هناك موضوع معين يتسبب في كثير من المشاكل، وفي كثير من الخصومات ويخلق جوًا من النزاع، ومن سوء التفاهم بين الناس...
ليتنا نحلل هذا الموضوع لكي نصل إلى حله...
إنه مشكلة أنصاف الحقائق.
إن الحقيقة هي كل متكامل، وليست جزءًا قائمًا بذاته. وأنصاف الحقائق ليست كلها حقائق...
وفي كل قضية تقدم إلى المحاكم، كل طرف من المتنازعين يقدم نصفًا للحقيقة، يصورها تصويرًا خاصًا، ويقدم الطرف الآخر النصف الآخر، ولا تظهر الحقيقة إلا باجتماع النصفين معًا.
لأن الذي يقدم نصف الحقيقة لا يكون منصفًا. فتقديم الأنصاف ليس فيه إنصاف...
قد تشرح إساءة الناس إليك، دون أن تشرح الأسباب التي دفعتهم إلى هذه الإساءة، وتكون في حديثك عن إساءاتهم، مهما كان كلامك صادقًا، مجرد معبر عن نصف الحقيقة. وعندما تجلس إليهم وتناقشهم في اتهاماتك لهم، ويدافعون عن أنفسهم، حينئذ يقدمون لنا النصف الآخر من الحقيقة الذي لم تذكره أنت.
ليتك كلما تتهم إنسانًا، تنصفه أيضًا بأن تذكر النصف الآخر من الحقيقة الذي يدافع به هو عن نفسه.
ففي دفاعك نوع من النبل ومن محبة الحق، ومن الإنصاف... وليتك تدافع عنه أمام نفسك قبل أن تتهمه، فربما هذا الدفاع يمنعك من الاتهام...
كثيرًا ما سمعت زوجات وأزواجًا في مشاكل عائلية قد تتطور إلى طلاق، فأسمع أنصاف حقائق. استمع إلى الزوجة فتشعرني بأن زوجها وحش كاسر، قاسي الطبع سيئ المعاملة، واستمع إلى الزوج، فيشعرني بأن الزوجة مستهترة أو مقصرة في واجباتها. ويندر أن يذكر واحد من الطرفين حجج الآخر...
وبسبب أنصاف الحقائق قد يحدث سوء تفاهم بين الناس. وسنضرب لذلك أمثلة... قد يشكو ابن من أن والده لا يقوم باحتياجاته ولوازمه ولا يصرف عليه، وربما يكون النصف الآخر من الحقيقة أن الأب لا يملك ما يصرفه على ابنه، ولو كان يملك ما قصر في حقه... وقد تشكو سيدة من أن صديقة لها أخلفت موعدها معها. وربما يكون النصف الآخر أن هذه الصديقة معذورة، وقد منعها زوجها من الذهاب وهي لا تستطيع أن تصرح بهذا لأسباب خاصة...
وقد نحكم على طالب بأنه فاشل في دراسته، ونقسو عليه في حكمنا. وربما يكون النصف الآخر من الحقيقة أن ظروفه العائلية قاسية جدًا، لا تساعده إطلاقًا على الاستذكار، أو أن ظروفه المالية لا تساعده على شراء الكتب اللازمة...
ليتنا نكون مترفقين في أحكامنا، فنحن قد نرى الخطأ فقط، دون أن نرى أسبابه ودوافعه وظروفه.
لقد خلق الإنسان محبًا للخير بطبيعته، وما الشر إلا دخيل عليه. وللشر في حياة الإنسان أسباب كثيرة، ربما يكون بعضها خارجًا عن إرادته. وقد يرجع بعضها إلى عوامل بيئية، أو وراثية، أو لأمور ضاغطة يعلمها الله وحده. لذلك كونوا مترفقين بالناس...
وقد يكسر إنسان قانونًا من القوانين، أو نظامًا من الأنظمة. وربما يكون هذا الكسر هو نصف الحقيقة، ويكون النصف الآخر هو خطأ في هذا القانون أو في هذا النظام يحتاج إلى تعديل... لهذا كانت كثير من الدول تعدل في أنظمتها، وتطور في قوانينها (اقرأ مقالًا آخرًا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في قسم الأسئلة والمقالات). لأن المشرعين ليسوا آلهة. ولهذا أيضًا كان المنصفون ينظرون دائمًا إلى روح القانون وليس إلى حرفيته.
إن الذين يتمسكون بحرفية القوانين وينسون روحها، لا يكونون عادلين في أحكامهم... ومن أمثال هؤلاء الذين يتمسكون بحرفية وصية من وصايا الله، دون أن يدخلوا إلى روح الدين وعمقه، ودون أن يكتشفوا الأسباب والأهداف التي من أجلها وضع الله تلك الوصية...
والذين يتمسكون بأنصاف الحقائق، إما يفعلون ذلك عن جهل أو عن عمد وعن معرفة... فإن فعلوا ذلك عن معرفة يكونون مدانين، لأنهم أخفوا الحقيقة lie by omission، وقد يكون وراء الإخفاء خطأ آخر أبشع... ولذلك تطلب غالبية المحاكم من الشهود أن يقولوا: "الحق، كل الحق، ولا شيء غير الحق" فعبارة: "كل الحق " عبارة لها وزنها ولها عمقها...
ومشكلة أنصاف الحقائق بدأ النقاد المنصفون يتحاشونها... كان الناقد قديمًا يكتفي بذكر العيوب والنقائص فقط. وهكذا كان ينقص بدلًا من أن ينقد... أما الناقد المنصف فهو الذي يحلل الأمر تحليلًا، ويذكر ما فيه من مزايا ومن عيوب، من نواحي قوة ونواحي ضعف. وقد يُرجع كل شيء إلى أسبابه، في صدق، وفي إنصاف...
وقد يقع الإنسان في أنصاف الحقائق نتيجة لكراهية أو تعصب أو تحيز أو ميل خاص... مثال ذلك مدير عمل لا يذكر موظفًا معينًا إلا بالإساءة والتجريح، ولا يذكر موظفًا آخر إلا بالتقدير والإطراء، ويكون لكل منهما ما له وما عليه... ولكنها أنصاف الحقائق...
وقد تدخل مشكلة أنصاف الحقائق في الرئاسة والإرادة... فلا يتذكر المدير أو الرئيس إلا سلطته فقط، وكيف أنه صاحب حق في أن يأمر وينهى، ويعين ويعزل، كأنه متسلط في مصائر الناس. وفي ذلك ينسى النصف الآخر من الحقيقة، وهي أن الرئاسة محدودة بقانون وبضمير وبمسئولية أمام الله، وبواجبات من الرعاية الحقة وينبغي أن يحيط بها كل رئيس عمل جميع من تشملهم إدارته ومسئوليته...
وقد تدخل مشكلة أنصاف الحقائق في حياتنا الروحية، حينما نعمل لدنيانا فقط، وننسى حياتنا الأخرى... حينما نهتم بكيف نعيش ههنا على الأرض، وننسى النصف الآخر من الحقيقة وهو أننا سنقدم عن حياتنا هذه حسابًا أمام الله في اليوم الأخير، يوم لا يجدي عذر، ولا ينفع شفيع...
وقد تدخل أنصاف الحقائق هذه في مسائل التربية... فيظن الأب المسكين أن كل واجبه هو مستقبل أبدي من حيث تعليمه وتوظيفه، وأكله وشربه وصحته وكافة احتياجاته المادية. وينسى النصف الآخر من الحقيقة وهو واجبه حيال أبدية هذا الابن وروحياته وعلاقته بالله...
ومشكلة أنصاف الحقائق هذه قد تدخل في الحياة الاجتماعية، وتسبب متاعب كثيرة وبخاصة في الفهم الخاطئ للحرية. فقد يقول إنسان: "أنا حر. أفعل ما أشاء" وينسى النصف الآخر من الحقيقة وهو أن عليه أن يمارس حريته بشرط ألا يتعدى على حريات غيره من الناس...
فالذي يقيم حفلة ويرفع مكبرات الصوت فيها كما يشاء، وينتشر هذا الصوت العالي في كل مكان، مدعيًا بأنه حر. إنما ينسى حريات الآخرين، وكيف أن هذا الصوت قد يزعج نائمًا في فراشه، أو مريضًا محتاجًا إلى الراحة، أو تلميذًا يذاكر دروسه، أو قومًا يتحدثون في موضوع ما أو أي شخص يريد أن يستغل وقته في شيء آخر غير سماع هذا الحفل...
ليتنا ننظر إلى الحقائق كاملة... ولا نكتفي بأنصاف الحقائق، لئلا تضللنا...
* من قسم كلمة منفعة: الحقيقة كلها - أنت والحق - الحق 1 - الحق 2 - النصف الآخر
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/x2k7y9t