطق وإقناع، وفيه حب للناس، وفيه إمساك بالرب (ومنعه) عن إهلاكهم..!
كنت وأنا طفل صغير ضئيل المعلومات، أظن أن يعقوب أبا الآباء هو الوحيد الذي صارَع مع الرب وقال له: "لا أتركك إن لم تباركني" (تك 32: 26). ولكن هوذا موسى يقول له أيضًا "لا أتركك"...
لا أتركك يحمَى غضبك على الشعب. لا أتركك تفنيهم لا أتركك حتى تغفر لهم وتندم على الشر...
لا بُد أن تسامح. لابد أن تغفر. وإن كنت لا تريد أن تغفر لهم، أمح اسمي من كتابك الذي كتبت...
إنها غيرة قلب، لا يشاء أن أحد يهلك.
"يريد أن الجميع يخلصون، وإلى معرفة الحق يقبلون (1تي 2: 4). ويصارع مع الله من أجل خلاص الكل، حتى الذين سجدوا للعجل الذهبي، قالوا: "هذه هي آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر" (خر32: 4)..!
إن غيرة موسى هذه، تُذكرني بقول بولس الرسول:
"إن لي حزنًا عظيمًا ووجعًا في قلبي لا ينقطع. فإني كنت أود لو أكون أنا نفسي محرومًا من المسيح، لأجل إخوتي أنسبائي حسب الجسد" (رو 9: 2، 3)
لو كان حِرماني هذا يوصلهم، لفضلت أن أكون محرومًا من المسيح، لكي يصلوا هم إليه!! أي حب أعظم من هذا في محيط الخدمة؟! وأية غيرة أعمق من هذه، في بذل الذات لأجل الآخرين. إنها محبة للناس وشفقة عليهم.
أولاد الله الذين تملكهم الغيرة لهم صراع مع الله من أجل الكنيسة (اقرأ مقالًا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في قسم الأسئلة والمقالات)، وصراع مع الله من أجل خلاص كل نفس. إنهم يصرخون إلى الله ويقولون له:
قُم أيها الرب الإله، وليتبدد جميع أعدائك...
وليهرب من قدام وجهك كل مبغضي اسمك القدوس.
وأما شعبك فليكن بالبركة ألوف ألوف وربوات ربوات يصنعون مشيئتك.
قُم أيها الرب الإله، فإن البار قد فنى، قَلَّت الأمانة من بنى البشر (مز 12: 1). قم واعمل. لأنك رجاء من ليس له رجاء، ومعين من ليس له معين، قم فإننا قد تعبنا الليل كله ولم نصطد شيئًا (لو 5: 5). أنت القوة وأنت المعين، وبدونك لا نقدر أن نعمل شيئا (يو 15: 5).
من الوسائل الروحية التي تعمل بها الغيرة المقدسة، تشجيع الخطاة حتى لا يدركهم اليأس فيفشلوا.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/n6vrfgw