تأسست الإمبراطورية الأشورية في نحو سنة ألفين قبل الميلاد، وبدأ أول احتكاك لها بمملكتي إسرائيل ويهوذا في عهد شلمنأسر الثاني، وهو غير شلمنأسر الرابع المذكور في (سفر ملوك الثاني 17، 18)، والذي جاء بعد شلمنأسر الثاني بنحو قرن من الزمان. وكان شلمنأسر الثاني -الذي حكم طويلًا- معاصرًا ليهوشافاط ويهورام وأخزيا ويهواش ملوك يهوذا، ولأخآب وأخزيا ويهورام وياهو ملوك إسرائيل، وكذلك لحزائيل وبنهدد الثاني ملوك أرام في دمشق، ولميشع ملك موآب. ومصادر تاريخه هي ما نقشه في أيامه على صخور أرمينية، والمسلة السوداء التي اكتشفها "لايارد" (Layard) في نمرود، والمحفوظة الآن في المتحف البريطاني، والنصوص المحفورة على الأبواب البرونزية في "بالاوات" والتي اكتشفها "هورموزد رسَّام" في 1878م، ورأى فيها الأبواب الدوارة في قصر شلمنأسر. ونعلم من كل هذه المصادر أنه واجه في السنة السادسة من ملكه، قوات دمشق وحماة وإسرائيل وغيرها، التي تحالفت معًا لمقاومة تقدمه غربًا، ولكنه استأصل هذه القوات تمامًا في موقعه "قرقر" (854 ق.م) وكان هذا الخطر الكاسح قد دفع سورية وإسرائيل إلى التحالف، وهو ما تؤيده القصة الكتابية عن عقد معاهدة بينهما، شجبها نبي الله (1مل 20: 34-43)، أقاموا بعدها ثلاث سنين بدون حرب بين أرام وإسرائيل (1مل 22: 1) ولكن يبدو أن الهزيمة النكراء التي أوقعها بهم شلمنأسر قد قضت على هذا التحالف، لأننا -بعد ذلك- نجد أخآب يتحالف مع يهوشافاط ملك يهوذا -في محاولة فاشلة- لاسترداد مدينة راموت جلعاد من أرام بعد أن أصابتهما الهزيمة، ولكن تلك المحاولة انتهت بقتل أخآب (1مل 22) وفي غزوة أخرى للغرب -لم يسجل الكتاب المقدس عنها شيئًا- أخذ شلمنأسر الجزية من صور وصيدون، ومن "ياهو ملك أرض عمري" - كما كان يطلق على إسرائيل في الآثار الأشورية.
ومع أنه لم يذكر بالاسم في الكتاب المقدس، إلا أننا نلمس وجوده ونفوذه في الأحداث المدونة في سفر الملوك الثاني، فقد كان هو الذي جعل أرام ترخي قبضتها عن إسرائيل في أيام يهوآحاز. فقد فضل شعب إسرائيل أن يخضعوا -اسميًا- لسيادة ملك بعيد في نينوى، عن الخضوع لملك قريب في دمشق يسومهم الاضطهاد. وكان "رمّون نيراري" هو المخلص الذي أعطاه الرب لإسرائيل "فخرجوا من تحت يد الأراميين" (2مل13: 5، 23).
بموت رمّون نيراري في 781 ق.م. ضعفت شوكة أشور وقتيًا، وفي نفس الوقت بلغت مملكة يهوذا في أيام عزيا الملك، ومملكة إسرائيل في أيام يربعام الثاني، أوج قوتهما. وفي 745ق.م. اغتصب "فول" عرش أشور وحكم باسم تغلث فلاسر الثالث، ويذكر باسمه "فول" في الكتاب المقدس (2مل15: 19؛ 1أخ5: 26)، ولكنه يُذكر باسمه الثاني "تغلث فلاسر الثالث" على الآثار الأشورية، وأصبح من المؤكد الآن لدى المؤرخين أن الاسمين لشخص واحد.
وكان تغلث فلاسر الثالث من أعظم الملوك في التاريخ، فكان أول من حاول تكوين إمبراطورية على النمط الذي عرفه العالم بقيام الإمبراطورية الرومانية، فلم يكتف بالحصول على الجزية من الملوك والولاة الذين هزمهم، بل أصبحت الأقطار التي غزاها، ولايات في إمبراطوريته عليها مرازبة (ولاة) أشوريون يجمعون الجزية للخزينة الإمبراطورية. ولم يلبث طويلًا بعد اعتلائه العرش، حتى وجه نظره نحو الغرب وبعد حصاره لأرفاد -إلى الشمال من حلب- اجتاحت جحافله سورية. وسار على النهج الأشوري في إجلاء الشعوب المغلوبة، وإحلال غيرهم محلهم. وليس من السهل الجزم بالسبب الذي جعل تغلث فلاسر يحجم عن التحرش بيهوذا. وفي غزوة تالية، وضع منحيم ملك إسرائيل وغيره من الملوك تحت الجزية وهو ما نجده مسجلًا بالتفصيل في سفر الملوك الثاني: "فجاء فول ملك أشور على الأرض فأعطى منحيم لفول ألف وزنة من الفضة لتكون يداه معه، ليثبت المملكة في يده. ووضع منحيم الفضة على إسرائيل على جميع جبابرة البأس ليدفع لملك أشور خمسين شاقل فضة عن كل رجل. فرجع ملك أشور ولم يقم في الأرض" (2مل15: 19، 20).
"وفى أيام فقح (بن رمليا) ملك إسرائيل جاء تغلث فلاسر (وهو نفسه فول) ملك أشور" واستولى على الأجزاء الشمالية من إسرائيل وسبى الشعب إلى أشور (2مل15: 29).
ونقرأ بعد ذلك كيف أن آحاز ملك يهوذا استنجد بالأشوريين لينصروه ضد "ذنبي هاتين الشعلتين المدخنتين" رصين ملك أرام وفقح بن رمليا (إش7: 4) ولكي يضمن معونة الأشوريين "أخذ آحاز الفضة والذهب الموجود في بيت الرب وفي خزائن بيت الملك وأرسلها إلى ملك أشور هدية" (2مل16: 8) وكان تغلث فلاسر في ذلك الوقت يُعد لحملة جديدة على الغرب، فاجتاح بقواته سورية والأراضي المتاخمة حتى وصل إلى غزة. وفي طريق عودته استولى على السامرة دون أن يدمرها إلى الأرض، وكان الشعب قد اغتال فقح، فأقام الملك الأشوري هوشع، قائد المؤامرة، ملكًا عوضًا عن فقح، تحب سيادة أشور.
مات تغلث فلاسر الثالث في 727 ق.م وخلفه شلمنأسر الرابع، الذي حكم مدة قصيرة ولم تصل إلينا حولياته، ولكننا نقرأ في (سفر الملوك الثاني 17، 18) أن هوشع ملك إسرائيل -اعتمادًا على ملك مصر- ظن أن موت تغلث فلاسر فرصة طيبة لإعلان الاستقلال، ولكنها كانت محاولة فاشلة إذ كانت مملكة إسرائيل قد أوشكت على النهاية. فقد كان الشعب قد استسلم للمظالم والشرور التي وبخهم عليها النبيان هوشع وعاموس فقد تنبأ هوشع بشكل خاص عن انحلال إسرائيل وسقوطها، قائلًا: "السامرة ملكها يبيد كغثاء على وجه الماء، وتُخرب شوامخ آون خطية إسرائيل. يطلع الشوك والحسك على مذابحهم ويقولون للجبال غطينا وللتلال اسقطي علينا" (هو 10: 7، 8؛ انظر أيضًا هو 10: 14، 15) ولم تكن نبوات إشعياء وميخا -عن المصير الذي ينتظر السامرة- بأقل صرامة: "ويل لإكليل فخر سكارى أفرايم، وللزهر الذابل جمال بهائه الذي على رأس وادي سمائن المضروبين بالخمر" (إش28: 1)، "كل هذا من أجل إثم يعقوب ومن أجل خطية بيت إسرائيل. ما هو ذنب يعقوب؟ أليس هو السامرة؟.. فأجعل السامرة خربة في البرية مغارس للكروم" (ميخا 1: 5، 6) ولم تأت للملك هوشع معونة من مصر، فوقف وحيدًا في مواجهة قوات عاتية، أسرته خارج السامرة، والأرجح أُنه أخذ أسيرًا إلى نينوى، واجتاحت الجيوش الغازية البلاد وعاثوا فيها فسادًا، كما سبق أن أعلن الأنبياء.
وبعد مقاومة عنيفة من المدافعين عن المدينة "زال الحصن من أفرايم" (إش 17: 3) فبعد أن حاصر الأشوريون السامرة ثلاث سنوات، سقطت في أيديهم (2مل17: 5) وقد يخيل إلينا -من رواية الكتاب المقدس- أنها سقطت في يد شلمنأسر، ولكننا نعلم من النقوش الأشورية، أنه قبل استسلام السامرة، كان شلمنأسر قد تنازل عن العرش أو مات، وجلس على عرش أشور سرجون، أحد عظماء ملوك أشور، ولكنه لم يذكر إلا مرة واحدة في الكتاب المقدس (إش 20: 1) ونعلم من النقوش الكثيرة التي خلفها سرجون، والتى اكتشفت في أطلال خورزباد، أنه هو - وليس شلمنأسر - الذي أكمل غزو المملكة المتمردة (إسرائيل) وأجلى سكانها إلى أشور فيقول سرجون في حولياته: "فى بداية حكمي استوليت على مدينة السامرة بمعونة "شماش" (إلهه) الذي ضمن لي النصر.. وأخذت 27,290 أسيرًا من سكانها، كما استوليت على خمسين مركبة ملكية منها.. لقد أعدت الاستيلاء على المدينة، وأسكنت فيها أناسًا من البلاد التي غزوتها بذراعي.. وعينت حاكمًا عليهم وفرضت عليهم الجزية والضرائب كما على الأشوريين". وهذه الحوليات يؤيدها ما جاء في الكتاب المقدس، كما يكمل أحدهما الآخر في هذه النقطة. ويصف المؤرخ الكتابي ما حدث بالقول: "فى السنة التاسعة لهوشع أخذ ملك أشور السامرة وسبى إسرائيل إلى أشور وأسكنهم في حلح وخابور نهر جوازان، وفي مدن مادي.. لأنهم لم يسمعوا لصوت الرب إلههم، بل تجاوزوا عهده وكل ما أمر به موسى عبد الرب فلم يسمعوا ولم يعملوا" (2مل17: 6، 7؛ 18: 11، 12).
كما يصف الكتاب المقدس كيف جاء ملك أشور بأقوام من شعوب أخرى وأسكنهم في مدن السامرة: وأتى ملك أشور بقوم من بابل وكوث وعّوا وحماة، وسفروايم، وأسكنهم في مدن السامرة عوضًا عن بني إسرائيل، فامتلكوا السامرة وسكنوا في مدنها (2مل17: 24) وتؤيد نقوش سرجون هذه الحقيقة، وهي أنه جاء بغرباء ممن سباهم في حروبه وأسكنهم في السامرة كما يتضح أن ذلك حدث على عدة دفعات. فقد رأينا أن تغلث فلاسر سبق أن أجلى الأسباط الشمالية إلى أشور وأقام عليهم حكامًا من قبله. ونعلم أنه بعد ذلك بزمن، جاء حفيده آسر حدون، ثم ابنه - أشور بانيبال (أسنفر العظيم الشريف) بأناس من الشعوب التي غزاها في الشرق، وأسكنهم في السامرة (عز4: 2، 10) وأمر ملك أشور أن يبعثوا إليهم في بيت إيل بواحد من الكهنة الذين سبق أن سباهم من السامرة، ليعلمهم "قضاء إله الأرض" وقد ذكر عنهم أنهم "كانوا يتقون الرب ويعبدون آلهتهم كعادة الأمم الذين سبوهم من بينهم" (2مل17: 33) والسامريون، الذين نقرأ عنهم في الأناجيل، هم نسل هذا الخليط من اليهود والأمم الذين أسكنهم ملوك أشور في مدن السامرة.
لا يجب أن يتطرق إلى أذهاننا أنه قد تم إجلاء كل سكان المملكة الشمالية (إسرائيل)، إذ لا شك في أنه حدث هنا مثلما حدث عند السبي البابلي، أن "رئيس الشرط أبقى من مساكين الأرض كرامين وفلاحين" (2مل25: 12) بل إن الذين تم إجلاؤهم لم يكونوا سوى قسم من الشعب. ولكن المملكة الشمالية -مملكة الأسباط العشرة- كانت قد انتهت وأصبحت مجرد ولاية أشورية، يحكمها وال من قبل ملك أشور. أما عن الجلاء - أي الأسرى الذين نقلوا إلى مدن مادي - فيجب ألا نظن أنهم قد امتصتهم الشعوب الذين استقروا بينهم، بل احتفظوا بتقاليدهم اليهودية وممارساتهم وتماسكهم، وأصبحوا جزءًا من شتات اليهود المنتشرين في كل بلاد الشرق. ومن المحتمل جدًا أنهم اندمجوا -فيما بعد- مع المسبيين من يهوذا، الذين سباهم نبوخذنصر ملك بابل، وهكذا أصبح أفرايم ويهوذا شعبًا واحدًا -كما لم يحدث من قبل- وأصبح اسم "اليهود" يطلق على الجميع سواء كانوا قبلًا من المملكة الشمالية (إسرائيل) أو من المملكة الجنوبية (يهوذا).
* انظر أيضًا: السبي، بنو السبي، السبي البابلي.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/65tr5w6