القديس مكاريوس الإسكندري كان يشتغل بتجارة الحلوى وكان بجملته محبًا للناس، وكان قصير القامة، ليس له لحية وله شارب رفيه وحركات جذابة ولم ينقل لنا صاحبه بلاديوس (3) الذي كان تلميذه وأصبح كاتب تاريخه أي شيء أكثر من ذلك عن الأربعين سنة الأولى من حياته، وكانت الحياة الحقيقية لأبطال القداسة لا تبتدئ إلا عند العماد - وكان مكاريوس في نحو الأربعين من عمره (4) حينما تَعَمَّد.
بعد ذلك اتخذ قراره بترك كل شيء في هذا العالم، وبسرعة وباشتياق وسرور استبدل حلاوة مهنته الأولى التي لا طعم لها بحلاوة خدمة الله التي لا ينطق بها، وذهب إلى الصحراء المجاورة للإسكندرية إلى "سيليا" وكانت قفرًا موحشًا ليس فيها طريق من أي نوع ولا أي أثر لكائنات حية ولم يكن بها ماء بل كان كأي منخفض في الأرض من هنا أو هناك، يستبقي القليل من الماء وكانت هذه المياه ملحة وكريهة وهذا المكان الذي لا يمكن السكني به كان يمتد بين "نتريا" و"الإسقيط" وكان يبعد عن الأول بحوالي 15 كيلومترًا على مسيرة يوم وليلة من التل الذي كان يحتوي وحده في آخر القرن الرابع على خمسين ديرًا وما يزيد عن خمسة آلاف راهب. وكان بينه وبين الإسقيط (119 كيلومتر) قفر شاسع يمتد بين مصر وليبيا وكان المصريون في لغتهم يسمونه شيهيت (5) بمعنى ميزان القلب، أما سيليا فكانت تدين باسمها إلى الصوامع الكثيرة التي كانت مغائر وتلال نتريا (6) تزدحم بها وهاجر ساكنوها قليلًا قليلًا إلى الوادي المجاور، هناك ذهب القديس مكاريوس بصعوبة عن طريق الصحراء، وكانت تهاجمه أحيانًا تجارب عنيفة، وذات يوم ظهر له الشيطان، وكان يعاني من الجوع ويتألم من العطش، وينهك التعب قواه، فقال له المخاطب الجهنمي في لهجة عتاب لطيف، "لماذا لا تستعمل القوة التي تمتلكها لكي توفر مؤونة رخيصة وتواصل طريقك في حالة حسنة للغاية؟ فرد القديس مكاريوس، قوتي في الرب وله كل حمدي، أما أنت فاذهب ولا تحضر لتجرب خادم من خدام الله، حينئذ أقام الشيطان أمام عينيه جملًا عليه بردعة فاخرة، وكان يحمل حملًا ضخمًا من الأغذية، وكان يبدو عليه انه يتجول بدون هدف. وجاء وركع أمام القديس وكأنه يلتمس منه أن يخفف عنه حمله، أما القديس مكاريوس فقد أشتبه في وجود عمل خيالي من أعمال روح الشر وشرع في الصلاة، وفجأة انشقت الأرض وابتلعت المؤونة والدابة.
في مقبرة الوثنيين - حِفْظ الله للقديس، وقصة ظهور قطيع الجاموس - خيالات الشياطين
أراد مرة أن يذهب إلى مقبرة المنجمين جانس وجامبروس Jannes et Jambres سحرة مصر، حتى يعرف أي نوع من الشياطين كان هناك، وكان يقال أنهم كانوا يجتمعون هناك بعدد وفير، وكان السحرة أقوياء بفرعون، وكان هذان المنجمان الشهيران فيما مضي قد قاوما موسى وحاولا بسحرهما أن يقلدا العجائب التي كان يعملها بقوة الله لكي يحمل الملك منفتاح الثالث على خروج الشعب الإسرائيلي. وفي حياتهما كانا قد شيدا قبرًا عظيمًا مبنيًا بحجارة مقطوعة قطعًا عجيبًا، وكان القبر يحتوي على كنوز كثيرة وكانت تحيط به حدائق فاخرة بها الأشجار الوارفة الظلال تشع رطوبة لذيذة، وكان بها بئر عميقة ينبع منها ماء سلسبيل، وكانت فكرتهم، وهي التي كانت سائدة في كل مصر في ذلك الوقت، هي أنه بعد الموت كانت أرواحهم ترجع إلى هناك لتتمتع بلذات الفردوس. ولما كان يجهل الطريق الموصل إلى هذا القبر في داخل الحديقة كان مقاريوس يرشد بالكواكب ويشبه في هذا البحارة الذين يجوبون البحار، وقد عبر هكذا الصحراء القفراء الشاسعة، فقط لكي يسهل عودته كان يضع قصبات على طول الطريق واحدة عند كل ميل. وبعد تسعة أيام طويلة سيرًا على الأقدام وصل أخيرًا بالقرب من الحديقة المدهشة. وقبل أن يدخل أراد أن يستريح قليلًا ووجد شجرة جميلة لها أوراق رقيقة وكلها مغطاة بالورود فاقترب منها ليستريح تحت فروعها الكثيفة واستلقي على الأرض ولم يلبث أن نام نومًا عميقًا وكانت مجموعات العصافير المختبئة تحت الأوراق ترسل نغماتها البهيجة في حرارة الظهيرة وكأنها تدعوه للنعاس. وأثناء هذا كان الشيطان يهدم كل عمل القديس ويلاشي احتياطاته، وكان يرفع القصبات علامات العودة وفي منتهي التهكم كان يضعها حزما كبيرة عند مخدع القديس، ولا يمكن وصف دهشة القديس مكاريوس عند استيقاظه في نسيم المساء الرطب. لكنه كرجل إيمان فهم سريعًا، لقد أراد عدوه اللدود أن يهزأ به، ولكنه لم ير في هذا المكر الجهنمي غير يد الله الذي يدعوه لكي تكون له أكثر ثقة في حفظه مما في قصبات ضعيفة، فقام حينئذ واقترب من المبنى، فهب أكثر من سبعين شيطانًا في أشكال مختلفة بشعة لاستقباله، وكان بعضهم يصرخ صرخات حادة، والآخرون يرقصون رقصات، هؤلاء يصرون بأسنانهم وهؤلاء يطيرون مثل الغربان، وأسئلة استهجان كانت تتقابل في الهواء: "ماذا تريد أيها الراهب المغرور؟ ماذا جئت لتبحث عنه هنا؟ هل دخلنا جسد احد رهبانك؟ اذهب ليس شيء مشترك بيننا. لماذا تتعدي على ملجأنا؟ أن سكان هذا المكان قد أعطونا ملكيته ولا يحق لك أن تبقي هنا، وكان مقاريوس يقول: دعوني أري، لن أفعل سوي أن أدخل ثم أخرج، لا أريد سوي أن ألقي نظرة، نظرة واحدة، ثم انسحب سريعًا، فقال أحد الأرواح الشريرة: "هل تحلف على ضميرك أنك لن تبقي ههنا؟" "سوف أفعل كما قلت لكم" فاختفت الشياطين. ودخل القديس مقاريوس القبر في داخل الحديقة وكأنها جنة حقيقية. وتظاهر شيطان كان مختبئًا في حفرة بالهجوم عليه وبيده حربة. حينئذ قال القديس: تعال إليّ بسلاح، ماذا يهم؟ أنا سوف أتقدم بالرغم منك باسم رب القوات، قال هذا وأكمل نزهته بهدوء واستطلع كل الحديقة وزار القبر بتدقيق - وكان هناك جردل نحاس مربوط بسلاسل على حافة البئر وبرتقال قد جف من الشمس وقرابين كثيرة على القبر الشهير وارتبط القديس مكاريوس بكلمته ولم يتأخر.
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
وفي الغد عند الفجر اتخذ طريق صومعته وكانت العودة مؤلمة، وزاد الوقت المقرر بنسبة الضعف، ولم يكف الخبز ولا الماء وكان القديس على وشك الهلاك حينما حفظه الله التي كانت تجربه تجربة قاسية ربما تأديبًا له، وكان قطيع جاموس كبير يمر بالصحراء وفجأة تركت القطيع أنثى يتبعها صغيرها وجرت نحوه وفي نفس الوقت سمع صوت "يا مقاريوس" اقترب من الحيوان واحلبه واشرب اللبن" - وترك الحيوان نفسه مطيعًا ثم تبع القديس لغاية صومعته، وكان يحتفظ له باللبن مفضلًا إياه على الحيوان الصغير(7).
أما رواية القديس الشائقة عن رحلته فقد حركت كثيرًا من شباب سيليا ورغبوا بطبيعة الحال في محاكاة الأب والذهاب مثله لمجابهة الشيطان، أما الشيوخ فخشوا عليهم من التجارب العديدة وأقنعوهم بعدم الذهاب.
عاد الشيطان ثانية بعد وقت قليل.. في الليل سمع طرقًا على قلايته: "أسرع يا مقاريوس وتعال إلى الكنيسة حيث يصلي الإخوة فعرف الأب سريعًا هذا الاختراع الجديد من اختراعات الشيطان "يا كذاب يا لص! أية علاقة يمكن أن تكون بين مجمع القديسين وبينك".. أقول لك تعال وسوف ترى عملي، فذهب مقاريوس وبعد أن صلي إلي الله أن يغير قلبه رأى في كل الكنيسة مجموعة أقزام سود مثل الإثيوبيين، يحاولون أن يسترعوا انتباه الرهبان. وفي الغد جمع الرهبان وأبلغ كل واحد منهم موضوع تشتت فكره في الليلة الماضية. وهذه الحادثة أعطته الفرصة لكي يعلمهم أن حفظ المخيلة والقلب حفظًا جيدًا تؤمن ضد خيالات الشيطان.
_____
(3) كان بلاديوس صديقًا حميمًا للقديس مكاريوس الإسكندري ومكث حوالي ثلاث سنوات في صلات روحية وثيقة تعلم فيها الكثير من الرهبنة المقدسة، وكان شابًا في حوالي الثلاثين من عمره وهو كاتب بستان الرهبان وأصله من غلاطية جاء إلى مصر سنة 388م وأقام حتى 399م، وعندما رجع إلى غلاطية كتب عن آباء البرية.
(4) أن القديس لم ينتظم في سلك الرهبنة في سن مبكر فقد كان عمره 40 عامًا وغيره كثيرون من الآباء مثل القديس أنبا مرقس تلميذه الذي ستأتي سيرته وكان عمره 41 عامًا، والقديس أنبا أرسانيوس الكبير (40 عامًا)، القديس موسى القوي والقديس أنبا بولا البسيط تلميذ القديس انطونيوس وكان متقدمًا جدًا في الأيام.. وهكذا لأن المحبة الصافية الطاهرة والرغبة القوية والاشتياق الحقيقي للعشرة الخالصة مع الرب يسوع هي التي تدفع الإنسان لهذا الطريق مهما تقدم في الأيام.
ومما لا شك فيه أن سير أمثال هؤلاء الرهبان نافعة جدًا خصوصًا للذين خدموا العالم سنين طويلة فإنهم يتشجعون كثيرًا - وأنهم بقوة الرب يسوع يستطيعون اللحاق بموكب القديسين الكبار، لا بل قد يتقدمون لدرجة كبيرة جدًا مثل القديس مكاريوس صاحب هذه السيرة والقديس أرسانيوس الكبير الذي وصل إلى درجة عالية في التوحد وجاهد جهادًا عنيفًا..
نعم قد يرضي أمثال هؤلاء الرهبان الله أكثر من الذين سلكوا الرهبنة في سن مبكر - تمامًا كما يرضى الرب الذين هم في التوبة أكثر من القديسين، كما ذكر في تاريخ القديسة مريم المصرية التائبة أنها أرضت الرب في توبتها أكثر مما يرضيه القديسون في حياتهم لأن حياتها كانت حياة إنسحاق كامل.
(5) شيهيت يكتبها البعض خطأ شيهات.
(6) تسمي اليوم جبل برنوج.
(7) ذكر "اميليتو" في أول سيرة القديس مكاريوس الإسكندري أن الحيوان (الجاموسة) كان يعطيه كل يوم لبنًا إلى أن قرب من قلايته على مسيرة يوم..
وقد ابتدأت السيرة في النص القبطي بما ترجمته:
"للحال علمت أن الله أحياني وإذ صوت وافاني قائلًا: "يا مكاريوس قم اذهب إلى الجاموسة اشرب لبنًا وتقوي وامض إلى قلايتك. أما هو فمضي وشرب لبنًا منها.. إلخ.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/youssef-habib/macarius-of-alexandria/early-life.html
تقصير الرابط:
tak.la/6hfc3wj