بسم الآب والابن والروح القدس - الإله الواحد آمين
إن الذي يمعن النظر في قصة الميلاد، يجد نفسه أمام تأملات كثيرة. لعل في مقدمتها إن الله، في كل عصر من العصور مهما كانت مظلمة، " لا يترك نفسه بلا شاهد" (أع 14: 17).
لقد أحيط ميلاد الرب بمجموعة من القديسين...
علي الرغم من أنه كان عصرًا مظلمًا.
كان عصرًا مظلمًا حقًا، لذلك قيل عن مجيء المسيح فيه " النور أضاء في الظلمة. والظلمة لم تدركه (يو 1: 5). والسيد المسيح نفسه قال عن الجيل الذي عاش فيه " جيل فاسق وشرير يطلب آية، ولا تعطي له" (مت 12: 39، مت 16: 4). وكرر مثل هذا الكلام في مناسبة أخرَى (مز 8: 38).
ولما تكلم عن المعلمين الذين أرشدوا الناس قبل مجيئه، قال عنهم " كل الذين أتوا قبلي، هم سراق ولصوص" (يو 10: 8).
وظهور قديسين في ذلك العصر الخاطئ، يعطي رجاء.
إن فساد العصر لا يمنع أن روح الله يعمل. ووجود الأرض الخربة الخاوية المغمورة بالماء والظلمة، لا يمنع أن روح الله يرف علي وجه المياه (تك 1: 2). وفي كل جيل يستحق طوفانًا ليغرقه، لا بد من وجود نوح ليشهد للرب فيه. فالله لا يترك نفسه بلا شاهد. وهكذا كان العصر الذي ولد فيه المسيح.
رأينا مجموعة كبيرة من القديسين عاصرت الميلاد.
نذكر من بين هؤلاء، القديس زكريا الكاهن، الذي ظهر له ملاك وهو يبخر عند المذبح (لو 1: 11). وزوجته القديسة أليصابات. وقد قيل عنه وعن زوجته:
"وكانا كلاهما بارين أمام الله..." (لو 1: 6: ).
وقيل عنهما كذلك إنهما كانا " سالكين في جميع وصايا الرب وأحكامه، بلا لوم" (لو 1: 6). إن الفساد السائد في ذلك العصر، لم يكن عقبة تمنع وجود هؤلاء الأبرار فيه.
وإلى جوارهما، وجد يوسف النجار وسمعان الشيخ...
وقال الكتاب عن يوسف النجار إنه " كان رجلًا بارًا" (مت 1: 19).
وسمعان الشيخ شهد له الكتاب بأنه " كان بارًا تقيًا، ينتظر تعزية إسرائيل، والروح القدس كان عليه" (لو 2: 25). إنه أمر يجلب الرجاء والتعزية، أن نسمع أنه في جيل فاسق وشرير، أمكن وجود رجل بار، عليه روح الله، وأنه " أوحي إليه بالروح القدس..."، وأنه " أتي بالروح إلي الهيكل" (لو 2: 26، 27).
جيل فاسد، ولكن الروح القدس يعمل فيه.
ونتيجة لعمل الروح وجد هؤلاء الأبرار... وكان الروح يكلمهم... وكان الملائكة يظهرون لهم ,. وكانت لهم أحلام مقدسة. واستحقوا أن يروا المسيح له المجد.
وفي وسط قديسي هذا العصر، نجد قديسة نبية هي:
حنة النبية بنت فنوئيل العابدة في الهيكل.
وكانت هذه القديسة " لا تفارق الهيكل، عابدة بأصوام وطلبات ليلًا ونهارًا" (لو 2: 37).
ومع هؤلاء وجدت العذراء والمعمدان.
إننا لا نيأس من فساد أي جيل، إذا رأينا أن جيلًا شريرًا كهذا، عاشت فيه في حياة الكمال أطهر امرأة في الوجود، هي مريم العذراء، التي استحقت أن الروح القدس يحل عليها، وقوة العلي تظللها، ويولد منها ابن الله (لو 1: 35).
وكذلك في هذا الجيل الفاسق، وجد يوحنا المعمدان، الذي من بطن أمه امتلأ من الروح القدس (لو 1: 15). والذي وصفه الرب بأنه أعظم من ولدته النساء (مت 11: 11).
كل أولئك كانوا موجودين في عصر واحد، هو وقت الميلاد، بالإضافة إلي المجوس والرعاة الذي استحقوا بشارة الملائكة ورؤية المسيح.
وكان هناك قديسون آخرون وقت كرازة الرب وقيامته.
نذكر من بين هؤلاء الاثني عشر رسولًا، والسبعين الآخرين الذين اختارهم أيضًا (لو 10: 1). ويذكر بولس الرسول " أكثر من خمسمائة أخ " ظهر لهم السيد المسيح بعد قيامته (1 كو 15: 6)... كل هؤلاء وأمثالهم كانوا الباكورة. ثم شملت القداسة الكل...
وكل هؤلاء اجتمعوا معًا في عصر قيل إنه فاسد. أليس هذا أمرًا يعطي رجاء للجميع؟!
ثم أنه مما يزيد الرجاء في القلوب حقيقة أخرى هامة وهي:
كان هؤلاء القديسون من نوعيات متعددة.
في إحدى المرات جاءني إنسان تائبًا ليعترف بخطاياه. وبعد الاعتراف طلب مني لمنفعته الروحية أن أرشده إلي قراءة قصص بعض قديسي التوبة. فأعطيته قصص قديسين كبار مشهورين في حياة التوبة، مثل القديس موسى الأسود، القديس أوغسطينوس، القديسة بيلاجية، القديسة مريم القبطية... ولما قرأهم وجاءني مرة أخري، سألته: هل أعجبتك القصص؟ فأجابني:
نعم أعجبتني، ولكن كلهم من نوع واحد، ترهَّب...
وسألني هل توجد سير لقديسين آخرين تابوا، ولكنهم عاشوا مثلنا في العالم، في مثل حياتنا، دون أن يترهبوا...؟ وهل كل الذين يتوبون، لا بد أن ينتهوا إلي الرهبنة؟ ألا يوجد تنوع في مصير التائبين؟
ولا شك أن ذلك الشخص كان له حق في سؤاله. إنه يريد عينة تابت، وعاشت بعد التوبة حياة مقدسة في العالم، مثلما يعيش هو...
وفي قصة الميلاد، نري عينات متنوعة من القديسين، نذكر من بينها:
نرى في قصة الميلاد قديسين مختلفين في السن.
نري إنسانًا طاعنًا جدًا في السن مثل سمعان الشيخ، ومثل زكريا الكاهن وزوجته أليصابات "وكانا كلاهما متقدمين في أيامهما" (لو 1: 7). وكذلك حنة النبية "وهي أرملة نحو أربع وثمانين سنة" (لو 2: 37). ويوسف النجار أيضًا كان شيخًا...
وإلى جوار هؤلاء نجد السيدة العذراء مريم، وكانت في نحو الرابعة عشرة من عمرها، شابة صغيرة. ثم هناك يوحنا المعمدان وهو طفل، وقد ارتكض بابتهاج في بطن أمه لما سمع سلام العذراء (لو 1: 44). ومن بطن أمه امتلأ من الروح القدس (لو 1: 15). أما الرعاة فغالبًا كانوا في سن الرجولة، لا أطفالًا ولا شيوخًا، وقد بشرهم الملاك.
وكان قديسو الميلاد، متنوعين من جهة عملهم.
كان منهم الكاهن، مثل زكريا، وتبعه في ذلك ابنه يوحنا.
وكان هناك النجار مثل يوسف، من سبط يهوذا وليس من الكهنوت.
أما سمعان الشيخ فكان من علماء اللاهوت أو علماء الكتاب.
والمجوس كانوا من رجال الفلك، وهم غير الرعاة في عملهم.
وحنة بنت فنوئيل كانت نبية، وكانت عابدة، والعذراء كانت عابدة وأليصابات كانت تخدم بيتها (ست بيت).
والقداسة شملت الكل. لا يهم السن، ولا نوع العمل.
كل إنسان له نصيب في الرب: النجار مثل عالم اللاهوت، مثل الكاهن والنبية مثل ست البيت. وعالم الفلك مثل راعي الغنم... لقد جاء السيد المسيح للكل. وكل إنسان له رجاء في المسيح، بغض النظر عن سنه وعن عمله.
كذلك كان قديسو الميلاد متنوعين من جهة الزواج.
فهناك قديسون متزوجون عاصروا قصة الميلاد وبركته، مثل زكريا الكاهن وزوجته أليصابات. وكانت هناك الأرملة مثل حنة النبية (لو 2: 37). ولا شك أن سمعان الشيخ كان أرملًا أيضًا. وفي قديسي الميلاد نري أيضًا المتبتلين مثل السيدة العذراء ويوسف النجار (لو 1: 27).
في صورة واحدة اجتمع المتزوجون والمترملون والمخطوبون والبتوليون، كلهم لهم نصيب في الرب، ونصيب في حياة القداسة والتمتع بالمسيح.
الناس يتنازعون قائلين أيهم أفضل؟ ونحن نقول: الكل لهم نصيب في المسيح. المهم في نقاوة القلب.
وفي قصة الميلاد، نري المرأة والرجل.
نرى قديسات نساء، مثل العذراء، وأليصابات، وحنة النبية.
ونري قديسين رجالًا، مثل يوسف النجار، وزكريا الكاهن، وسمعان الشيخ...
الكل اجتمعوا معًا في الفرحة بميلاد الرب، لأن المسيح قد جاء للكل...
كذلك نري في قصة الميلاد فقراء وأغنياء.
المجوس كانوا أغنياء. لأنهم قدموا هدايا من ذهب... ويوسف النجار كان فقيرًا، وكذلك كانت السيدة العذراء التي لم تجد مكانًا تضع فيه مولودها، فولدته في مزود بقر... وقد اجتمع الغني والفقري معًا في قصة الميلاد، لأن الرب يحتضن الكل. وكل إنسان له نصيب فيه. جاءت البشارة للرعاة البسطاء، كما لهيرودس الملك أيضًا (مت 2: 3).
وبنفس الوضع نجد في الميلاد أنواعًا من الناس.
نجد العمل، والتوحد: العمل ممثلًا في الرعاة الذين كانوا يسهرون في حراسات الليل علي أغنامهم، وظهر لهم الملاك يبشرهم بالميلاد. والتوحد كان ممثلًا في حنة النبية التي كانت عاكفة علي عبادتها في الهيكل، وسبحت الله علي ميلاد المسيح (لو 2: 38).
وفي قصة الميلاد، كما نري اليهود، نري الأمم أيضًا يمثلهم المجوس.
نرى الصغير والكبير، العلماني والكاهن، العابد والخادم، النبي والإنسان العادي، المرأة والرجل... الكل معًا، في فرحة البشرية بالميلاد.
وفي فرحة بالميلاد اشترك الملائكة مع البشر.
ملائكة بشروا بالميلاد، ميلاد المسيح المخلص للكل، وميلاد سابقة يوحنا المعمدان الذي يهيئ الطريق قدامه. وجمهور من الجند السماوي ظهروا مسبحين الله وقائلين: "المجد لله في الأعالي، وعلي الأرض السلام، وفي الناس المسرة" (لو 2: 13، 14).
وقصة الميلاد تعطي رجاء في اللقاء مع المسيح.
سواء في الطفولة، أو في الشيخوخة والكهولة.
يوحنا المعمدان، التقي بالرب، وارتكض بابتهاج نحوه، وهو بعد جنين في بطن أمه (لو 1: 44). والعذراء مريم التقت به في شبابها. وزكريا وأليصابات التقيا به وهما شيخان متقدمان في الأيام، وكذلك حنة النبية. وسمعان الشيخ التقى به سن الكهولة، وهو أكثر من 200 سنة عمرًا. ولكن له رجاء في هذا اللقاء إذ أوحي إليه أنه لا يري الموت قبل أن يري المسيح الرب (لو 2: 26).
وكان في قصة الميلاد رجاء حتى للعاقر.
وتمثل ذلك في أليصابات التي كانت عاقرًا (لو 1: 36). ومع ذلك أعطاها الله ابنًا في شيخوختها. وكان ابنها أعظم من نبي، بل لم تلد النساء من هو أعظم منه (مت 11: 11).
وأعطَى المسيح فرصة للكل أن يروه.
سواء الغرباء أو الأقارب: الغرباء مثل المجوس والرعاة. والأقارب مثل اليصابات نسيبة العذراء (لو 1: 36)، ويوسف قريبها... أعطي فرصة لليهود والأمم.
كل أنواع الناس وجدت لها نصيبًا في المسيح الذي جاء ليعطي رجاء للكل... حتى إن كنت لم تبصر المسيح طوال عمرك، ستراه ولو في كهولتك مثل سمعان الشيخ. وحينئذ تقول "الآن يا رب تطلق عبدك بسلام، لأن عيني قد أبصرتا خلاصك" (لو 2: 29، 30).
وكما أعطي المسيح بميلاده رجاء للكل، كذلك قدس كل شيء:
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
أرانا أن " كل شيء طاهر للطاهرين" (تي 1: 15).
وهكذا قدس الجسد، لما أخذ جسدًا...
الجسد الذي يتكلم البعض عنه كان لو كان فاسدًا وسببًا لكل خطية، هذا قدسه الرب أخذ لنفسه جسدًا وحل بيننا، وأرانا كيف يكون الجسد طاهرًا ومقدسًا ومرضيًا لله...
وقدس الجسد، حينما حل الروح القدس في بطن السيدة العذراء، وقدس جسدها ليكون إناءً طاهرًا مختارًا لحلول الله الكلمة. وقدس الجسد فيما بعد لما منحه نعمة القيامة والصعود إلي فوق. وأعطانا أن نقوم بأجساد روحانية (1 كو 15: 44).
وهكذا قدس أجسادنا، وقدس أرواحنا، وقدس طبيعتنا البشرية عمومًا "أخذ الذي لنا، وأعطانا الذي له"... وصيرنا نحن جسده، وهو الرأس...
وقدس كذلك بتجسده كل مراحل العمر.
أعطانا مثالًا للحمل المقدس. ومثالًا للطفولة المقدسة لما صار طفلًا. وبنفس الوضع أرانا كيف يكون الشباب مقدسًا، وكيف تكون الرجولة مقدسة. أعطانا الصورة المثالية لكل مرحلة من مراحل العمر لما مر بها.
وقدس المسيح الزواج.
قدس الزواج، لما سمح أن تتزوج العذراء بيوسف النجار، وإن كانت لم تعش معه كزوجة، إنما عاشت بتولًا في كنفه ورعايته.
وقدس الزواج أيضًا، لما حضر عرس قانا الجليل وباركه (يو 2).
وقدس الأرض والبحر والمكان عمومًا.
الأرض التي لعنها الرب في خطية آدم (تك 3: 17). عادت فدخلتها البركة بميلاده. وهكذا بارك فلسطين بميلاده فيها، وبارك بلادنا مصر بإقامته فيها بضع سنوات. بل بارك مزود البقر إذ ولد فيه. وبارك بلاد الشرق. وبارك كل مكان حل فيه، وكل مكان صنع فيه معجزة. وبارك البحر لما مشي عليه.
وبارك الجبل حين ألقي عظة عليه، وحين تجلي علي الجبل، وحين كان يختلي في جبل الزيتون، وحين صلب علي حبل الجلجثة.
وقدس الحياة البشرية التي مارسها.
قدس الصوم، لما صام أربعين يومًا (مت 4: 2). وقدس الأكل والشرب، لما أكل مثلنا وشرب، حتى قيل عنه "جاء ابن الإنسان يأكل ويشرب" (مت 11: 19).
قدس العمل، حينما اشتغل نجارًا في بيت يوسف، وقيل عنه " أليس هذا هو النجار ابن مريم" (مز 6: 3). وهكذا بارك العمل لما عمل بيديه. قدس كل عمل كانت تمتد إليه يده.
قدس الحياة كلها، وناب عن البشرية في هذا التقديس.
البشرية لم تقدم حياة مقدسة كاملة لله...
فقدمها الابن الكلمة نيابة عنا، كصورة الله.
قدم لنا الصورة الإلهية التي ينبغي أن يحيا بها الإنسان الكامل علي الأرض. وكان هو بيننا "صورة الله غير المنظور" (كو1: 15)، رأينا الله في شخصه لأن " الله لم يره أحد قط " ولكن " الابن الوحيد الكائن في حضن الآب هو خبر" (يو 1: 18). هو الذي قال "مَن راَني فقد رأي الآب" (يو 14: 9). فبالنسبة إلينا أرانا صورة الله. وبالنسبة للآب قدم له صورة الإنسان الكامل، الذي خلق منذ البدء علي شبه ومثاله (تك 1: 26). وعاد له بهاؤه في التجسد...
وفي هذه الصورة الإلهية، قدس كل شيء.
قدس الفقر والغني والمال.
قدس الفقر، لما ولد فقيرًا في مزود البقر، وعاش فقيرًا ليس له أين يسند رأسه. وقدس الفقر لما اختار له تلاميذ فقراء صيادي سمك... وفي نفس الوقت قدس الغني، لما سمح أن يكفنه رجل غني هو يوسف الرامي (مت 27: 57)، ودفن في مقبرته الخاصة.
وقدس المال، إذ كان لجماعته صندوق يضع فيه المتبرعون مالهم (يو 12: 6). وقدس المال لما امتدح الأرملة التي دفعت من أعوازها فلسين في الخزانة (لو 21: 2). وهكذا لم يعد المال شرًا في ذاته كما يظن البعض.
وعاش علي الأرض محبًا لكل أحد، يرضي الجميع، ويشبعهم من رضاه.
يرفع معنويات الأطفال، بمحبته وحنانه.
الأطفال الذين كان ينظر إليهم الكبار في احتقار، وكانوا ينتهرونهم ويطردونهم من طريقه، هؤلاء رفع هو من معنوياتهم لما قال "دعوا الأولاد يأتون إلي ولا تمنعوهم، لأن لمثل هؤلاء ملكوت السموات" (لو 18: 16). وأيضًا لما رفع طفلًا في الوسط وقال " إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأطفال، لن تدخلوا ملكوت الله" (مت 18: 3). وكان يحب الأطفال ويحتضنهم ويباركهم (مز 10: 16). ولما انتهروهم وهم يسبحون يوم أحد الشعانين، دافع عنهم بقول المزمور "من أفواه الأطفال والرضعان هيأت سبحًا" (مت 21: 16).
وفي هذا المجال، تعجبني صورة للمسيح يبارك الأطفال.
صورة رأيتها في كتاب عن خدمة الكلمة في مدارس الأحد في أفريقيا وفي بلاد الشرق الأقصَى: فيها المسيح يبارك أطفالًا متعددي الأجناس، فيهم الطفل الأبيض ذو العيون الخضراء والشعر الأصفر المسترسل وشكله جميل. وفيها الطفل الأسود الجميل أيضًا بشعره المفلفل اللطيف. وفيها أيضًا الأطفال الجميلة من الأجناس الصفراء ذات الملامح المعروفة: كلهم أطفال فيهم حلاوة وجمال، بيضًا وسودًا وصفرًا. والمسيح يبارك الكل. إنه قد جاء للكل... الفقير منهم الحافي القدمين، تمامًا كالغني ذي الملابس الأنيقة.
أمر مؤلم، أن توجد صورة للمسيح يبارك أطفالًا بيضًا فقط، يري فيها السود مشكلة التمايز العنصري... فالمسيح للكل. لقد بارك الأطفال من كل نوع ومن كل جنس، ورفع معنوياتهم جميعًا...
ورفع الرب أيضًا من معنويات المرأة، وأعطاها مجالًا.
بارك النساء وخدمة النساء. ونسوة كثيرات كن يتبعنه من الجليل ويخدمنه (مت 27: 55). وكان يذهب إلي بيت مريم ومرثا في بيت عنيا (لو 10: 38 - 42). وبارك مريم المجدلية وجعلها تلميذة له، وظهر لها أولًا بعد قيامة (مز 16: 9)، وأرسلها لتبشر تلاميذه الاثني عشر (مت 28: 10 9. ودافع عن المرأة الخاطئة التي بلت قدميه بدموعها، وأظهر لسمعان الفريسي أنها أفضل منه (لو 7: 44 - 46). ودافع عن المرأة التي ضبطت في ذات الفعل وقال لمن طلبوا رجمها " من كان منكم بلا خطية، فليرجمها أولًا بحجر " وقال للمرأة "وأنا أيضًا لا أدينك، اذهبي بسلام" (يو 8: 7).
كان المسيح أملًا ورجاء وسعادة، لكل أحد.
ومحبته ورعايته ظللت حتى العشارين والخطاة أيضًا.
كان العشارون محتقرين من الناس في جيلهم، لأنهم كانوا محبين للمال، وكانوا مشهورين بالظلم. ولكن السيد المسيح رفع من معنويات هؤلاء أيضًا، واقتادهم إلي التوبة والخلاص، بل إلي الرسولية أيضًا... وهكذا فإنه في وسط الزحام نادي زكا باسمه، وقال له " ينبغي أن أمكث اليوم في بيتك " ودخل بيته وقال " اليوم حصل خلاص لهذا البيت، إذ هو أيضًا ابن إبراهيم" (لو 19: 9) ولم يبال بتذمر الناس عليه لدخوله بيت رجل خاطئ.
بل أكثر من هذا دعا متي العشار، وجعله رسولًا وأحد الاثني عشر (مت 9: 9، 10).
وفي مثل الفريسي والعشار (لو 18: 9 - 14)، وأظهر للناس أن العشار في انسحاق قلبه وطلبه للرحمة، كان أفضل من الفريسي المفتخر ببره، وأنه خرج من الهيكل مبررًا دون ذلك...
وكما رفع معنويات العشارين، رفع معنويات الأمم.
كان الأمم مكروهين من اليهود، علي اعتبار أنهم بعيدون عن الله، غرباء عن رعويته وعهوده، بلا أنبياء، بلا ناموس، بلا رجاء، بلاد إله في العالم (أف 2: 12). ولكن في ميلاد المسيح، ضم كل هؤلاء إليه، وبدأ يمتدح الأمم، ويظهر أنهم مقبولون أمام الله. وبدأ بدعوة المجوس وكانوا أمميين. وماذا أيضًا؟
شفائه لغلام قائد المائة الأممي (مت 8: 1)، نراه قد أعجب بإيمان هذا القائد وقال الحق أقول لكم:
لم أجد ولا في إسرائيل بمقدار هذا.
وقال في تفوق هذا الإيمان الأممي علي إيمان اليهود " وأقول لكم إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب، ويتكئون مع إبراهيم وإسحق ويعقوب في ملكوت السموات. وأما بنو الملكوت فيطرحون في الظلمة الخارجية، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان" (مت 8: 11، 12).
وامتدح الرب أيضًا إيمان المرأة الكنعانية.
وقال لها "يا امرأة عظيم هو إيمانك" (مت 15: 28)، مع أنها من شعب كان أول من أصابته اللعنة بعد تجديد الأرض بفلك نوح (تك 9: 25). وكما شفي غلام قائد المائة، شفي أيضًا ابنة المرأة الكنعانية. وهكذا رأي اليهود شيئًا جديدًا، في مدح الكنعانين، والرضي عليهم، وشفاء أمراضهم. وبهذا رفع الرب من معنويات هؤلاء أمام الكل.
ورفع أيضًا معنويات الضعفاء والخاطئين...
نأخذ مثالًا لذلك بطرس الرسول الذي أنكره، وسب ولعن وقال لا أعرف الرجل. ولا شك أنه كان في خزي من نفسه، حتى أنه خرج خارجًا وبكي بكاء مرًا (مت 26: 75). فكيف رفع الإله الحنون معنوياته؟ يقول الكتاب أنه بعد القيامة " ظهر لبطرس ثم لباقي الاثني عشر (1 كو 19: 5). وماذا أيضًا؟ قال له الرب "ارع غنمي... ارع خرافي" (يو 21: 15، 16). وهكذا لم يسحب منه رتبة الرسولية جزاء إنكاره...
حقًا، لقد ولد الحنان بميلاد الرب، أو رأي الناس هذا الحنان عمليًا، في صورة مثالية لم يعرفوها...
كان قلبًا كبيرًا، يعطي من حنانه للكل.
حتى ذلك الرجل العظيم، نيقوديموس عضو مجلس السنهدريم الأعلى، الذي كان علي الرغم من عظمته خائفًا من اليهود، لم يحتقر الرب خوفه، ولم يبكته عليه، لما جاء إليه هذا الرجل ليلًا (يو 3: 2) حتى لا يراه أحد... بل تنازل الرب إلي ضعفه، وقابله في الليل، وظل يغرس الإيمان في قلبه شيئًا فشيئًا، فصار واحدًا من تلاميذه ودافع عنه لما هاجمه الفريسيون (يو 7: 50، 51)، واشترك مع يوسف الرامي في تكفينه (يو 19: 39، 40).
وبنفس الحنان والعطف، تعامل الرب مع النساء.
كانت له جلسة روحية هادئة مع المرأة السامرية، لم يبكتها فيها علي خطاياها، إنما حدثها عن الماء الحي، واجتذبها للاعتراف، وجعلها تؤمن وتدعوا غيرها إلي الإيمان أيضًا (يو 4).
والمرأة نازفة الدم، التي يحسبها البعض نجسة، سمح الرب أن تلمس ثوبه، وأن تنال منه الشفاء. ولما رآها مرتعدة لأنها لمست ثيابه، قال لها "يا ابنة، إيمانك قد شفاك، اذهبي بسلام" (مز 5: 25 - 34).
والمرأة التي سكبت الطيب علي قدميه، وانتهرها الناس، دافع الرب عنها، وطوب عملها، قائلًا للناس:
لماذا تزعجون المرأة؟ لقد عملت بي عملًا حسنًا.
وقال عنها أيضًا " الحق أقول لكم: حيثما يكرز بهذا الإنجيل في كل العالم، يخبر أيضًا بما فعلته هذه تذكارًا لها" (مز 5: 3- 9؛ مت 26: 6 - 13). ما أجمل هذا التشجيع. إنها عبارات تعزي جنس المرأة بوجه عام.
أعطانا الرب في تجسده مثالًا للقلب الحاني علي كل أحد...
وكان حانيًا علي الخطاة...
كان يجلس معهم ويقتادهم إلي التوبة، ولا يعتبرهم أشرارًا بقدر ما يعتبرهم مرضي. ويقول عنهم في رفق " لا يحتاج الأصحاء إلي طبيب بل المرضي، لم آت لأدعو أبرارًا بل خطاة إلي التوبة" (مز 2: 17). وهكذا جعل للخطاة نصيبًا فيه، ورجاء فيه...
كان رجاء لكل من فقد الرجاء.
كان مريض كان يفقد الرجاء في شفائه، ويعجز الأطباء عن شفائه، كان يأتي إلي المسيح، رجاء من ليس له رجاء، ومعين من ليس له معين... ولعل من أمثلة ذلك مريض بيت حسدا، الذي قضي ثمان وثلاثين سنة في مرضه، وليس له إنسان يلقيه في البركة، هذا جاء إليه السيد المسيح بنفسه، بقلبه، بحنانه، بإدراكه احتياجات الإنسان... وشفاه وجعله يحمل سريره ويمشي" (يو 5: 1 - 9).
كل إنسان، وكل مكان، شهد حنان الكلمة المتجسد.
كان يدخل بيوت الناس، وكان يدخل إلي سفن الصيادين. وكان شخصًا شعبيًا مع الكل... يقابل الكل ويكلمهم: في الطريق، وفي البحر، وعند البحيرة، وفي الزروع، وفي مواضع خلاء... في كل مكان. ومجامع اليهود أيضًا، دخلها وعلم الناس فيها (لو 4: 16 - 21). كان للكل.جاء من أجل الجميع، ليخلص الجميع.
لم يشعر أحد أنه محروم منه، حتى الذين ينتقدونه!
فالفريسيون الذين كانوا يقفون ضده، والذين كانوا يقفون ضده، والذين كانوا يريدون أن يصطادوه بكلمة، لم يمتنع من زيارتهم وإظهار الحب لهم، وان لهم أيضًا رجاء فيه. ولما دعاه سمعان الفريسي، دخل إلي بيته، واتكأ... وناقشه وكلمه ودخل معه في حوار (لو 7: 36 - 47).
كان قلبًا مفتوحًا للكل، يجول يصنع خيرًا (أع 10: 38).
أرانا صورة الإله المحب... كل شخص يجد له نصيبًا فيه، مهما كانت نوعيته، ومهما كان سنه، ومهما كانت حالته الاجتماعية، أو ثقافته أو جهله... إنه للكل، قلبًا محبًا محبوبًا، يصنع الخير مع كل أحد، ويفيض حبًا وحنانًا وتعليمًا علي كل من يقابله. ويمنح الشفقة للجميع، حتى لمنتقديه ومعارضيه، حتى للص المعلق إلي جواره علي صليب... حتى لصاليبه الذين قال عنهم للآب " يا أبتاه اغفر لهم، لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون" (لو 23: 34). كان تجسده درسًا عميقًا في الحب. يستطيع كل من يراه أن يقول:
لي رجاء في هذا الإله، الذي جاء لكل أحد.
لقد جاء للخطاة الذين أولهم أنا. وجاء أيضًا حتى لمضطهدي الكنيسة.
خذوا مثالًا لذلك، شاول الطرسوسي، الذي كان يضطهد الكنيسة بإفراط، وكان يجر رجالًا ونساء إلي السجن، هذا أيضًا في وقت ما، قابله السيد المسيح في طريق دمشق، ودعاه، ليس فقط إلي الإيمان، وإنما إلي الخدمة، كرسول (أع 9)، ووجد شاول نفسه في قلب الرب، وصار خادمًا له، يكرز بالإيمان أكثر من الجميع...
حتى الجندي الذي طعنه بالحربة، صار له نصيب فيه.
لقد طعنه الجندي الروماني. ولكن الرب قابل طعنته بحب، ومنحه نعمة اقتادته إلي الإيمان. فقال "حقًا كان هذا ابن الله" (مت 27: 54)، وشهد أيضًا لبره (لو 23: 27). وصار هذا الجندي قديسًا. إنه القديس لونجينوس، تعيد الكنيسة لاستشهاده يوم 23 أبيب.
حقًا، كل الذين قابلوه، منحهم نعمة وبركة.
لم يغلق ذاته علي أحد إطلاقًا، بل فتح قلبه للكل، وفتح فمه ليعلم الكل. وفتح أبواب خلاصه أمام الجميع. وكلمة الجميع هنا، لخصها الكتاب في عبارة واحدة هي " هكذا أحب الله العالم..." (يو 3: 16)... فهو لم يقصر محبته علي طائفة أو مجموعة معينة، أو نوعية خاصة من الناس، أو شعب واحد، وإنما أحب العالم كله، بلا استثناء... وفي هذا الحب العام للجميع، الذي في تجسده يفدي الجميع ويخلصهم، قيل عنه إنه:
حمل الله، الذي يرفع خطية العالم (يو 1: 29).
وقال عنه القديس يوحنا الحبيب إنه " كفارة لخطايانا. ليس لخطايانا فقط، بل لخطايا كل العالم أيضًا" (1 يو 2: 2).
أي قلب هو هذا القلب الكبير، الذي يتسع للعالم كله. والذي يحمل خطايا الكل، وقد وضع عليه إثم جميعنا" (أش 53: 6). وأصبح كل خاطئ يقترب إلي دمه. يجد فيه مغفرة كاملة، مهما كانت خطايا من يطلب الغفران.
كل إنسان، مهما كانت نوعيته، صار له نصيب فيه.
نقول إن هناك نصيبًا ليوحنا الذي يتكئ علي صدره، وأيضًا لتوما الشكاك الذي لا يؤمن إلا وضع أصبعه في مكان الجروح (يو 20: 27). وفي قلبه مكان أيضًا لبطرس الذي كان مندفعًا ومتسرعًا، وكثيرًا ما وبخه الرب علي اندفاعه في الكلام (مت 16: 23، يو 13: 8). وكذلك كان في قلبه مكان لمرقس الشاب الذي هرب عريانًا وقت القبض عليه، إذ كان يلبس إزارًا علي عريه، فملا أمسكوه ترك الإزار وهرب عريانًا (مز 14: 51، 52). ومع ذلك قبله الرب، وحل الروح القدس في بيته (أع 2). وصار بيته أول كنيسة في العالم (أع 12: 12).
لا يوجد أحد ليس له نصيب في المسيح.
كان للكل، للصغير والكبير، للعامي والفيلسوف. كان للصيادين البسطاء، كما للوقا الطبيب والفنان، كما لشاول الفيلسوف الذي تهذب عند قدمي غمالائيل (أع 22: 3). إنه لجميع الناس. كل أحد كان يشعر بدالة وصداقة يمكن أن تربطه بالرب... وكل أحد كان يشعر بتواضع هذا المعلم الصالح، وبسماحته ومحبته وحنانه وإشفاقه ومعرفته للطبيعة البشرية واحتياجاتها.
ولقد استطاع في تجسده أن يشبع كال حي من رضاه، وأن يحمل أثقال الكل، ويقول عبارته المشهورة:
تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال، وأنا أريحكم (مت 11: 28).
وهكذا كان مريح التعابَى، سواء المرضي والمصروعين، الذين كان يضع يديه علي كل واحد منهم فيشفيهم (لو 4: 40). حتى مريم المجدلية التي كان فيها سبعة شياطين (مز 16: 9)، شفاها وتبعته وصارت من تلاميذه...
حقًا من كان يظن أن إنسانة فيها سبعة شياطين، تصير مبشرة للرسل الاثني عشر بقيامة المسيح...!
حقًا إن التجسد الإلهي هو باب الرجاء.
وجدنا فيه الرجاء لكل أحد، ووجدنا فيه صورة الإله الحنون الذي يحب الكل، الذي فيه رجاء لكل إنسان، حتى للذي فيه سبعة شياطين. إذن لا ييأس أحد... مهما كان من جهال العالم، أو من ضعفاء العالم، أو من المُزدرَى وغير الموجود... (1 كو 1: 27، 28)، فإن الله سيخزي بهم الحكماء والأقوياء.
إذن آمنوا بالرب الذي للكل، وحمل أثقال الكل، وحمل خطايا العالم كله، له المجد من الآن وإلي الأبد آمين.
ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا.
_____
(1) ألقيت هذه المحاضرة في الكاتدرائية الكبرى بالعباسية مساء الجمعة 14 / 1 / 1977 م.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/nativity-inspiration/contemplations.html
تقصير الرابط:
tak.la/7cfypdf