محتويات: |
(إظهار/إخفاء) |
* تأملات في كتاب
عدد: الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح |
← اذهب مباشرةً لتفسير الآية: 1 - 2 - 3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16 - 17 - 18 - 19 - 20 - 21 - 22 - 23 - 24 - 25 - 26 - 27 - 28 - 29 - 30 - 31 - 32 - 33 - 34 - 35 - 36 - 37 - 38 - 39 - 40 - 41 - 42 - 43 - 44 - 45 - 46 - 47 - 48 - 49 - 50
لم يقف الأمر عند تذمر الشعب نفسه بل تسرَّب إلى بعض اللاويّين والرؤساء الذين أرادوا اغتصاب الكهنوت متهمين موسى وهرون بالكبرياء على الشعب وتمييزهما لأنفسهما عن بقية الجماعة.
1 -3. |
|||
4 -14. |
|||
15 -19. |
|||
20 -35. |
|||
36 -40. |
|||
41 -50. |
1 وَأَخَذَ قُورَحُ بْنُ يِصْهَارَ بْنِ قَهَاتَ بْنِ لاَوِي، وَدَاثَانُ وَأَبِيرَامُ ابْنَا أَلِيآبَ، وَأُونُ بْنُ فَالَتَ، بَنُو رَأُوبَيْنَ، 2 يُقَاوِمُونَ مُوسَى مَعَ أُنَاسٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، مِئَتَيْنِ وَخَمْسِينَ رُؤَسَاءِ الْجَمَاعَةِ مَدْعُوِّينَ لِلاجْتِمَاعِ ذَوِي اسْمٍ. 3 فَاجْتَمَعُوا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ وَقَالُوا لَهُمَا: «كَفَاكُمَا! إِنَّ كُلَّ الْجَمَاعَةِ بِأَسْرِهَا مُقَدَّسَةٌ وَفِي وَسَطِهَا الرَّبُّ. فَمَا بَالُكُمَا تَرْتَفِعَانِ عَلَى جَمَاعَةِ الرَّبِّ؟».
أراد قورح وداثان وأبيرام اغتصاب الكهنوت ومعهم 250 من رؤساء الجماعة ذوي اسم، قائلين: "إِنَّ كُلَّ الْجَمَاعَةِ.. مُقَدَّسَةٌ وَفِي وَسَطِهَا الرَّبُّ، فَمَا بَالُكُمَا تَرْتَفِعَانِ عَلَى جَمَاعَةِ الرَّبِّ؟" [3]. لقد رأوا في تسلم موسى النبوة وهرون رئاسة الكهنوت تمييزًا لهما عن الجماعة المقدَّسة، فأرادوا أن يكون الكهنوت مشاعًا لا يقف عند سبط دون آخر أو إنسان دون غيره.
إن كان عامة الشعب غالبًا ما يُضرب بروح التذمر بسبب الأكل والشرب وشهوات الجسد، فإن أصحاب الاسم والعظماء يحاربون بضربة أقسى وأمَرّ ألا وهي "الكبرياء". فقورح وهو من بني قهات الذين ميَّزهم الرب بحمل المقدَّسات الإلهيّة الثمينة روحيًا دفع به الكبرياء لاغتصاب الكهنوت ليس خدمة للآخرين بل عطشًا إلى الكرامة، إذ قال لموسى وهرون: [لماذا تَرْتَفِعَانِ عَلَى جَمَاعَةِ الرَّبِّ؟]، وكأن نظرته إلى الرتب الكنسية ليست نظرة خدمة وأبوة بل تسلط وكرامة!
استطاع قورح أن يثير داثان وأبيرام ومائتين وخمسين من رؤساء الشعب ذوي اسم، بل وأثار الجماعة كلها ضد موسى وهرون. للأسف أن المبتدعين والمنشقين على الكنيسة غالبًا ما يكونوا ذوي اسم ومواهب تنحرف بهم للهدم عِوَض البنيان، والانشقاق عِوَض الوحدة.
كانت نهاية قورح المتكبر وأيضًا داثان وأبيرام انشقاق الأرض وابتلاعهم أحياء، أي سقطوا إلى الهاوية. لهذا يُعلِّق القديس إغريغوريوس أسقف نيصص قائلًا:
[يعلِّمنا الكتاب المقدَّس -كما أظن- إنه إذ يرفع الإنسان نفسه بعجرفة ينتهي بسقوطه أسفل الأرض! لهذا فليس بدون سبب تُعرَّف الكبرياء أنها صعود إلى أسفل(108)].
[إن كان الذين يرفعون أنفسهم فوق الآخرين بطريقة ما ينحطون إلى أسفل، إذ فتحت الأرض هوتها لتبتلعهم، فإنه ليس لأحد أن يناقش تعريف الكبرياء أنه سقوط دنيء(109)].
[إن نظرت إنسانًا يظهر نفسه طاهرًا يعلو فوق ألم الملذات، وبحماس عظيم يحسب في نفسه أفضل من غيره، متعطشًا نحو الكهنوت، فتحقق أن الذي تراه إنسان ساقط إلى الأرض بكبريائه المتشامخ(110)].
ويُعلِّق القدِّيس إكليمندس الروماني على موقف هؤلاء الرجال هكذا: [ألقى الحسد داثان وأبيرام حيين في الجحيم لأنهما أشعلا ثورة ضد موسى خادم الله(111)]. [من الأفضل أن يعترف الإنسان بخطاياه بدلًا من أن يقسو قلبه كما قست قلوب الذين ثاروا ضد موسى خادم الله فكان عقابهم علانية، إذ نزلوا أحياء في الجحيم وابتلعهم الموت(112)].
4 فَلَمَّا سَمِعَ مُوسَى سَقَطَ عَلَى وَجْهِهِ. 5 ثُمَّ كَلَّمَ قُورَحَ وَجَمِيعَ قَوْمِهِ قَائِلًا: «غَدًا يُعْلِنُ الرَّبُّ مَنْ هُوَ لَهُ، وَمَنِ الْمُقَدَّسُ حَتَّى يُقَرِّبَهُ إِلَيْهِ. فَالَّذِي يَخْتَارُهُ يُقَرِّبُهُ إِلَيْهِ. 6 اِفْعَلُوا هذَا: خُذُوا لَكُمْ مَجَامِرَ. قُورَحُ وَكُلُّ جَمَاعَتِهِ. 7 وَاجْعَلُوا فِيهَا نَارًا، وَضَعُوا عَلَيْهَا بَخُورًا أَمَامَ الرَّبِّ غَدًا. فَالرَّجُلُ الَّذِي يَخْتَارُهُ الرَّبُّ هُوَ الْمُقَدَّسُ. كَفَاكُمْ يَا بَنِي لاَوِي!». 8 وَقَالَ مُوسَى لِقُورَحَ: «اسْمَعُوا يَا بَنِي لاَوِي. 9 أَقَلِيلٌ عَلَيْكُمْ أَنَّ إِلهَ إِسْرَائِيلَ أَفْرَزَكُمْ مِنْ جَمَاعَةِ إِسْرَائِيلَ لِيُقَرِّبَكُمْ إِلَيْهِ لِكَيْ تَعْمَلُوا خِدْمَةَ مَسْكَنِ الرَّبِّ، وَتَقِفُوا قُدَّامَ الْجَمَاعَةِ لِخِدْمَتِهَا؟ 10 فَقَرَّبَكَ وَجَمِيعَ إِخْوَتِكَ بَنِي لاَوِي مَعَكَ، وَتَطْلُبُونَ أَيْضًا كَهَنُوتًا! 11 إِذَنْ أَنْتَ وَكُلُّ جَمَاعَتِكَ مُتَّفِقُونَ عَلَى الرَّبِّ. وَأَمَّا هَارُونُ فَمَا هُوَ حَتَّى تَتَذَمَّرُوا عَلَيْهِ؟» 12 فَأَرْسَلَ مُوسَى لِيَدْعُوَ دَاثَانَ وَأَبِيرَامَ ابْنَيْ أَلِيآبَ. فَقَالاَ: «لاَ نَصْعَدُ! 13 أَقَلِيلٌ أَنَّكَ أَصْعَدْتَنَا مِنْ أَرْضٍ تَفِيضُ لَبَنًا وَعَسَلًا لِتُمِيتَنَا فِي الْبَرِّيَّةِ حَتَّى تَتَرَأَسَ عَلَيْنَا تَرَؤُسًا؟ 14 كَذلِكَ لَمْ تَأْتِ بِنَا إِلَى أَرْضٍ تَفِيضُ لَبَنًا وَعَسَلًا، وَلاَ أَعْطَيْتَنَا نَصِيبَ حُقُول وَكُرُومٍ. هَلْ تَقْلَعُ أَعْيُنَ هؤُلاَءِ الْقَوْمِ؟ لاَ نَصْعَدُ!».
"فلما سمع موسى سقط على وجهه" [2]. إذ تسلم رسالته من الله لا يقدر أن يتصرف إلاَّ بالرجوع إليه في اتضاع وانسحاق. بينما يرتفع قلب قورح وجماعته بالكبرياء يتضع موسى جدًا، وكأن الاتضاع يفرز الخادم الحقيقي من المزيف.
سلَّم موسى الأمر في يدي الله طالبًا منهم -حسب شهوة قلوبهم- أن يقدموا بخورًا بعد أن حذَّرهم من اغتصاب العمل الكهنوتي (ع 10). تقدَّم قورح في كبرياء قلبه مع المئتين والخمسين رئيسًا يقدمون البخور، أما داثان وأبيرام فلم يقبلا أن يأتيا لمقابلة موسى متهمين إياه أنه يترأس على الشعب وقد جاء بهم إلى البريّة ليميتهم، ولم يأتِ بهم إلى الأرض التي تفيض لبنًا وعسلًا.
15 فَاغْتَاظَ مُوسَى جِدًّا وَقَالَ لِلرَّبِّ: «لاَ تَلْتَفِتْ إِلَى تَقْدِمَتِهِمَا. حِمَارًا وَاحِدًا لَمْ آخُذْ مِنْهُمْ، وَلاَ أَسَأْتُ إِلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ». 16 وَقَالَ مُوسَى لِقُورَحَ: «كُنْ أَنْتَ وَكُلُّ جَمَاعَتِكَ أَمَامَ الرَّبِّ، أَنْتَ وَهُمْ وَهَارُونُ غَدًا، 17 وَخُذُوا كُلُّ وَاحِدٍ مِجْمَرَتَهُ، وَاجْعَلُوا فِيهَا بَخُورًا، وَقَدِّمُوا أَمَامَ الرَّبِّ كُلُّ وَاحِدٍ مِجْمَرَتَهُ. مِئَتَيْنِ وَخَمْسِينَ مِجْمَرَةً. وَأَنْتَ وَهَارُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِجْمَرَتَهُ». 18 فَأَخَذُوا كُلُّ وَاحِدٍ مِجْمَرَتَهُ وَجَعَلُوا فِيهَا نَارًا وَوَضَعُوا عَلَيْهَا بَخُورًا، وَوَقَفُوا لَدَى بَابِ خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ مَعَ مُوسَى وَهَارُونَ. 19 وَجَمَعَ عَلَيْهِمَا قُورَحُ كُلَّ الْجَمَاعَةِ إِلَى بَابِ خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ، فَتَرَاءَى مَجْدُ الرَّبِّ لِكُلِّ الْجَمَاعَةِ.
موسى النبي الحليم جدًا "اغْتَاظَ.. جِدًّا، وَقَالَ لِلرَّبِّ: لاَ تَلْتَفِتْ إِلَى تَقْدِمَتِهِمَا. حِمَارًا وَاحِدًا لَمْ آخُذْ مِنْهُمْ، وَلاَ أَسَأْتُ إِلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ" [15]. لم يكن موسى مدافعًا عن نفسه، بل كان غيورًا على كهنوت الرب المغتصب وعلى شعب الله الذي يتعرض للتذمر بسبب كلامهم.
20 وَكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى وَهَارُونَ قَائِلًا: 21 «افْتَرِزَا مِنْ بَيْنِ هذِهِ الْجَمَاعَةِ فَإِنِّي أُفْنِيهِمْ فِي لَحْظَةٍ». 22 فَخَرَّا عَلَى وَجْهَيْهِمَا وَقَالاَ: «اللّهُمَّ، إِلهَ أَرْوَاحِ جَمِيعِ الْبَشَرِ، هَلْ يُخْطِئُ رَجُلٌ وَاحِدٌ فَتَسْخَطَ عَلَى كُلِّ الْجَمَاعَةِ؟» 23 فَكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى قَائِلًا: 24 «كَلِّمِ الْجَمَاعَةَ قَائِلًا: اطْلَعُوا مِنْ حَوَالَيْ مَسْكَنِ قُورَحَ وَدَاثَانَ وَأَبِيرَامَ». 25 فَقَامَ مُوسَى وَذَهَبَ إِلَى دَاثَانَ وَأَبِيرَامَ، وَذَهَبَ وَرَاءَهُ شُيُوخُ إِسْرَائِيلَ. 26 فَكَلَّمَ الْجَمَاعَةَ قَائِلًا: «اعْتَزِلُوا عَنْ خِيَامِ هؤُلاَءِ الْقَوْمِ الْبُغَاةِ، وَلاَ تَمَسُّوا شَيْئًا مِمَّا لَهُمْ لِئَلاَّ تَهْلِكُوا بِجَمِيعِ خَطَايَاهُمْ». 27 فَطَلَعُوا مِنْ حَوَالَيْ مَسْكَنِ قُورَحَ وَدَاثَانَ وَأَبِيرَامَ، وَخَرَجَ دَاثَانُ وَأَبِيرَامُ وَوَقَفَا فِي بَابِ خَيْمَتَيْهِمَا مَعَ نِسَائِهِمَا وَبَنِيهِمَا وَأَطْفَالِهِمَا. 28 فَقَالَ مُوسَى: «بِهذَا تَعْلَمُونَ أَنَّ الرَّبَّ قَدْ أَرْسَلَنِي لأَعْمَلَ كُلَّ هذِهِ الأَعْمَالِ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ نَفْسِي. 29 إِنْ مَاتَ هؤُلاَءِ كَمَوْتِ كُلِّ إِنْسَانٍ، وَأَصَابَتْهُمْ مَصِيبَةُ كُلِّ إِنْسَانٍ، فَلَيْسَ الرَّبُّ قَدْ أَرْسَلَنِي. 30 وَلكِنْ إِنِ ابْتَدَعَ الرَّبُّ بِدْعَةً وَفَتَحَتِ الأَرْضُ فَاهَا وَابْتَلَعَتْهُمْ وَكُلَّ مَا لَهُمْ، فَهَبَطُوا أَحْيَاءً إِلَى الْهَاوِيَةِ، تَعْلَمُونَ أَنَّ هؤُلاَءِ الْقَوْمَ قَدِ ازْدَرَوْا بِالرَّبِّ». 31 فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ التَّكَلُّمِ بِكُلِّ هذَا الْكَلاَمِ، انْشَقَّتِ الأَرْضُ الَّتِي تَحْتَهُمْ، 32 وَفَتَحَتِ الأَرْضُ فَاهَا وَابْتَلَعَتْهُمْ وَبُيُوتَهُمْ وَكُلَّ مَنْ كَانَ لِقُورَحَ مَعَ كُلِّ الأَمْوَالِ، 33 فَنَزَلُوا هُمْ وَكُلُّ مَا كَانَ لَهُمْ أَحْيَاءً إِلَى الْهَاوِيَةِ، وَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِمِ الأَرْضُ، فَبَادُوا مِنْ بَيْنِ الْجَمَاعَةِ. 34 وَكُلُّ إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ حَوْلَهُمْ هَرَبُوا مِنْ صَوْتِهِمْ، لأَنَّهُمْ قَالُوا: «لَعَلَّ الأَرْضَ تَبْتَلِعُنَا». 35 وَخَرَجَتْ نَارٌ مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ وَأَكَلَتِ الْمِئَتَيْنِ وَالْخَمْسِينَ رَجُلًا الَّذِينَ قَرَّبُوا الْبَخُورَ.
اعتزلت الجماعة مسكن قورح وداثان وأبيرام، حيث انفتحت الأرض وابتلعت الرجال وكل ما لهم من نساء وأطفال، فهبطوا إلى الهاوية أحياء، أما المائتان وخمسون رئيسًا فخرجت نار من عند الرب وأكلتهم.
ليس شيء يحزن قلب الله مثل اغتصاب العمل الكهنوتي وإثارة انشقاق وسط الكنيسة، لهذا كان تأديب قورح وجماعته أقسى أنواع التأديبات، إذ انشقت الأرض لتبتلعهم، وكأنهم قد صاروا من جملة الشياطين التي تهبط تحت الأرض! يقول القديس إيرينيئوس: [حقًا يجلب الهراطقة نارًا غريبة إلى مذبح الله، أي يجلبون تعاليم غريبة، لهذا يحترقون بنار من السماء كما حدث مع ناداب وأبيهو (لا 10: 1-2). أما الذي يقف ضد الحق، ويثير الآخرين ضد كنيسة الله، ويدخل مع الذين في الجحيم، إذ يبتلعه زلزال كما حدث مع قورح وداثان وأبيرام. أما الذين يشقون الكنيسة ويمزقون وحدتها فيتقبلون ذات العقوبة التي سقط فيها يربعام(113) (1 مل 14: 10)].
وللقديس كبريانوس تعليق على هذا الأمر وهو يتحدَّث عن الهراطقة ومسببي الانشقاق إذ يقول: [لقد عرف قورح وداثان وأبيرام الله ذاته الذي عرفه هرون الكاهن وموسى، وعاشوا تحت نفس الناموس الذي لهما وذات الإيمان، وكانوا يتضرعون لله الواحد الحقيقي ويسألونه متعبدين له، ومع هذا إذ تعدوا خدمة وظيفتهم ضد هرون الكاهن الذي قَبِل الكهنوت الحقيقي... وادعوا لأنفسهم سلطان تقديم الذبيحة ضُربوا ضربة إلهيّة وسقطوا في الحال تحت العقاب بسبب تصرفاتهم غير اللائقة وتقديمهم ذبائح مملوءة تجديفًا غير قانونيّة ضد الحق الإلهي، ولم تستطع الأمور الأولى أن تعفيهم من العقاب أو تفيدهم(114)].
ويرى القديس كبريانوس أن عنف التأديب وقسوته كان لأجل تعليم الآتين من بعدهم(115). هكذا يستخدم الله الشدة في بدء كل كسر لوصيّة معينة ليعلن مرارة كسرها ويحذِّر الأجيال القادمة بطريقة ماديّة ملموسة.
وللقديس كبريانوس أيضًا تعليق على هذا الأمر إذ يُحذِّرنا من خطيّة التذمر قائلًا: [يليق بنا أيها الإخوة الأحباء ألاَّ نتذمر، بل نحتمل بصبر وشجاعة كل ما يحدث، فقد كتب [الذبيحة لله روح منسحق؛ القلب المنكسر والمتواضع لا يرذله الله] (مز 51: 17)، وجاء في سفر التثنية: "لأن الرب إلهكم يمتحنكم لكي يعلم هل تحبون الرب إلهكم من كل قلوبكم ومن كل أنفسكم(116)" (تث 13: 3)...].
أما المائتان وخمسون رئيسًا فإذ أحرقوا بخورًا بغير استحقاق نزلت نار من عند الرب وأكلتهم.
لماذا أمر الرب أن تعتزلهم الجماعة؟ يجيب القديس كبريانوس قائلًا: [أمر الرب موسى أن ينفصل الشعب عنهم لئلا بخلطتهم بالأشرار يسقطون معهم في الشر(117)].
ولماذا ابتلعت الأرض الرجال الأشرار ونساءهم وأولادهم وأطفالهم؟ إنه يمثل اقتلاع كل جذور الخطيئة العاملة في النفس (الرجال) والجسد (النساء) وطاقات الإنسان ومواهبه (الأطفال) فالخطيئة إذ تفسد النفس والجسد وطاقات الإنسان ومشاعره وعواطفه... الخ، يخسر الإنسان كل شيء!
لاحظ القدِّيسان ﭽيروم وأغسطينوس أن قورح يعني "جلجثة calvary" لهذا وإن كان قورح قد مات بخطيته مع زوجته وأولاده، لكن كان له أحفاد مباركين هم أبناء العريس المصلوب على الجلجثة، صاروا فرقة للتسبيح للرب، جاءت مزاميرهم كلها مملوءة فرحًا. يقول القديس أغسطينوس: [أولاد قورح هم أولاد العريس المصلوب في موضع الجلجثة(118)]، ويقول القدِّيس ﭽيروم: [أي مزمور يرد فيه ذكر أبناء قورح في عنوانه يكون مزمورًا مفرحًا، ليس فيه شيء من الحزن. فإن كان الرب قد عاقب قورح وداثان وأبيرام بسبب مقاومتهم موسى، لكن لكن أبناء قورح إذ لم يقاوموا مثل أبيهم تباركوا بالفرح الأبدي(119)].
36 ثُمَّ كَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى قَائِلًا: 37 «قُلْ لأَلِعَازَارَ بْنِ هَارُونَ الْكَاهِنِ أَنْ يَرْفَعَ الْمَجَامِرَ مِنَ الْحَرِيقِ، وَاذْرِ النَّارَ هُنَاكَ فَإِنَّهُنَّ قَدْ تَقَدَّسْنَ. 38 مَجَامِرَ هؤُلاَءِ الْمُخْطِئِينَ ضِدَّ نُفُوسِهِمْ، فَلْيَعْمَلُوهَا صَفَائِحَ مَطْرُوقَةً غِشَاءً لِلْمَذْبَحِ، لأَنَّهُمْ قَدْ قَدَّمُوهَا أَمَامَ الرَّبِّ فَتَقَدَّسَتْ. فَتَكُونُ عَلاَمَةً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ». 39 فَأَخَذَ أَلِعَازَارُ الْكَاهِنُ مَجَامِرَ النُّحَاسِ الَّتِي قَدَّمَهَا الْمُحْتَرِقُونَ، وَطَرَقُوهَا غِشَاءً لِلْمَذْبَحِ، 40 تَذْكَارًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، لِكَيْ لاَ يَقْتَرِبَ رَجُلٌ أَجْنَبِيٌّ لَيْسَ مِنْ نَسْلِ هَارُونَ لِيُبَخِّرَ بَخُورًا أَمَامَ الرَّبِّ، فَيَكُونَ مِثْلَ قُورَحَ وَجَمَاعَتِهِ، كَمَا كَلَّمَهُ الرَّبُّ عَنْ يَدِ مُوسَى.
إن كان الله قد أدَّب الكهنة المزيفين، أو مغتصبي الكهنوت، لكنه يرى في المجامر التي استُخدِمت لتقديم بخور باسمه القدوس قد تقدَّست. لهذا طلب من موسى النبي أن تُطرق هذه المجامر النحاسيّة ويُغشى بها المذبح النحاسي.
لماذا أمر الرب بذلك؟ يُجيب العلامة أوريجينوس بأن المجامر تشير إلى الكتاب المقدَّس الذي يسيء الهراطقة والمنشقون استخدامه، فيقدمون بخورًا مرذولًا. كأن العيب ليس في المجامر أو البخور وإنما فيمن يستخدمه. أما كونها من النحاس وليس من الذهب أو الفضة (مز 12: 6)، ذلك لأنها تقدم صدى الكلمات بغير قوة الروح، كقول الرسول بولس: "صرت نحاسًا يطن أو صنجًا يرن" (1 كو 13: 1). (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والتفاسير الأخرى). إذ تُطرق المجامر ويُغشى بها المذبح يظهر بالأكثر لمعان المذبح وبهاؤه، ويعلن العمل الشرير، ينكشف الحق من الباطل، الإيمان السليم من الهرطقات. [من كان يدرك أن النور حسن ما لم يختبر ظلمة الليل؟ ومن الذي يُقدِّر حلاوة العسل ما لم يذق شيئًا مُرًا...؟ هكذا لا يمكن مجد الكهنة المخلصين أن يتلألأ إلاَّ بظهور عقاب الأردياء. كما قرأنا كل بار يبدو في أكبر عظمة أمام الله بمقارنته بغيره، فقد كُتب عن نوح أنه كان بارًا كاملًا في أجياله (تك 6: 9). بهذا يظهر أنه لا يوجد إنسان كامل بطريقة مطلقة، إنما يحسب بارًا "في أجياله". يعلن أنه بار بمقارنته مع الآخرين. في رأيي بالنسبة للوط، كلما عظم فساد سدوم من يوم إلى يوم كان برّ لوط يتعظم. وفي السفر الذي بين أيدينا في دعوة الجواسيس للأرض الموعود بها عندما دفع العشرة الشعب إلى اليأس... بينما أعلن الاثنان الآخران -كالب ويشوع- الأخبار الحسنة وشجعا الشعب (عد 14: 6) على الاستمرار بعزيمة قويّة نالا مكافأة لا تفنى من قِبَل الرب... ما كان لقوة روحيهما أن تلألأ بهذه العظمة لو لم يظهر جبن العشرة الآخرين المملوءة خزيًا. أقول هذا كله من أجل مجامر المذنبين، فإنه يجب أن توضع على المذبح لكي يظهر مجد الأبرار أكثر ارتفاعًا بالمقارنة بانحطاط هؤلاء. بهذا تصير المجامر مثالًا للأجيال القادمة فلا يتكبر أحد ويعتد بذاته ويأخذ الاستحقاق الحبري دون أن يتسلمه من قِبَل الله... فلا يُغتصب المركز بالرشوة بل يصعد حسب ضمير استحقاقاته حسب إرادة الله(120)].
41 فَتَذَمَّرَ كُلُّ جَمَاعَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْغَدِ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ قَائِلِينَ: «أَنْتُمَا قَدْ قَتَلْتُمَا شَعْبَ الرَّبِّ». 42 وَلَمَّا اجْتَمَعَتِ الْجَمَاعَةُ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ انْصَرَفَا إِلَى خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ وَإِذَا هِيَ قَدْ غَطَّتْهَا السَّحَابَةُ وَتَرَاءَى مَجْدُ الرَّبِّ. 43 فَجَاءَ مُوسَى وَهَارُونُ إِلَى قُدَّامِ خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ. 44 فَكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى قَائِلًا: 45 «اِطْلَعَا مِنْ وَسَطِ هذِهِ الْجَمَاعَةِ، فَإِنِّي أُفْنِيهِمْ بِلَحْظَةٍ». فَخَرَّا عَلَى وَجْهَيْهِمَا. 46 ثُمَّ قَالَ مُوسَى لِهَارُونَ: «خُذِ الْمِجْمَرَةَ وَاجْعَلْ فِيهَا نَارًا مِنْ عَلَى الْمَذْبَحِ، وَضَعْ بَخُورًا، وَاذْهَبْ بِهَا مُسْرِعًا إِلَى الْجَمَاعَةِ وَكَفِّرْ عَنْهُمْ، لأَنَّ السَّخَطَ قَدْ خَرَجَ مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ. قَدِ ابْتَدَأَ الْوَبَأُ». 47 فَأَخَذَ هَارُونُ كَمَا قَالَ مُوسَى، وَرَكَضَ إِلَى وَسَطِ الْجَمَاعَةِ، وَإِذَا الْوَبَأُ قَدِ ابْتَدَأَ فِي الشَّعْبِ. فَوَضَعَ الْبَخُورَ وَكَفَّرَ عَنِ الشَّعْبِ. 48 وَوَقَفَ بَيْنَ الْمَوْتَى وَالأَحْيَاءِ فَامْتَنَعَ الْوَبَأُ. 49 فَكَانَ الَّذِينَ مَاتُوا بِالْوَبَإِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا وَسَبْعَ مِئَةٍ، عَدَا الَّذِينَ مَاتُوا بِسَبَبِ قُورَحَ. 50 ثُمَّ رَجَعَ هَارُونُ إِلَى مُوسَى إِلَى بَابِ خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ وَالْوَبَأُ قَدِ امْتَنَعَ.
مرة أخرى يتذمر الشعب على موسى وهرون بسبب تأديب الرب لهؤلاء الرجال المغتصبين للعمل الكهنوتي. هاج الكل على موسى وهرون واتهموهما بالقتل (ع 41)، الأمر الذي يكشف أولًا عن مدى تأثير قورح وجماعته على الجماعة كلها حتى أنها لم ترتدع بالرغم مما رأوه من تأديب إلهي يصدر من السماء (نارًا) ومن الأرض (تفتح فاها)، كما تكشف عن طبيعة هذا الشعب أو طبيعة الإنسان -خارج النعمة- أنه دائم التذمر.
إذ رأى الشعب كله في هذا الحال المُرّ طلب من موسى وهرون أن يخرجان عن الجماعة لكي يفنيها في لحظة (ع 45)، لكن الاثنان خرا على وجهيهما أمام الله، فتراءى مجد الرب وشفع موسى عن شعبه، وطلب من هرون أن يبخر بسرعة وسط الجماعة ليتوقف الوبأ!
لست أريد أن أكرر أن هذا السفر وهو يكشف طبيعة الإنسان المتذمر يكشف قلب موسى الملتهب حبًا، الدائم الشفاعة عن شعبه.
يلاحظ في هذه الأحداث الآتي:
أولًا: إذ اقترب الأذى من موسى وهرون بواسطة الشعب غطت السحابة الخيمة وتراءى مجد الرب. يقول العلامة أوريجينوس: [ما كان يظهر لهما مجد الرب لو لم يصيرا هدفًا للاضطهاد والشدائد ويحدق بهما الخطر حتى قاربا من الموت. إذن لا تأمل أن ترى مجد الرب وأنت نائم في راحة! أليس وسط هذه الصعوبات استحق الرسول أيضًا أن يرى مجد الله؟ ألا تذكر أنه دخل أكثر من مرة في ضيقات وأتعاب وسجون (2 كو 11: 23-27) وضُرب بالعصي ثلاث مرات ورُجم مرة وعانى من الغرق واحتمل أخطارًا في البحر، أخطارًا في الأنهار، أخطار لصوص، أخطارًا من إخوة كذبة. كلما كثرت الآلام ظهر مجد الله للذين يعانون منها بشجاعة(121)].
ثانيًا: شفاعة موسى وهرون عن الشعب واستجابة الرب لهما، إنما تشير إلى عمل الكلمة الإلهيّة أو الوصيّة (موسى مستلم الشريعة) وعمل العبادة (هرون الكاهن) في حياتنا، ففي المسيح يسوع كلمة الله والكاهن الأعظم نتمتع بالخلاص ويُنزع الغضب الإلهي عنا إن تمسكنا بوصاياه ومارسنا العبادة كما يليق.
ثالثًا: أحب موسى مقاوميه ومضطهديه، وطلب من هرون الكاهن أن يسرع ويقدم بخورًا وسط الجماعة لخلاصهم، وكأن موسى وهو يمثل عصر الناموس حمل فيه قوة الإنجيل (حب المقاومين مت 5: 44).
رابعًا: وقف هرون بين الموتى والأحياء يقدم بخورًا لكي يوقف عمل الموت في حياة الأحياء. إنها لحظات سعيدة عاشها هرون حين وقف رمزًا للمسيح غالب الموت. وكما يقول القديس أمبروسيوس: [ماذا عن هرون؟ أي وقت كان فيه أكثر غبطة من ذلك الذي فيه وقف بين الأحياء والأموات، وبحضرته أوقف الموت عن العبور من أجساد الموتى إلى حياة الأحياء(122)].
خامسًا: ظهر البخور هنا كرمز للصلاة، لهذا يتنبأ ملاخي النبي عن تقديمه في كنيسة العهد الجديد قائلًا: "وفي كل مكان يقرب لاسمي بخور وتقدمة طاهرة" (مل 1: 11)، كما رأى القدِّيس يوحنا في العبادة السماويّة ملاكًا يقدم بخورًا في مجمرة من الذهب(123) (رؤ 8: 3-4).
_____
(108) Life of Moses 2: 280.
(109) Ibid 2: 281.
(110) Ibid 2: 283.
(111) Epis 1: 4: 11, 12.
(112) Epis 1: 51, 3, 4.
(113) Adv. Haer. 4: 16: 2.
(114) Ep. 75: 8.
(115) Ibid.
(116) Treat. of Cyprian 7: 11.
(117) Epis. 67: 3.
(118) On Ps. 47.
(119) On Ps., hom 16.
(120) Origen: In Num., hom 9: 1.
(121) In Num., hom 9: 2.
(122) Duties of the clergy 2: 4 (11).
(123) لدراسة البخور والتبخير، راجع كتابنا: الكنيسة بيت الله، 1979، ص 373-380.
← تفاسير أصحاحات العدد: مقدمة | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 | 31 | 32 | 33 | 34 | 35 | 36
الكتاب المقدس المسموع: استمع لهذا الأصحاح
تفسير العدد 17 |
قسم
تفاسير العهد القديم القمص تادرس يعقوب ملطي |
تفسير العدد 15 |
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
تقصير الرابط:
tak.la/q8zz837