يُقال أنه يوجد نوع من السرور مستتر في عمق الألم. فكثير ممن يحزنون لموت أبنائهم يجدون عزاءً إذا ما تُركوا وحدهم مع دموعهم، لكن إن حسبوا تلك الدموع يشعرون بازدياد عمق الألم. بالمثل فإن بولس لم ينقطع عن اكتشاف العزاء من خلال البكاء ليلًا ونهارًا. ولم يحزن أحد قط على آلامه مثلما حزن هو على آلام الآخرين. ما أعظم اهتمامه بخلاص اليهود، وذلك حينما صلىٌ أن يُحرم من مجد السماء لو كان ذلك سبيلًا لخلاصهم (رو 3:9)! ألا يوضح ذلك أن فقدان الآخرين لخلاصهم أشد ألمًا من فقدانه خلاص نفسه، وإلا لِما صلى كما ذكر. لقد فضلٌ أن يكون محرومًا واستمد عزاءً عظيمًا من هذا الفكر، ولم يكن هذا فكرًا طائرًا، بل كان اشتياقًا متأصلًا في أعماقه، عبر عنه قائلًا: "إن لي حزنًا عظيمًا ووجع في قلبي لا ينقطع" (رو 2:9). إذًا بماذا نقارن بولس الذي يئنٌ يوميًا من أجل كل إنسان في هذا العالم، من أجل كل جنس ومدينة، من أجل كل نفسٍ؟ لقد كانت عزيمته أشدٌ قوة من الحديد، وأكثر حزمًا من الصلب، فبأية كلمات تصف هذه الروح؟! هل نشبهُها بالذهب أم بالصلب؟ إنها أكثر احتمالًا وأقوى من الصلب، وأنقى وأثمن من الذهب والماس، فبأي شيء يمكن مقارنتها؟ لا شيء! لأنه لا يمكن مقارنتها! فإن كان الذهب في نفس قوة الصلب أو أن الصلب له نفس قيمة الذهب لأمكننا وضع أُسس للمقارنة، لكن لماذا نقارن نفس بولس بالصلب أو الذهب؟ ناشد العالم كله وحينئذ ستجد أن العالم كله غير مستحق لنفس بولس، وإن تطابق هذا القول على الذين هاموا في البراري لابسين المسوح وساكنين في شقوق الأرض (عب 11: 37-38)، ينطبق هذا القول على نفس بولس.
فإن كان العالم لا يستحق فمن يستحقه؟ ربما السماء؟ حتى إن هذه وُجدت لا تتوافق معه، لأنه إذ فضٌل محبة الرب على السموات وسكانها، فبالأولى إن الرب الذي يفوق صلاحًا بقدر ما يفوق الصلاح على الخطية سيُفضَله عن سموات كثيرة! لأن حب الله لا يمكن مقارنته بمحبتنا، لأنه يفوقه كثيرًا وبشكل لا يُنطق به!
لنتأمل ما تمتع به بولس من نِعم ومواهب، فقد اختطف إلى الفردوس إلى السماء الثالثة وتمتع بالشركة في كلمات سرائرية لا ينطق بها (2 كو 12: 2، 4)، فاستحق كل كرامة. لأنه حينما جال في الأرض كان كمن بصحبة الملائكة، وبالرغم من فخاخ الجسد المائت كان ملائكيًا في نقاوته، وبالرغم من ضعف بشريته جاهد ليصير ملائكيًا كالقوات العلوية، وكان سلوكه في العالم كمن يسكن على جناحي طائر وككائن غير قابل للفساد. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). احتقر كل المصاعب والأخطار. احتقر كل شيء على الأرض، كمن امتلك السماوات، لمن اختبر رؤية سرمدية، كمن عاش وسط الملائكة في السماء. إن مهمة الملائكة كانت خدمة البشر وحراستهم ولكن لم يستطع أحد القيام بالمهام الخاصة لكل فرد واحتياجاته الخصوصية مثلما فعل بولس لكل الأرض.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/7rfsja9