مع غروب الشمس في منطقة الدلتا دقت أجراس الدير، وأسرع مئات الرهبان متوجهين نحو كنيسة الدير في جديةٍ ووقارٍ مع هدوءٍ دون أن يهمس أحدهم بكلمة.
في دقائق اكتظت الكنيسة بجموع الرهبان كالعادة، ووقف الكل صامتين لكي يبتدئ الكاهن بينوفيوس الصلاة، ولأول مرة لم يحضر، مرت دقائق طويلة وأخيرًا بدأ أحد الشيوخ الصلاة، وبعد الصلاة تحرك الشيخ نحو قلاية الكاهن يسأل عن سبب تغيبه.
وجد باب القلاية مفتوحًا وقد لصق عليها ورقة سجل فيها الكاهن الكلمات التالية:
"أخوتي الأحباء رهبان الدير.
سلام إلهنا الصالح يملأ قلوبكم.
أكتب إليكم والدموع تنهمر من عيني.
فإني أشعر إنني عشت بين قديسين عظماء لا استحق حتى الحديث معهم.
كنت أرى وجه السيد المسيح متجليًا على ملامح كل واحد منكم.
بشاشتكم الدائمة، وتهليل قلوبكم المستمر، وجديتكم في العبادة، واهتمامكم بخلاص كل شخص، وصلواتكم الحارة من أجل كل مسكين أو محتاج أو متألم أو مطرود.. هذه كلها لن تفارق عيني قلبي.
اعترف لكم بتقصيري الشديد وإهمالي.
مديحكم المستمر لي، وتكريمكم لضعفي، وسخاؤكم في محبتكم، هذه كلها أقلقت نفسي المسكينة، إني لا أستحق حبكم. وأخشى أن أفقد أبديتي بسبب هذا.
سامحوني لقد قررت أن أغادر الدير، لكن صدقوني إني أحمل كل واحدٍ منكم في قلبي إلى يوم انتقالي، بل وحتى عند لقائي مع مخلصي.
صوركم منحوتة في أعماقي، لا يستطيع حتى الموت أن يمحوها.
صلوا عن ضعفي حتى يرشدني إلهي ويُعِدُني للقائي معكم.
سامحوني، الرب معكم.
خادمكم في المسيح
بينوفيوس.
إذ كان الشيخ يقرأ هذه الورقة سرعان ما تجمعت أعداد ضخمة من الرهبان، حضروا ليسألوا عن أبيهم المحبوب بينوفيوس.
لاحظوا أصابع الشيخ تهتز، والدموع تتساقط من عينيه وتسقط ورقة من يده..
ارتبك الجميع، ولم يجسر أحد أن ينطق بكلمة، لكن الشيخ بحزن شديد قال:
"حقًا إننا لا نستحق وجودك معنا يا أبانا بينوفيوس!
عجيب أنت في حبك، وعجيب في تواضعك.
ولكن إلى أين تذهب؟
فالقطر المصري بكل أديرته يعرفك ويحبك!
أين تهرب يا أبي!
لماذا لم تودعنا؟!"
أدرك الحاضرون الموقف، وانصرفوا إلى قلاليهم كيتامى فقدوا أباهم الروحي المحبوب لديهم جدًا.
أرسل الدير بعض الرهبان إلى كثير من الأديرة يبحثون عن الأب بينوفيوس لكنهم لم يجدوا له أثرًا.
← ترجمة القصة بالإنجليزية هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت: I Decided to Leave the Monastery: Departure without saying Goodbye
في حديقة دير بمنطقة طيبة بينما كان بعض الشبان يعملون معًا، تقدم إليهم أحد الشيوخ يقول لهم:
"أنا أعلم أنكم محتاجون إلى من يساعدكم في عمل الفلاحة،
لقد جاءنا هذا الفلاح الشيخ يبدو عليه إنه صاحب خبرة في الزراعة.
إنه مسن، لكن خبرته تعوض قدرته الجسدية.
ليعمل معكم تحت الاختبار".
أظهر الشبان شيئًا من الامتعاض، فإن الفلاحة تحتاج إلى مجهود شاق يصعب على شيخ أن يمارسه، وهكذا حسبوا الشيخ أنه يمثل ثقلًا عليهم عوض أن يعاونهم.
من أجل الطاعة قبلوه ليختبروه، فألقوا عليه مهام تحتاج إلى مجهود جسماني ضخم حتى يضطر إلى ترك المكان باختياره.
بذل الشيخ كل جهده في العمل، وكانت البشاشة لا تفارق وجهه، هذا مع رقة حديثه معهم.
في إحدى الأمسيات إذ جلس الكل معًا في أكواخ صغيرة تحدث معهم الشيخ فأحبه الحاضرون، وحسبوه أبًا لهم. تعلقت نفوسهم به، وصاروا يلقون بكل همومهم عليه، أما هو فكان يرفعهم بروح اللَّه القدوس ليختبروا الحياة السماوية الفائقة.
سرعان ما اجتذب كثيرين، ليس فقط من العاملين معه وأقربائهم، بل حتى من الغرباء. وتحولت أنظار الكثيرين، حتى من الرهبان، نحو هذا الشيخ العجيب في حبه ورقته وروحانيته.
كان الشيخ يترك كوخه كل يوم في ساعة متأخرة من الليل ليمارس بعض الأعمال الصعبة التي لا يلتزم بها آخرون.. ولم يكن أحد يدرك من الذي يقوم بها خفية.
بعد سنوات، إذ كان الشيخ يعمل في الحديقة لاحظ العاملون معه ضيفًا يقترب من الشيخ ويتفرس في وجهه ثم يسأله عن أمرٍ ما، وفجأة ارتمى عند قدميه يريد أن يقبلهما!
في لحظات اجتمع كل العاملين في الحديقة حول الشيخ الذي أمسك بالرجل يسحبه من الأرض بكل قوة ويقبله!
صرخ الرجل: "لن أتركك يا أبانا بينوفيوس."
حاول الشيخ أن يهرب، لكن الكل التف حوله يسألون الرجل الغريب عن قصته، فأخبرهم بأنه الراهب الكاهن بينوفيوس الذي هرب من الدير في منطقة الدلتا بسبب ما ناله من كرامة فائقة.
امسكوه لكي لا يهرب، واعتذروا له عن كل تصرفٍ جافٍ صدر عنهم، ودخلوا معه إلى الدير حيث اجتمع كل الرهبان يطلبون بركته.
تحت الضغط الشديد انطلقوا به إلى ديره حيث استقبله الجميع بحفاوة عظيمة، أما هو فكان يبكي بمرارةٍ. لقد هرب من الكرامة فعادت إليه مضاعفة.
صار الدير يراقبه حتى لا يهرب، لكن سرعان ما تكرر الأمر، وهرب هذه المرة إلى دير بفلسطين متخفيًا.. وللمرة الثانية أُكتشف أمره، واضطر تحت ضغط الكثيرين أن يعود إلى ديره.
بحبه غادر بينوفيوس الدير هربًا من الكرامة.
وبحبه حمل أخوته وأولاده في قلبه أينما ذهب.
هرب من الكرامة، لكنه لم يهرب من العمل.
هرب، لا ليطلب الراحة، بل ليجاهد بالأكثر.
أينما وُجد حمل كل نفس ورفعها إليك!
_____
* روى لنا القديس يوحنا كاسيان هذه القصة الواقعية، وقد التقى بالأب بينوفيوس في ديره بفلسطين.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/j4kd2q6