أمَّا القديس يوحنَّا فم الذهب بطريرك القُسطنطينية فقد أحبَّ الحياة الملائكية وعَشَقْ البتولية... وكَشَفْ لنا نِعمة الله الغنية العاملة في السلوك البتولي مُدعِمًا بحياته الذهبية فمه الذَّهبي، فهو لم يختار حياة البتولية تفضيلًا لحياة على الأخرى، بل أراد أن يضبِط شهواته وينال من السيِّد المسيح إكليلًا ويعيش بالفرح والسلام مُكمِلًا حياته بالنِعمة والتعزية.
وفي مقالته ”مُقارنة بين الملِك والراهب“ يسجِل أحاسيسه النُّسكية الصادِقة مُتحدِثًا عن السمائيات وطغمات القديسين وربوات جماعات البتوليين الذين هدموا طُغيان الشيطان ليبشَّروا بملكوت المسيح وبهاء مجده.
وعندما اعتبر بعض المسيحيين أنَّ البتولية ضرب من الجنون، وقامت حملات عنيفة ضد النُّسْك الرَّهباني، كتب ذهبي الفم كُتُبًا ثلاثة يُدافع فيها عن جمال البتولية، مُقدِمًا الردود التي تُبرِز بهاء البتولية.
ويعتبِر القديس يوحنَّا ذهبي الفم أنَّ البتوليين يُشكِّلون مُعسكر المسيح وجماعات القُوَّات العَلَوِية باعتبارهم القطيع الملوكي، الذين يقتاتون بأقوال الله ويحومون كالنحل حول الكِتاب المُقدس، ويتغذون بطعام كُلي السمو.
ومن بين المقالات التي كتبها ذهبي الفم أفرد مقالًا للحديث عن البتولية جاء في جزئين:
الجزء الأوَّل: يُهاجِم فيه الهراطِقة الذين يحتقرون الزواج.
الجزء الثَّاني: يُقدِّم فيه الرؤية المسيحية للبتولية، وكيف أنَّ غير ”القادرين على الخوض في معارِك البتولية من أجل الملكوت“ لا يُكرسونها، مُوضِحًا أنَّ الزواج صالِح لكن البتولية أفضل.
شجَّع القديس ذهبي الفم بيوت العذارى والمُتبتِلات اللائي تحولنَ في رجاء صالح إلى طيور روحية مُنطلِقات نحو المسيح، وحثَّهُنْ على تركيز حُبِّهُنْ في أعمال الرب، لأنَّ السيِّد نفسه يُفضِّل العطاء فوق البتولية ويقبل الذين غلبهم العطاء بمجد عظيم، ويدعوهم ”مُباركي أبي“... لذلك يرى أنَّ الصدقة أكثر أهمية من البتولية.
وكتب القديس رسائِل إلى عذارى ورُهبان ينصحهم أن يُبقوا كما هم في عذارويتهم على اعتبار أنَّ دعوات أولاد الله مُتنوعة وهم يعيشون مواقِف تتناسب مع دعواتهم وقامتهم واستجابتهم لعمل نِعمة الله معهم، فيُؤكِد ذهبي الفم على أنه كما لا يُسمح قط للبتول المُكرَّسة أن تتزوج، لأنَّ عريسها حي دائمًا ولا يموت، كذلك لا يُسمح للمُتزوجة أن تتكرَّس إلاَّ بعد موت زوجها.
ويتفِق القديس يوحنَّا فم الذَّهب مع عموم الآباء في أنَّ البتولية هي حياة فهم الإنجيل وأنها نِعمة وموهبة خاصَّة من الله كعطاء مُتبادِل للشخص كلّه بما فيه الجسد، فيقول: ”كان هناك سببان لتأسيس الزواج... الحياة بعِفة وولادة البنين“ وهو بهذا لم يُنقِص من قيمة الزواج كسِرْ، ويذكُر أيضًا في إحدى عِظاته أنه يوجد في أنطاكية 3000 عذراء يخدمنَ الكنيسة، مِمّا يُدلِّل على انتشار البتولية في تمام مضمونها الجسدي والروحي.
وفي تفسير ذهبي الفم للآية ”وأمَّا العذارى ليس عِندي أمر من الرب فيهِنَّ ولكني أُعطي رأيًا كَمَنْ رحمه الرب أن يكون أمينًا“ (1كو 7: 25) يعتبِر أنَّ ما جاء بها نصيحة من القديس بولس الرَّسول وليس وصية من الرب، حتّى إذا خالف أحد هذه الوصية لا يكون مُتعديًا على وصية الرب... ومَنْ نفِّذها يكون قد عمل عملًا حسنًا، فهو يُقدِّم نصيحة دون أن تكون وصية، مُمتدِحًا البتولية، ومَنْ يقبل نصيحته ينتفِعْ بها ومَنْ لا يقبلها لا يكون قد تعدَّى وصية إلهية. (انظر المزيد عن مثل هذه الموضوعات هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى).
ويعتبِر القديس يوحنَّا أنَّ البتولية في ذاتها ليست خيرًا أو شرًا، لكن يجب أن تتحوَّل إلى طاقات حُبْ لله وخدمته والشهادة له.
ويُؤرِخ ذهبي الفم لتاريخ البتولية في كِتاباته باعتبار أنه لم يكُن هناك موضِع للبتولية في العهد القديم ولا في شرائِعه ولا في المثاليات التي عاش بها رِجاله وقديسوه، لكن الله لم يعدِم الوسيلة التي يُمهِّد بها للبتولية لتأخُذ وضعًا مُتميِزًا قبيل ظهور السيِّد المسيح مُباشرةً.
ونستطيع القول أنَّ كلمة ”البتولية Παρθενια“ غريبة على المُجتمع البشري، لم تظهر إلاَّ في زواياه الخلفية بعيدًا عن الأنظار ولم تَنَلْ تكريمًا أو اعتبارًا عند الناس والمُجتمعات سواء في الفِكْر اليوناني أو بين اليهود، ويقول ذهبي الفم : ”البتولية لم تكُن معروفة في الشريعة القديمة أي الناموس، ولم ينطِق أحد من القُدماء بهذا الاسم على فمه“ ويُكرِّر هذا المعنى في تفسيره لإنجيل متَّى (عِظة 1: 5، 78: 1).
لذلك يرى فم الذَّهب أنَّ كلمة البتولية دخلت في قاموس الجِنْس البشري بميلاد المسيح من عذراء، وأكَّد رب المجد قيمتها العالية حينما نطق بهذا القول: ”يوجد خِصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السموات“ ( مت 19: 12) وجاء بولس الرَّسول يعيشها ويُوصي بها للمُؤمنين (1كو 7: 25-40، 9: 5-15).
ويقول ذهبي الفم ”ما إن ظهر الله للعالم مولودًا من عذراء حتّى بدأ الإنسان يعرِف مُمارسة هذه الفضيلة“.
ويُعرِّف البتول أنه -رجُل كان أم عذراء- استبدِل الحنين للجسد الآخر بالالتصاق بالرب في عِشْق إلهي (1كو 6: 17) والبتول اتسع حضنه ليحوي الخليقة كلّها عِوَض الانحصار في أُسرة واحدة وبنين لا يزيد عددهم عن أصابِع اليد، فالبتولية من أجل الله شيء ليس من هذا العالم بل غِنَى للعالم ووفرة مُضافة لحساب البشرية.
وامتدح البوق الذَّهبي بعقله السمائي الحياة الرَّهبانية باعتبار أنَّ البتولية أحد نِذورها فكتب عنها شارِحًا أنَّ الله يجد فيها جيشه المُهيأ للحرب وكتيبته المحفوظة للأعمال المُقدسة، موكِبه الشَرَفِي، وطغمته المُشيدة له بالمدائِح، وأهل بيته الجاثين عند قدميه، وجنوده البواسِل.
أكَّد القديس على أنَّ النِفوس المدعوة للبتولية إنما هي مدعوة إلى كمال أعظم وإلى حياة سمائية وإلى ترك الأرض لأجل السماء والوقت لأجل إكرام الأبدية، مُعتبِرًا أنَّ حياة البتولية شهادة إنجيلية وكمال إنجيلي وحياة جميلة شريفة، أمَّا عن موت المُتبتلين والرُهبان، فيقول أنَّ موتهم هو انتصارهم وهو الساعة التي يعظُم فيها فَرَحهم، إنه وقت سفرهم وظهور عَظَمَتهُم.
وعن تأثير الرُهبان والمُتبتلين يقول: ”لمَّا أسَّس الله بالمشورات الإنجيلية هذه الحياة كان في عزمه أن يجعلها كتيبة شَرَفه ومجد كنيسته وإكليل المسيحية، بيد أنه لم ينسانا نحن أيضًا بل أعطانا هذه الطغمات إنارة وسَنَدًا ومِثالًا“.
وفي عِظته التي يمدح فيها الشهيدة الأولى تكلة أبرز مفاهيم روحية ثمينة عن بتولية هذه القديسة مُعتبِرًا أنَّ بتوليتها صارت لها استشهادًا دائمًا بمُكافحتها للذة الجسد كما في مُكافحة الوحوش الضارية، وفي ثباتها أمام حرب الأفكار كما أمام العذابات، وفي انتصارها الباطني أمام ضرورات الطبيعة كما أمام النيران.
وامتدح فم الذَّهب الشهيدة تكلة التي قهرت طبيعتها وحافظت على طهارة بتوليتها وارتباطها بالعريس السمائي وحِيازتها إكليل البتولية، وفي معرض هذا الحديث يقول القديس يوحنَّا: ”إني لا أطعن في طبيعة الزواج لكن هناك اهتمام بالشئون الجسدية وعِناية بالشئون السمائية، هناك الشيء الحَسَنْ وهناك ما هو أحسن منه“ ويعتبِر أنَّ تكلة الشهيدة البتول قد سبقت فتذوقت الخيرات المُستقبلية مُقدمًا وشاركت في قداسة القيامة الأخيرة كما قال الرب ”إنهم في القيامة الأخيرة لا يُزوِجون ولا يتزوجون“ (مت 2: 30).. فيا لسعادة العروس المُرتبِطة دومًا بالبتولية، تلك التي ليس لها سرير عُرسي إلاَّ البتولية.
وأخيرًا في تعليمه عن المريمات علَّم بوضوح عن دوام بتولية القديسة مريم واعتبرها نموذجًا ومِثالًا للمُتبتلين، إذ يقول: ”نحن نجهل الكثير: كيف يوجد غير المحدود في رَحِمْ، كيف يُحمل ذاك الذي يحمِل كلّ شيء وتلِده امرأة، كيف تلِد البتول وتبقى بتولًا؟!“.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/zkrx2x6