منذ استشهاد الآباء الأولين الرسولين وما بعدهم، والكنيسة تُعيِّد لهم، مُعتبِرة أنَّ يوم شهادتِهِم هو يوم ميلادهم الحقيقي، وهو ما نُسميه ”مولِد الشهيد“ وهذا التعبير قديم في كنيستنا التي تعتبِر موت الشهيد ليس موتًا بل حياة أبدية، ولهذا احتمل الشهيد الذي نُعيِّد لِتذكاره كل عذاب مُستعذِبًا الألم مُحتقِرًا الموت.
لذلك نجد التاريخ الكنسي يُقنِّن أعياد الشُهداء ويُحدِّدها كنسيًا، لنجتمِع فيها ونحتفِل بتذكار ميلاد (استشهاد) الشهيد... بالفرح والتهليل مُتذكرين أنواع آلامه فيكون عِبرة لأبناء الكنيسة كلها..
ويتأكد هذا فيما قاله العلاَّمة ترتليان عن بولس الرسول وميلاده ثانيةً بميلاد جديد في روما لأنه جاز آلام الموت هناك.. من أجل هذا حرصت الكنيسة على إقامِة تذكار آلام الشُهداء في أيام استشهادهم مع عمل سِجِلاَت للتأريخ.
وكان المُؤرِخون الأوائِل بغِيرة ونشاط زائِد يهتمون بجمع سِيَر الشُّهداء واستوداعها تاريخ الكنيسة، الأمر الذي حفظ لنا قدرًا كبيرًا من أعمال شهادتِهِم..
ويذكُر تاريخنا القبطي أنَّ أوَّل من دوَّن حوادِث الاستشهاد في تاريخ الكنيسة القبطية هو القديس يوليوس الأقفهصي كاتِب سِيَر الشُّهداء الذي عاش في زمن الطاغية دقلديانوس كشاهِد عيان وشهيد، واهتم جدًا بتحديد تاريخ شهادتهم لعمل تذكاراتِهِم الكنسية، وبكتابِة سِيَر أعمال استشهادهم.
كان القديس يوليوس الأقفهصي ثريًا ويشغل منصِبًا كبيرًا في الأسكندرية، وأحب خدمة الأعضاء المُتألِمة، فخدم المُعترفين والشُهداء، يزورهم، يخفِّف آلامهم، يسِد احتياجاتهم، ويدفن أجسادهم.. ولأنه كان من الأثرياء، لذا كان يُساعده ثلاثمائة غُلام من الكَتَبَة والمُساعدين استخدمهم في تسجيل سِيَر الشُهداء وكتابتها وكان معه مِئتان من المُؤرخين.. وبعد أن استبقاه الله لهذا العمل العظيم، ظهر له السيِّد له المجد في رؤيا ليمضي إلى سمنود ويشهد له، وهناك صاحب استشهاده أعاجيب مُتنوعة، حتى قُطِعَت رأسه مع آخرين (ألف وخُمسمائة)..
مُبارك الله ربنا، الذي استبقاه من أجل ثباتنا وتعزيتنا ومن أجل ملكوته الأبدي الذي أعدُّه للذين يُحبون ظهوره..
ويذكُر التقليد أنَّ سِيَر أعمال شُهداء مصر مُحتواه في سنكسار cuna[arion يُسمَّى بسنكسار الأسكندرية الجامِع أو سنكسار هيرونيموس، الذي يستنِد إلى سِجِل أعمال شُهداء يوسابيوس القيصري المُؤرِخ الكنسي المشهور..
وهناك أربعة تقاويم قبطية تم نشرها بواسطة العالِم ماي Mai، واثنان آخران بواسطة العالِم سلوان، وكذلك توجد أعمال شُهداء جَمَعْها مشاهير مؤرخي الأقباط كان آخرهم الأنبا ميخائيل أسقف أتريب ومليج..
ولِسِيَر الشُّهداء طبيعة تاريخية، تُسمَّى في الأصول التاريخية بأعمال الشُّهداء Acts of Martyrs = Acta Martyrum ويُسجل في هذه الأعمال الحوارات التي دارت في المحاكِم بين القُضاة أو الوُلاة وبين الشُهداء، وأنواع العقوبات، وكل ما حدث من أعمال شهادة.. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). كتراث للكنيسة وكِنز للبركة والتقوية والمعونة، فضلًا على تدوين كلِمات الشُهداء والرؤى التي تُعلَنْ لهم..
وهناك تقارير تاريخية ووثائِق كَتَبْها شهود العيان وسجَّلوا فيها بلغتِهِم ما سمعوه ورأوه، وكانت هذه التقارير تعتني بوصف آلام وعذابات الشُهداء وتُسمَّى بلغة التأريخ Passions or Martyria وكذا بعض القصص التي يرويها الآباء عن ظروف الاستشهاد في تعليم الشعب، وهذه القصص تُكتب غالِبًا في زمن مُتأخِر عن زمن الاستشهاد، وتُسمَّى بلغة التأريخ Legend أي رواية تاريخية. وهناك نوعان من روايات الاستشهاد، هما (أعمال) و(آلام) الشُهداء، فأعمال الشُّهداء تتضمن محاضِر جلسات المُحاكمة، والتي تحتوي على أسئِلة السلطات وأجوِبة الشُهداء عليها، مُسجلة بواسطة كَتَبِة المحكمة الرسميين، ثم الأحكام التي نطق بها القُضاة، تلك الوثائِق التي حُفِظَت في دواوين الدولة ومعروفة لدى الكُّتَاب الكنسيين مثل سيرة يوستينوس الشهيد، وسيرِة الشهيد كبريانوس.. وهذه المصادِر لها قيمتها التاريخية التي لا شك فيها بسبب واقعيتها وأصالتها..
أمَّا آلام الشُهداء فهي الروايات التي سَرَدْها شهود العيان المُعاصرين لها، ثم جُمِعَت ودُوِنَت بعد حدوثها بوقت قليل مثل قصة استشهاد بوليكاربوس، الذي سُرِدت سيرته قبل العيد السنوي الأوَّل لذكرى استشهاده... نصوص هذه الوثائِق التاريخية تحمِل لنا الأخبار كما سجلتها اليد الأولى، وتُعطينا أيضًا شهادة صحيحة عن إيمان الكاتِب والبيئة التي كان يتحرك فيها، ووعيه الخاص بتقوى الشُهداء..
وإلى جانِب التأريخ الخاص بالشُهداء، نجد أنَّ سِيَر الشُّهداء منذ العصور المُبكرة للكنيسة قد دخلت ضمن الصلوات الليتورچية القبطية، ولم يعُد من الممكن أن نحتفِل بتاريخ تِذكارهم إلاَّ في القداسات الإلهية.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/vj3fz38