يُذْكَر موضوع الحصار كثيرًا في الكتاب المقدس (انظر تث 52:28، 53؛ 1مل 27:15؛ 2مل 2:25؛ إش 3:29؛ حز 2:4 الخ).
أولًا - الحصار في التاريخ العبري القديم:
لم تُذْكَر عمليات الحصار في التاريخ العبري القديم، ولعلها لم تكن معروفة لهم وقتئذ. وبالرغم من أن الإسرائيليين لا بُد قد اكتسبوا نوعًا من فنون الحرب في البرية، إلا أنهم عندما دخلوا أرض كنعان، لم تكن لديهم أي خبرة في عمليات الحصار كما لم تكن لديهم الأدوات اللازمة للحصار. ومدينة أريحا بأسوارها المنيعة، والتي كانت "مغلقة مقفلة بسبب بني إسرائيل، لا أحد يخرج ولا أحد يدخل" (يش 1:6)، قد سقطت في أيدي بني إسرائيل بدون حصار، كما سقطت المدن الأخرى بمعارك ضارية أو بالاقتحام دون حصار. كما أن بني إسرائيل لم يستطيعوا الاستيلاء على العديد من القلاع الكنعانية مثل جازر (2صم 25:5؛ يش 10:16)، وتعنك ومجدو (قض 27:1). واستولى بنو يهوذا على أورشليم (قض 8:1) إلا أن حصن يبوس لم يمكنهم الاستيلاء عليه إلا في عهد الملك داود (2صم 6:5).
ثانيًا: الحصار في عصر المملكة:
لكننا نقرأ في أيام المملكة عن عمليات الحصار، فعند حصار "ربة بني عمون" يبدو أن يوآب قد قطع عن المدينة مصدر المياه (2 صم 1:11؛ 27:12). أما عند حصار "آبل بيت معكة" فقد جاء يوآب ومن معه "وأقاموا مترسة حول المدينة فأقامت في الحصار" (2صم 15:20).
وقد بنى داود وسليمان ومن بعهدهما رحبعام ويربعام -بعد انقسام المملكة- الحصون التي سرعان ما أصبحت مسرحًا لعمليات الحصار. وكانت الحروب بين مملكتي يهوذا وإسرائيل في أيام ناداب وبعشا وأيلة في معظمها حروب حصار. وعند حصار "جبثون" التي للفلسطينيين، قام "بعشا" باغتيال "ناداب بن يربعام" (1مل 27:15). وبعد سبعة وعشرين عامًا، وبينما جيش إسرائيل يحاصر نفس المكان اختار الجنود "عمري" رئيس الجيش ملكًا على إسرائيل (1مل 16:16). وقد تعلمت جيوش المملكتين الشمالية والجنوبية، فنون الحرب هجومًا ودفاعًا من خلال احتكاكهم بالمصريين والأراميين والأشوريين والكلدانيين، سواء كحلفاء أو كأعداء.
ثالثًا: العمليات التمهيدية للحصار:
كانت الشريعة تأمر بأنه: "حين تقترب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح" (تث 10:20). ولكن "إن لم تسالمك بل عملت معك حربًا فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك، فاضرب جميع ذكورها بحد السيف. وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك" (تث 11:20 - 14)، والاستثناء الوحيد لهذا الأمر كان في حصار مدن الكنعانيين، إذ كان يجب إبادتهم تمامًا: "أما مدن هؤلاء الشعوب... فلا تستبق منها نسمة ما" (تث 16:20 - 18).
كما أمرت الشريعة بعدم إتلاف أي شجرة مثمرة بدون ضرورة لذلك في أثناء الحصار الطويل، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في صفحات قاموس وتفاسير الكتاب المقدس الأخرى. أما الأشجار التي لا تثمر ثمرًا نافعًا للإنسان، فكان يمكن قطعها: "إذا حاصرت مدينة أيامًا كثيرة محاربًا إياها لكي تأخذها فلا تتلف شجرها بوضع فأس عليه...وأما الشجر الذي تعرف أنه ليس شجرًا يؤكل منه، فإياه تتلف وتقطع وتبني حصنًا على المدينة التي تعمل معك حربًا حتى تسقط" (تث 19:20، 20). وحينما تحالف ملوك إسرائيل ويهوذا وأدوم لغزو موآب كان كلام الرب لهم على لسان أليشع: "فتضربون كل مدينة محصنة وكل مدينة مختارة، وتقطعون كل شجرة طيبة وتطمون جميع عيون الماء وتفسدون كل حقلة جيدة بالحجارة (2مل 19:3، 25). وعندما كان هجوم الكلدانيين على أورشليم وشيكًا، كان قول رب الجنود: "اقطعوا أشجارًا أقيموا حول أورشليم مترسة، هي المدينة المعاقبة" (إرميا 6:6). وفي حروب العرب كان تدمير الأشجار وقطع النخيل أمرًا مألوفًا، كما لم يكن الأشوريون يترددون في تخريب المزارع عند استيلائهم على أي مدينة.
رابعًا - عمليات الحصار: الهجوم:
أصبحت لدينا فكرة واضحة عن أعمال الحصار التي كان يقوم بها الأشوريون والكلدانيون لإحدى المدن توطئة للاستيلاء عليها، وذلك من خلال ما عرفناه عنهم من أسفار الأنبياء ومن الآثار القديمة. فحصار لخيش يظهر في سلسلة من النقوش على مجموعة من الآثار التي وجدت في "كيونجيك" [koyunjik - انظر (2مل 13:18، 14؛ إش 1:36، 2)]. كما أن سقوط نينوى كما هو مسجل في نبوة ناحوم، يصنف لنا عمليات الحصار وصفًا بالغ الروعة.
وتنبأ حزقيال عن أحداث ووقائع حصار نبوخذ راصر لمدينة صور: "لأنه هكذا قال السيد الرب هأنذا أجلب على صور نبوخذ راصر ملك بابل من الشمال، ملك الملوك، بخيل وبمركبات وبفرسان وجماعة وشعب كثير، فيقتل بناتك في الحقل بالسيف، ويبني عليك معاقل، ويبني عليك برجًا ويقيم عليك مترسة ويرفع عليك ترسًا، ويجعل مجانق على أسوارك، ويهدم أبراجك بأدوات حربه، ولكثرة خيله يغطيك غبارها. من صوت الفرسان والعجلات والمركبات تتزلزل أسوارك عند دخوله أبوابك كما تدخل مدينة مثغورة. بحوافر خيله يدوس كل شوارعك، يقتل شعبك بالسيف فتسقط إلى الأرض أنصاب عزك، وينبهون ثروتك، ويغنمون تجارتك، ويهدون أسوارك ويهدمون بيوتك البهيجة، ويضعون حجارتك وخشبك وترابك في وسط المياه. وأبطل قول أغانيك وصوت عودك لن يسمع بعد. وأصيرك كضح الصخر فتكونين مبسطًا للشباك" (حز 7:26-14).
وقد استمر حصار صور ثلاثة عشر عامًا حتى إن "كل رأس قرع وكل كتف تجردت" بسبب الخدمة الشاقة التي لاقتها الجيوش المحاصرة (حز 18:29).
وكانت هناك عدة طرق تضمن بها جيوش الغزاة الاستيلاء على المدن الحصينة، فكانت تعرض شروطًا للاستسلام (1مل 1:20 - 6؛ 2مل 14:18-16). كما كان جيش الحصار يلجأ إلى تجويع المدينة لتستسلم (2مل 24:6-26؛ 5:17-7)، وقد يطوق الغزاة المدينة ثم يقتحمونها كما فعل سنحاريب مع لخيش (2مل 13:18؛ 8:19).
وأهم العمليات التي كان يقوم بها الجيش المحاصر هي:
(1) يحيط جيش الغزاة بالمدينة ويحاصرها من كل جهة، وكان يلزم أحيانًا أن يقيم جيش الغزاة معسكرًا حصينًا لحراسة مداخل المدينة كما فعل سنحاريب مع لخيش. ونقرأ عن حصار أورشليم: "جاء نبوخذ راصر ملك بابل هو وكل جيشه على أورشليم ونزل عليها وبنوا عليها أبراجًا حولها" (2مل 1:25؛ إرميا 4:52)، ومنذ بدء الحصار أحاط بها الرماة بالمقاليع والنازعون في الأقواس لشغل المدافعين، وهو ما يشير إليه إرميا بالقول: "ادعوا إلى بابل أصحاب القسى. لينزل عليها كل من ينزع في القوس حواليها. لا يكن ناج" (إرميا 29:50).
(2) بعد ذلك تتم إقامة المتاريس وبناء الأبراج حول الأسوار، وكانت هذه الأبراج تستخدم لرمي القسى أو كقواعد لإطلاق القذائف (إرميا 4:52؛ حز 17:17).
(3) يلي ذلك إقامة مترسة أو رابية من التراب ترتفع إلى مستوى أسوار المدينة حتى يتحكم الغزاة في شوارع المدينة، ويلقوا الرعب في قلوب المحاصرين، ومن فوق المترسة، كان الغزاة يستطيعون أن يضربوا الجزء العلوي والضعيف من سور المدينة (2صم 15:20؛ إش 33:37؛ إرميا 6:6؛ حز 2:4؛ دانيال 15:11). وعندما تكون المدينة أو القلعة مقامة على ربوة أو تل، كان الغزاة ينشئون مستويًا مائلًا من حجارة أو من تراب أو أخشاب إلى مستوى ارتفاع التل، وكانوا يرصفون هذا الطريق بالطوب حتى يسهل سحب آلات الحرب الضخمة عليه إلى أسوار المدينة (أي 12:19؛ إش 3:29).
وفي حالة صور كان هذا الطريق عبارة عن سد أقيم على البوغاز الضيق للوصول إلى الأسوار (حز 8:26)، وفي غالبية الأحوال كانت تحفر الخنادق حول الأسوار، التي كانت تملأ عادة بالمياه. وكان يلزم عبور هذه الخنادق قبل الهجوم.
(4) وبعد إقامة المترسة وتأمين الطريق إلى الأسوار، كانت الخطوة التالية هي إقامة المجانق لفتح ثغرة في السور (حز 2:4) أو لتحطيم الأبواب (حز 22:21). وكانت المجانق من أنواع عديدة. ويظهر من الآثار الآشورية أن المجانق كانت تتصل بأبراج متحركة يقف فوقها المحاربون أو أعلى برج ثابت يقام في موقع المعركة، وعند بدء المعركة كان الرجال المتدربون يبدءون في تشغيل المجانق وقد ربطت إليها العوارض الخشبية الثقيلة التي كانت تثبت في أطرافها كتل ضخمة من المعدن أو الأحجار الصلدة، يقرعون بها باب المدينة مرارًا حتى تنفتح ثغرة يتدفق منها المهاجمون إلى داخل المدينة. ويشير ناحوم النبي إلى ذلك بالقول:"قد أقيمت مترسة" (ناحوم 5:2)، أما إشعياء فيقول:"هكذا يقول الرب عن ملك أشور: "لا يدخل هذه المدينة ولا يرمي هناك سهمًا ولا يتقدم عليها بترس ولا يقيم عليها مترسة" (إش 33:37). كما يذكر حزقيال نفس الشئ في وصفه لحصار نبوخذ نصر لصور: "ويبني عليك معاقل ويبني عليك برجًا ويقيم عليك مترسة ويرفع عليك ترسًا" (حز 8:26).
وتحت حماية تلك الأبراج المتحركة، كان الغزاة يتقدمون لحفر أنفاق تحت السور [(2صم 15:20) - وكان حفر الأنفاق شيئًا معروفًا في العصور القديمة كما يدل على ذلك نفق سلوام].
(5) أما ذروة العمليات فكانت توسيع الثغرات وهدم الأسوار، كما كانت تستخدم السلالم المتحركة لتخطي الخنادق أو جداول المياه (أم 22:21). وفي وصف يوئيل لجيش الجراد الذي أخرب الأرض، يقول: "يصعدون السور كرجال الحرب" (يؤ 7:2). كما كانوا يحاولون حرق الأبواب بالنار أو تحطيمها بالفؤوس (قض 52:9؛ انظر نح 3:1؛ 3:2؛ حز 9:26). ويذكر إرميا الثغرة التي أحدثها جيش نبوخذنصر في المدينة (إر 7:52؛ 2مل 4:25). كما يشير عاموس إلى الثغرات أو الشقوق التي حدثت في سور السامرة عندما فتحها الأشوريون: "ومن الشقوق تخرجن كل واحدة على وجهها وتندفعن إلى الحصن" (عاموس 3:4).
خامسًا: عمليات الحصار - الدفاع:
بينما كان المغيرون يستخدمون العديد من وسائل الهجوم، كان المدافعون أيضًا يستخدمون كل ما يمكنهم لعرقلة تقدم جيش المغيرين، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في صفحات قاموس وتفاسير الكتاب المقدس الأخرى. فكانوا يطمون الآبار والعيون التي كان يمكن أن يتزودوا منها بماء، أو يصرفون مياهها إلى داخل المدينة، أو يخفونها حتى لا يستخدمها الغزاة أو يفيدوا منها. كما كانوا يملأون الخنادق بالمياه لتعوق تقدم الغزاة لدخول المدينة. وإذا أمكن - رغم كل هذا - أن يصل الغزاة بأدوات حصارهم إلى السور الرئيسي للمدينة، كان أهل المدينة يبنون عادة تحصينات داخلية، لذلك كانوا يهدمون بعض المنازل لإفساح المجال لبناء هذه التحصينات، وكذلك لتمدهم بمواد البناء اللازمة: "وهدمتم البيوت لتحصين السور" (إش 10:22). كما كان الضاربون بالمقاليع يقذفون الحجار من فوق السور على العدو الزاحف، كما كان النازعون في القسى يرمون - من أماكنهم الحصينة فوق الأسوار - بالسهام على العدو في أبراجه المتحركة. كما كانت تشن الهجمات المضادة لإفساد معدات حصار العدو ولمنع نصب المجانق في مواقعها، كما كانت توضع أجولة القش لحماية المكان الذي كان ينتظر أن يتعرض للهجوم، وكان الرد على ذلك هو تزويد أطراف عوارض المجانق بمناجل مدببة لتمزيق تلك الأجولة.
كما كان يلجأ المدافعون إلى إسقاط سلسلة حديدية أو حبل متين على شكل أنشوطة من خلال الفتحات الموجودة بأعلى السور، ليصطادوا المنجنيق ويسحبوه إلى أعلى ليكسروا مقدمته، كما كانوا يحاولون إحراق المجانق بقذفها بكرات مشتعلة. وفي أحد النقوش البارزة عن حصار لخيش، يظهر أحد المدافعين وهو يرمي بشعلة من فوق السور. كما كان من المألوف أن يصب المدافعون الماء المغلي أو الزيت المغلي من فوق الأسوار على المغيرين. وقد طرحت "امرأة قطعة رحى على رأس أبيمالك فشجت جمجمته" (قض 53:9)، كما هيأ عزيا لكل الجيش "أتراسًا ورماحًا وخوذًا ودروعًا وقسيًا وحجارة ومقاليع، وعمل في أورشليم منجنيقات اختراع مخترعين لتكون على الأبراج وعلى الزوايا لتُرمي بها السهام والحجارة العظيمة (2أخ 26: 14، 15) وفي دفاع اليهود عن أورشليم ضد جيش تيطس، استعملوا آلات دفاعية أخذوها من الفرقة الثالثة عشر في بيت حورون، كان يصل مداها إلى ألف ومئتي قدم. وقد وصف يوسيفوس العديد من هذه الآلات الفعالة التي استخدمها هو نفسه في الدفاع عن قلعة "يوتاباتا" في الجليل ضد الإمبراطور فسباسيان وقوات روما.
سادسًا: رفع الحصار:
عندما ضرب ناحاش العموني ملك العمونيين الحصار حول يابيش جلعاد في بداية حكم الملك شاول، كانت شروط السلام التي قدمها ناحاش العموني لسكان يابيش جلعاد مجحفة وقاسية حتى إنهم طلبوا مهلة سبعة أيام، وأرسلوا إلى شاول من ضيقهم. وعندما سمع الملك الجديد بهذا الوضع الأليم، جمع جيشًا عظيمًا وضرب العمونيين وشتت جيشهم ورفع الحصار عن يابيش جلعاد، فكسب بذلك ولاء الشعب (1صم 1:11-15؛ 12:31، 13).
وفي السنة التاسعة للملك صدقيا ملك يهوذا "جاء نبوخذنصر ملك بابل هو وكل جيشه على أورشليم ونزل عليها وبنوا أبراجًا حولها ودخلت المدينة تحت الحصار إلى السنة الحادية عشرة" وأرسل صدقيا يستنجد بفرعون ملك مصر، فلما سمع الكلدانيون المحاصرون أورشليم بخبرهم صعدوا عن أورشليم"، إلا أن جيش فرعون رجع مسرعًا إلى أرض مصر دون الالتحام بالكلدانيين، فرجع الكلدانيون وحاصروا المدينة وفتحوها وأحرقوها بالنار (2مل 1:25-21؛ إرميا 3:37-10؛ حز 17:17).
سابعًا: أهوال الحصار والأسر:
يرتبط الحصار - في أسفار التوراة - بالقحط والوبأ والسبي، عقابًا من الرب لشعبه على عصيانهم (تث 49:28-57)، وقد اختبروا هذه الأهوال مرارًا عديدة، فعند حصار بنهدد الثاني للسامرة حدث جوع شديد في السامرة حتى اضطر البعض إلى أكل أولادهم (2مل 28:6). وفي حصار الكلدانيين لأورشليم الذي انتهى بحرق المدينة بالنار وتدمير الهيكل، عانى الشعب معاناة لا توصف من الجوع والأوبئة (2مل 3:25؛ إرميا 24:32؛ مراثي 20:2؛ 8:4-10). وقد وصلت أهوال الحصار إلى ذروتها في وصف يوسيفوس لمأساة "ماسادا" فللهروب من أسر الرومان، أختير عشرة رجال بالقرعة من بين قاطني القلعة البالغ عددهم 960 شخصًا من المحاربين وغير المحاربين رجالًا ونساءً وأطفالًا، ليقوموا بذبح الباقيين. ثم من هؤلاء العشرة أُختير رجل واحد لقتل التسعة الباقيين وبعد أن أتم عمله الشنيع، طعن نفسه بالسيف. وبينما كان سكان المدينة يعانون من الجوع والعطش لنقص الخبز والماء، كان المقاتلون - الذين يقعون في الأسر - يتعرضون للقتل بالخازوق وسائر وسائل التعذيب التي كان يتعرض لها الأسرى في الحروب الأشورية والكلدانية والرومانية.
ولم يكن يفوق تلك الأهوال المرتبطة بالحصار، إلا الأعمال البربرية التي كان المغيرون يقومون بها عند الاستيلاء على المدينة. ويشبه إرميا النبي إخلاء المدينة بعد فتحها "برمي حجر من مقلاع" (إرميا 17:10، 18) وكان يتبع ذلك غالبًا تهجير السكان من المدينة كما حدث عقب الاستيلاء على السامرة حيث "أخذ ملك أشور السامرة وسبي إسرائيل إلى أشور وأسكنهم في حلح وخابور نهر جوزان وفي مدن مادي" (2مل 6:17؛ انظر أيضًا 2مل 14:24). ولم يقتصر السبي على السكان بل كان يمتد إلى آلهتهم، فتسبى معهم أو تحطم أصنامهم، وهو ما حدث لبابل نفسها (إش 9:21؛ 1:46؛ إرميا 2:50)، ولمصر (إرميا 12:43، 13) وللسامرة (هو 5:10-7)، كما كانت تحدث عقب دخول المغيرين إلى المدينة مذابح بشعة لا تميز بين الناس فتمتد للكبير والصغير وللنساء والأطفال، كما كانوا يحرقون المدينة بالنار (إرميا 8:39، 9؛ مراثي 18:4). وسجل شلمنأسر الثاني في أحد نقوشه: "لقد حطمت ودمرت مدنًا بلا عدد، دككتها وأحرقتها بالنيران". وعندما تؤخذ المدينة "تنهب البيوت وتفضح النساء" (زك 2:14). ويقول هيرودوت إنه عندما استولى داريوس على بابل قتل بالخازوق ثلاثة آلاف من الأسرى. أما السكيثيون فكانوا يسلخون جلود أسراهم وينزعون فروة رؤوسهم، ويستخدمونها سروجًا للخيل.
وتبين النقوش الأشورية أسرى يتعرضون لأنواع من التعذيب الفظيع، أو يباعون عبيدًا. وعندما استولى نبوخذنصر ملك بابل على أورشليم قتل رجاله أبناء صدقيا (الملك) أمام عينيه، وقلعوا عيني صدقيا وقيدوه بسلستين من نحاس وجاءوا به إلى بابل (2مل 7:25).
وكان إشعياء يصف ما كان يفعله الأشوريون في حروبهم عندما وجه كلام الرب إلى سنحاريب قائلا: "أضع خزامتي في أنفك وشكيمتي في شفتيك وأردك في الطريق الذي جئت فيه" (إش 29:37)، فهذا ما كان يفعله الأشوريون بالأعداء. ويتحدث هوشع بروح النبوة عن الأعمال البربرية التي سيقوم بها الأشوريون عند غزوهم للسامرة، فيقول "تجازى السامرة لانها تمردت على إلهها. بالسيف يسقطون، تحطم أطفالهم والحوامل تشق" (هو 14:10؛ 16:13؛ انظر عاموس 13:1). كما أن ناحوم النبي في نبوته عن هلاك نينوى، يذكر كيف أن نوآمون (طيبة في صعيد مصر) عندما استولى عليها الفاتح الأشوري أشور بانيبال: "قد مضت إلى المنفى بالسبي، وأطفالها حطمت في رأس جميع الأزقة وعلى أشرافها ألقوا قرعة، وجميع عظمائها تقيدوا بالقيود" (ناحوم 10:3).
ثامنًا - الحصار في العهد الجديد:
(1) الإشارة الوحيدة في العهد الجديد إلى عمليات الحصار، جاءت في حديث الرب يسوع المسيح عن الدمار الذي سيحيق بأورشليم، عندما بكى على مصيرها المحتوم قائلًا: "فإنه ستأتي أيام يحيط بك أعداؤك بمترسة ويحاصرونك من كل جهة، ويهدمونك وبنيك فيك، ولا يتركون فيك حجرًا على حجر" (لو 43:19، 44).
ويتفق ترتيب ونظام عمليات الحصار هنا مع ما جاء عن عمليات الحصار في العهد القديم. ونرى في تاريخ يوسيفوس عن هذه الفترة، كيف تمت هذه النبوة بحذافيرها.
(2) الحصار مجازًا: ترد في رسائل الرسول بولس بعض صور مجازية مأخوذة عن عمليات الحصار، مثل: "إذ أسلحة محاربتنا ليست جسدية بل قادرة بالله على هدم حصون" (2كو 4:10). كما يشير إلى بعض عمليات الحصار في قوله: "حاملين فوق الكل ترس الإيمان الذي به تقدرون أن تطفئوا جميع سهام الشرير الملتهبة" (أف 16:6)، في إشارة إلى السهام الملتهبة التي كان يقذفها المحاصرون على القلاع التي يهاجمونها.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/6rp234v