هل الصالح الإسراع في العمل أم البطء فيه؟ انه سؤال حير الكثيرين، وتعددت فيه الآراء، وتناقضت، وبقى الناس حائرين بين السرعة والبطء.
نسمع أحد الشعراء يشجع على التروي والتأني فيقول:
قد يدرك التأني بعض حاجته وقد يكون مع المستعجل الزلل
ولكن هذا الكلام لا يعجب شاعرًا آخر فيرد عليه قائلًا:
وكم أضر ببعض الناس بطؤهمو وكان خيرًا لهم لو أنهم عجلوا
وهكذا بقى الأمر كما هو، موضع حيرة: هل نبت في الأمر بسرعة، أم نتأنى ونتروَّى... فما هو الحل؟
لا شك أن كثيرًا من الأمور لا يمكن أن تقبل التباطؤ. وقد يكون البطء فيها مجالًا للخطر والخطأ، ويحسن فيها الحزم والبت السريع.
فمثلًا لا يصح أن يتباطأ إنسان في التوبة. لأن كل وقت يمر عليه في الخطيئة، إنما يزيد عبوديته لها.
ويحول الخطأ إلى عادة، وقد يحول العادة إلى طبيعة. وربما يحاول الخاطئ أن ينحل من رباط شهواته فلا يستطيع، أو قد يستطيع أخيرًا بمرارة وصعوبة وبعد جهاد مميت. كل ذلك لأنه أبطأ في توبته وفي معالجة أخطائه...
وبالمثل فإن التباطؤ في معاجلة الأمراض الجسدانية، قد ينقلها إلى مراحل من الخطر يصعب فيها علاجها أو يستحيل... وبالمثل في مسائل التربية، حيث يؤدي التباطؤ في تقويم الطفل أو الشاب إلى إفساده.
وقد صدق الشاعر الذي قال:
إن الغصون إذا قومتها اعتدلت ولا يلين -إذا قومته- الخشب
هناك إذن مواقف تحتاج إلى بت سريع وإلى حزم قبل أن تتطور إلى أسوأ، وقبل أن يسبق السيف العزل... وربما تحتاج إلى تصرف قد يكون مؤلمًا، ولكنه يكون لازمًا وحاسمًا بقدر ما يكون سريعًا وحازمًا. وهناك علاقات ضارة وصداقات معثرة ينبغي أن تؤخذ من أولها بحزم. كذلك قد توجد اتجاهات فكرية مخزية، أو اتجاهات سلوكية منحرفة، إن لم يسرع المجتمع في التخلص منها، فقد تُقَاسِي هذا التباطؤ أجيال وأجيال...
ومع هذا الفضل الذي ننسبه إلى السرعة، هناك مواقف كثيرة تحتاج إلى التباطؤ وإلى التأني والتروي، ويتلفها الإسراع أو الاندفاع.
فمتى يصلح التباطؤ إذن؟
من النصائح الجميلة في الكتاب المقدس، قول الوحي الإلهي: "ليكن كل إنسان مسرعًا في الاستماع، مبطئًا في التكلم، مبطئًا في الغضب. لأن غضب الإنسان لا يصنع بر الله".
نعم إن التباطؤ في الغضب فضيلة عظمى. فإن الذي يسرع به الغضب، قد يصل إلى الاندفاع، وفي اندفاعه قد يفقد سيطرته على أعصابه، أو قد يفقد سيطرته على تفكيره... وهكذا يخطئ...
لذلك حاذر من أن تأخذ قرارًا حاسمًا في ساعة غضبك، لئلا بذلك تضر نفسك أو تضر غيرك (اقرأ مقالًا آخر عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في قسم الأسئلة والمقالات)... إنما تحاول أن تهدئ نفسك أولًا... ثم بعد ذلك فكر وأنت في حالة هدوء... أو ببطء في الموضوع وأجل الأمر إلى أن تهدأ. إن القرارات السريعة التي تصدر في حالة غضب، تكون في غالبيتها عرضة للخطأ.
قد يطلق إنسان امرأته، إن أسرع باتخاذ قرار في ساعة غضب... وقد يفقد أعز أصدقائه، وقد يتخلى عن عمله، بل قد يهاجر أيضًا من وطنه، كل ذلك لأنه أخذ قرارًا سريعًا في ساعة انفعال، ولم يتباطأ، ولم يؤجل الموضوع إلى أن يهدأ.
بل قد ينتحر إنسان ويفقد حياته، لأنه أسرع باتخاذ قرار في ساعة انفعال، أو قد يسرع بقتل غيره، أو يأخذ ثأره، كل ذلك في ساعة انفعال... لذلك أمر الله أن يكون الشخص منا بطيئًا في غضبه... لا يغضب بسرعة. وإن غضب لا يقرر شيئًا بسرعة...
وإن قرر إنسان شيئًا بسرعة، فلا مانع من أن يرجع في قراره. وقد يظن البعض أنه ليس من الرجولة ولا من حسن السمعة أن يرجع إنسان في كلمته، أو يلغي قرارًا له. ولكن الحكمة تقتضي منا أن يراجع الإنسان نفسه فيما اتخذه من قرارات سريعة...
اترك القيادة لعقلك، لا لأعصابك. إن أسرعت في التصرف في حالة انفعال، تكون مقادًا بأعصابك لا بعقلك، وفي هذا خطر عليك وعلى غيرك.
وحاذر من أن تكتب رسالة إلى غيرك في ساعة غضب، لأنك ستندم على ما كتبته ويؤخذ وثيقة ضدك... وإن لم تستطع أن تقاوم نفسك، وكتبت مثل هذه الرسالة، فنصيحتي لك أن تتباطأ في إرسالها. اتركها في مكتبك يومين أو ثلاثة، ثم عاود قراءتها مرة أخرى، فستجد أنها تحتاج إلى تعديل وتغيير أو تجد أنك استغنيت عنها ولم تعد تتحمس لإرسالها...
إن التباطؤ في الغضب قد يصرفه... الغضب يحركه شيطان سريع الحركة، والتباطؤ يشل حركته ويوقفه عن العمل... فإن دخلت في نقاش أدى بك إلى الغضب، أجله لوقت آخر، حتى تهدأ...
كذلك البطء في التكلم نافع ومفيد... استمع كثيرًا قبل أن تتكلم... حاول أن تفهم غيرك... حاول أن تلم بالموضوع إلمامًا كاملًا. أعط نفسك بهذا البطء فرصة لمعرفة ما ينبغي أن تقوله. وهكذا يكون كلامك عن دراسة، وبروية وهدوء، فلا تخطئ.
وإن تكلمت فليكن كلماتك هادئة... لا تسرع في حديثك، بل تخير ألفاظك. زِنْهَا جيدًا بميزان دقيق قبل أن تلفظها. وأن تلفظها. وإن وجدت عبارة منها غير مناسبة، أبدلها بغيرها... وهذا لا يتأتَّى لك إلا إذا كنت مبطئًا في التكلم، غير مندفع فيه.
إن الكلمة الخاطئة التي تقولها، لا تستطيع أن تسترجعها مرة أخرى. لقد خرجت من فمك وانتهى الأمر، ووصلت إلى آذان سامعيك، وتسجلت، وحسبت عليك... ربما يمكنك أن تعتذر عنها، أو تندم عليها، ولكن لا يمكنك أن تسترجعها داخل فمك. لقد حسبت عليك... لذلك تباطأ في كلامك...
إن العربة المندفعة بسرعة هائلة، لا تستطيع أن تقف فجأة، أو تغير اتجاهها وهي مسرعة، كذلك المسرع في كلامه: ربما لا يمكنه أن يغير أسلوبه فجأة إن أحس بخطئه، وقد لا يحس... أما الذي يبطئ في كلامه ويتخير ألفاظه، فما أسهل عليه أن يعدل أسلوبه إن شعر بخطأ...
الهادئ في كلامه يناقش الفكرة قبل أن يتكلم بها. أما المسرع في حديثه، فيقول الفكرة ثم يناقشها بعد ذلك، وقد تكون خاطئة! وقد يضطر إلى أن يسحب فكرته، أو يتنازل عنها، أو يعترف بخطئها. وقد يصيبه حرج في كل ذلك بسبب إسراعه...
وكما ينفع البطء في الغضب والكلام، كذلك ينفع البطء في إصدار الأحكام. لا تحكم بسرعة. ولا تصدق كل ما يقال. ولا تقبل وشاية أو دسيسة ضد إنسان. إنما فكر كثيرًا، ولا تصدر حكمك إلا بعد مزيد من التروي والفحص، فهناك أخبار ربما تصلك من أصدقائك أو من أبنائك أو من مرؤوسيك أو من رؤسائك، أو من مصادر غير موثوق بها، لذلك تباطأ في حكمك.
ومما ينفع فيه البطء أيضًا، البطء في الرغبات... إذا أتتك رغبة، فلا تسرع في تنفيذها، لأنك لا تضمن فربما تكون من الشيطان. وأن كانت رغبة مقدسة، فلا تلهبك السرعة إليها لأن السرعة تورث القلق واللهفة والاضطراب وتوقعك في تعب الانتظار...
اطرح رغبتك بين يدي الله، وهو سيختار لها الموعد المناسب بحكمته الإلهية. وفي بطء رغباتك تعلم الصبر. وانتظر الرب... وإذا طلبت من أحد شيئًا، فلا تلح عليه إلحاحًا أن ينفذ بسرعة، لئلا يتضايق منك، ولئلا تكون هناك عوائق أمامه تحتاج إلى وقت وأنت لا تدرى.
المقال مع بعض التعديلات نُشِر في وقتٍ لاحق
نحن في زمن يتميز بالسرعة. كل ما فيه سريع: توجد سرعة في
تلاحق الأحداث. وسرعة في تناقل الأخبار. وسرعة نتيجة للمخترعات الحديثة مثل
الإنترنت. والفاكس وال Mobile Phone. والكمبيوتر. وحتى في الطيران وُجدت السرعة
التي توصل إلى القمر والمريخ. وسرعة طائرات الـConcorde. وفي الماكينات توجد
سرعة: سرعة في الإنتاج. وسرعة في المطابع وفي استخدام الآلة الكاتبة.
وكثيرون جرفهم تيار السرعة في كل مجالات حياتهم. ونتيجة لكل ذلك. يقف البعض
أمام سؤال هام: هل من الصالح الإسراع أم البطء. والبعض يقول هناك فرق بين
السرعة والتسرع. وبين البطء والتباطؤ...!
والسؤال ما زال موضع حوار. ونود هنا أن نوضحه...
نقرأ لأحد الشعراء يشجع على التروي والتأني فيقول:
قد يدرك المتأني بعض حاجته... وقد يكون مع المستعجلِ الزللُ
ولكن هذا الرأي لا يعجب شاعرًا آخر. فيرد عليه قائلًا:
وكم أضر ببعض الناس بطؤهمو... وكان خيرًا لهم لو أنهم عجلوا
وهكذا بقي الأمر كما هو موضع حيرة: هل نبتّ في أمر بسرعة. أم من الأفضل التأني
والتروي؟... فما هو الحل؟
لا شك أن كثيرًا من الأمور لا يمكن أن تقبل التباطؤ
وقد يكون البطء فيها مجالًا للخطر والخطأ. ويحسن فيها الحزم والبتّ السريع...
وسنضرب لذلك أمثلة:
فمثلًا لا يصح أن يتباطأ إنسان في
التوبة:
لأن كل وقت يمر عليه في الخطيئة. إنما يزيد عبوديته لها. ويحوّل الخطأ إلى
عادة. وقد يحوّل
العادة إلى طبع. وربما يحاول الخاطئ فيما بعد. أن ينحل من رباطات شهواته فلا يستطيع. أو قد يستطيع أخيرًا بمرارة وصعوبة وبعد جهاد مميت. وكل ذلك لأنه أبطأ في التوبة وفي معالجة أخطائه...
فالذي يتباطأ في إقلاعه عن التدخين أو
شرب الخمر. قد يتحول كل منها إلى إدمان يجاهد في علاجه إن جاهد ويصعب الأمر عليه...
وبالمثل التباطؤ في معالجة الأمراض الجسدية والروحية:
فالمرض إذا تباطأنا في علاجه. قد ينتقل إلى مراحل من الخطأ يصعب فيها العلاج أو
يستحيل. وبالمثل في وسائل التربية. حيث يؤدي التباطؤ في تقويم الطفل أو الشاب
إلى إفساده. وصدق الشاعر الذي قال:
إن الغصون إذا قوّمتها اعتدلت... ولا يلين إذا قوّمته الخشبُ
سهل عليك أن تصلح تصرفًا سيئًا في طفل. فإذا شبّ على ذلك وكبر. يكون من الصعب
معالجة ذلك فيه. وقد تحوّل إلى عادة أو طبع.
المسائل التي قد تتحول إلى خطر. تصلح لها السرعة بل تجب:
كإسعاف مريض. أو إنقاذ غريق. أو إطفاء حريق...
لذلك فسيارات الإسعاف. وسيارات المطافئ. يُفسح لها الطريق لتسير بسرعة. حتى لو
أدَّي الأمر إلى مخالفة إشارة المرور. لأن سرعتها لازمة لإنقاذ نفس إنسان أو عدة
نفوس. وفي بعض بلاد الغرب يُوجد لها طريق جانبي يُسَمَّى Shoulder تجتازه بحرية
(اقرأ مقالًا آخر عن
هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في قسم الأسئلة والمقالات). وكذلك بعض سيارات الشرطة...
أما باقي السيارات فالسرعة الزائدة فيها خطأ. وهو ضد قواعد المرور.
ولذلك فإن صاحب السيارة قد يقول للسائق ذلك المثل "امشِ على مهلك. لكي نصل بسرعة"! أي لكي نصل بدون حوادث تعطلنا...
أيضًا هناك مواقف تُمتدح فيها السرعة. وكأنها فضائل أو مزايا:
مثل السرعة في الفهم. وسرعة البديهة في الرد السليم. والسرعة في الطاعة.
والسرعة في التشهيلات وتيسير الأمور. والسرعة في التصرف قبل فوات الفرصة. وكذلك السرعة في التصالح. والسرعة في تنفيذ الوعود. والسرعة في الوفاء بالنذر. وفي رد الديون. وما أشبه...
كذلك السرعة التي فيها حزم وَبتّ سريع. قبل أن تتطور الأمور إلى أسوأ. وقبل أن يسبق السيف العزل. ومثل هذا الحزم يحتاج إلى تصرف سريع قد يكون مؤلمًا. ولكنه في نفس الوقت يكون لازمًا وحاسمًا. بقدر ما يكون سريعًا وحازمًا...
وهناك علاقات ضارة. وصداقات معثرة. ينبغي أن تؤخذ من بادئ الأمر بحزم. كذلك قد توجد اتجاهات فكرية مخربة. أو اتجاهات سلوكية منحرفة: إن لم يسرع المجتمع في التخلص منها. فقد تقاسي من التباطؤ في علاجها أجيال وأجيال...
كذلك من الأمور التي تلزمها السرعة: الإغاثة.
سواء إغاثة الفرد المحتاج. أو إغاثة المجتمع بالإصلاح المنشود... ومنها السرعة في نظر الشكاوى. والسرعة في إنصاف المظلوم. والسرعة في إعطاء كل ذي حق حقه. والبعد في الإدارة عن أمور الروتين. وعدم ترك صاحب الطلب ينتظر طويلًا حتى يُنظر في أمره...
وقد كتب في أمثال سليمان الحكيم "لا تمنع الخير عن أهله. حين يكون في طاقة يدك
أن تفعله. لا تقل لصاحبك اذهب وتعالَ غدًا لأعطيك. وطلبه موجود عندك"... بل إن
المرتل يصلي في
المزمور ويقول "اللهم التفت إلى معونتي. أسرع وأعني". ويطلب السرعة في
الاستجابة.
تكلمنا عن المجالات التي تلزم فيها السرعة. ونتحدث الآن عن المجالات التي يحسن
فيها التأني والتروي. فنقول.
ليست أفضل الحلول هي أكثرها سرعة. إنما أفضلها هي أكثرها إتقانًا...
فالسرعة ليست هي مقياس الأفضلية. إنما الأفضلية في الإتقان... ولنأخذ مثالًا
لذلك في الكلام والغضب. إذ يقول الكتاب المقدس: "ليكن كل إنسان مسرعًا إلى
الاستماع. مبطئًا في التكلم. مبطئًا في
الغضب. لأن غضب الإنسان لا يصنع بر الله". حقًا. إن التباطؤ في الغضب هو فضيلة سامية. لأن الذي يُسرع إلى الغضب. قد يصل إلى الاندفاع. وفي اندفاعه قد يفقد سيطرته على أعصابه. بل قد يفقد السيطرة على سلامة تفكيره أيضًا. فيخطئ...
لذلك احذر من أن تأخذ قرارًا حاسمًا في ساعة غضبك...
لئلا بذلك تضر نفسك. أو تضر غيرك... إنما حاول أن تهدئ نفسك أولًا. ثم بعد ذلك
فكرّ وأنت في حالة هدوء... أو تباطأ وأجّل الموضوع إلى أن تهدأ... فالقرارات
السريعة التي تصدر في حالة غضب. تكون في غالبيتها عرضة للخطأ.
أما التباطؤ فيعطي فرصة للتفكير والدراسة والفحص...
قد يطلق إنسان امرأته. إن أسرع باتخاذ القرار في ساعة غضب!
وقد يفقد أعز أصدقائه. وقد يتخلى عن عمله. وربما يهاجر من وطنه... كل ذلك لأنه أخذ قرارًا سريعًا في ساعة انفعال...
المقال مع بعض التعديلات نُشِر في وقتٍ لاحق في جريدة الأهرام يوم 20 نوفمبر 2011
هل من الصالح السرعة في العمل أم البطء فيه؟ إنه سؤال حير الكثيرين, وتعددت فيه الآراء وتناقضت, وبقي الناس حائرين. فنسمع أحد الشعراء يشجع على التروي والتأني وهو مرحلة ما بين السرعة والبطء فيقول.
قد يدرك المتأني بعض حاجته وقد يكون مع المستعجل الذلل
ولكن هذا الكلام لا يعجب شاعرًا آخر فيرد عليه قائلًا:
وكم اضر ببعض الناس بطؤهم وكان خيرا لهم ولو أنهم عجلوا
وهكذا بقي الأمر كما هو موضع حيرة: هل نبت في الأمر بسرعة؟ أم نتأنى ونتروَّى؟ فما هو الحل؟!
ولا شك أن كثير من الأمور لا يمكن أن تقبل التباطؤ. وقد يكون البطء فيها مجالًا للخطر والخطأ. ويحسن فيها البت السريع.
فمثلا التباطؤ في معالجة بعض الأمراض الجسدية، قد ينقلها إلى مراحل من الخطر، يصعب فيها علاجها أو يستحيل... وبالمثل في مسائل التربية. حيث يؤدي التباطؤ في تقويم الطفل أو الشاب إلى إفساده بينما لو عولج في طفولته بالهداية لكان الأمر سهلًا مثل غصن الشجرة الذي يمكن عدله في بادئ الأمر، أما إذا تقادم فإنه يتخشب ويصعب تعديله.
وفي ذلك قال الشاعر:
إن الغصون إذا قومتها اعتدلت ولا يلين إذا قومته الخشب
وعلى ذلك لا يصح أن يتباطأ إنسان في التوبة. لأن كل أمر يمر عليه في الخطيئة، إنما يزيد استعبادها له. فيتحول الخطأ إلى عادة. وقد تتحول العادة إلى طبع. وحينئذ قد يحاول الخاطئ أن ينحل من رباط خطيئته أو شهوته فلا يستطيع. أو قد يستطيع بنعمة الله أن ينحل من هذه الرباطات بعد مدة، ولكن بمرارة وصعوبة، وبعد جهاد مميت... كل ذلك لأنه تباطأ في توبته وفي معالجة أخطائه.
هناك إذا مواقف تحتاج إلى بَتّ سريع وإلى حزم، قبل أن تتطور إلى أسوأ، وقبل أن يسبق السيف العزل. وبعض التصرف السريع قد يكون مؤلمًا، ولكن يكون لازما بقدر ما يكون سريعًا وحاسمًا. وهناك علاقات ضارة وصداقات معثرة، ينبغي أن تؤخذ من أولها بحزم. كما قد توجد اتجاهات فكرية مخربة، أو اتجاهات سلوكية منحرفة. إن لم يسرع المجتمع في التخلص منها، فقد تقاسي من هذا التباطؤ أجيال وأجيال... ومن الناحية الأخرى هناك مواقف عكسية كثيرة تحتاج إلى التأني، ويتلفها الإسراع أو الاندفاع.
فمتى يصلح التباطؤ إذن؟
يعجبني ذلك القول الحكيم: 'ليكن كل إنسان مسرعًا إلى الاستماع، مبطئًا في التكلم، مبطئًا في الغضب. لأن غضب الإنسان لا يصنع بر الله'، ونص الآية هو: "لِيَكُنْ كُلُّ إِنْسَانٍ مُسْرِعًا فِي الاسْتِمَاعِ، مُبْطِئًا فِي التَّكَلُّمِ، مُبْطِئًا فِي الْغَضَبِ. لأَنَّ غَضَبَ الإِنْسَانِ لاَ يَصْنَعُ بِرَّ اللهِ" (يع 1: 19، 20)... نعم إن التباطؤ في الغضب فضيلة كبيرة. فإن الإنسان سريع الغضب، قد يصل به الغضب إلى الاندفاع. وفي اندفاعه قد يفقد سيطرته على أعصابه، أو قد يفقد سيطرته على لسانه، ويقع في أخطاء كثيرة...
لذلك احذر من أن تأخذ قرارًا حاسمًا في ساعة غضبك. لئلا تضر نفسك أو تضر غيرك. إنما حاول أن تهدئ نفسك أولًا. ثم بعد ذلك فكر وأنت في حالة هدوء، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام أخرى. أو تباطأ في الوضع أو أجل الأمر إلى أن تهدأ. فإن القرارات السريعة التي تصدر في حالة غضب، قد تكون غالبيتها عرضة للخطأ.
قد يطلق إنسان امرأته، إن أسرع باتخاذ قرار في ساعة غضب. وقد يفقد أعز أصدقائه، وقد يتخلى عن عمله، بل قد يهاجر أيضًا من وطنه... كل ذلك لأنه أخذ قرارًا سريعًا في ساعة انفعال، دون أن يتباطأ ويفكر، ودون أن يؤجل الموضوع إلى أن يهدأ.
بل قد ينتحر إنسان ويفقد حياته، لأنه أسرع باتخاذ قرار ساعة انفعال! أو قد يسرع بقتل غيره آخذا بثأره منه. كل ذلك في ساعة انفعال. لذلك من الخير أن يكون الإنسان مبطئًا في غضبه. وإذا غضب لا يقرر شيئًا بسرعة.
وإذا قرر إنسان شيئًا بسرعة، فلا مانع من أن يرجع في قراره. أو قد يظن البعض أن الرجوع في القرار حينئذ، ليس هو من الرجولة أو من حسن السمعة... ولكن الحكمة تقتدي منا أن يراجع الإنسان نفسه فيما اتخذه من قرارات سريعة.
اترك القيادة لعقلك لا لأعصابك. وإن أسرعت في التصرف في حالة انفعال، تكون وقتذاك منقادا بأعصابك لا بعقلك. وهذا خطر عليك وعلى غيرك.
أحذر أيضًا من أن تكتب رسالة إلى غيرك في ساعة غضب. لأنك ستندم على ما كتبته، ويؤخذ وثيقة ضدك. فإن لم تستطع أن تقاوم نفسك وكتبت مثل هذه الرسالة، فنصيحتي لك أن تتباطأ في إرسالها. اتركها على مكتبك يومين أو ثلاثة. ثم عاود قراءتها مرة أخرى. فستجد أنها تحتاج إلى تعديل وتغيير، أو قد تجد أنك قد استغنيت عنها ولم تعد تتحمس لإرسالها.
إن التباطؤ في الغضب قد يصرفه. كذلك البطء في التكلم نافع ومفيد. استمع كثيرًا قبل أن تتكلم. حاول أن تفهم غيرك، أو أن تلم بالموضوع إلمامًا كاملًا. وأعط نفسك فرصة للتفكير ولمعرفة ما ينبغي أن تقوله. حينئذ يكون كلامك عن دراسة وبهدوء فلا تخطئ. إن الكلمة الخاطئة التي تقولها، لا تستطيع أن تسترجعها مرة أخرى، فقد تسجلت وحُسِبَت عليك.
على أن الإنسان يجب أن يكون مسرعًا في التوبة. ويجب أن يكون مسرعا في إنقاذ غيره. فأنت لا تستطيع مطلقًا أن تبطئ في إنقاذ غريق، كما لا يستطيع المجتمع أن يبطئ في إنقاذ من هم في حريق. ولذلك فإن عربات الإسعاف، وعربات إطفاء الحرائق لها في غالبية البلاد وضع آخر في حركة المرور. فحياة الناس والحفاظ عليها، لا يصح لها الإبطاء أبدًا.
كذلك في أمور الإدارة، هناك موضوعات لا بُد من الحزم فيها بسرعة قبل أن تتحول الشكوى إلى تمرد، ويتحول التمرد إلى مظاهرات وإلى مشاحنات وما لا يليق.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/qga8tpz