قسوة
كان فرعون إنسانًا قاسيًا...
وكانت قسوته ضد نفسه، وأكثر مما هي ضد الناس.
كان يظلم الناس وَيُسَخِّرهم. وأن شكوا إليه وطلبوا رحمته، يزيدهم ظلمًا وتسخيرًا. ويقول لهم "متكاسلون أنتم متكاسلون" (خر 5: 17).
هذا من جهة الناس. ومن جهة علاقته بالرب، كان قاسي القلب أيضًا.
كان يمثل القلب الذي لا يتوب بسهولة، مهما حدث من معجزات!
حتى المعجزات ما كانت تُخرجه من قسوة القلب. إنه يُذَكِّرنا بقول أبينا إبراهيم عن أقرباء الرجل الغني: "وَلاَ إِنْ قَامَ وَاحِدٌ مِنَ الأَمْوَاتِ يُصَدِّقُونَ" (16: 31). وهو أيضًا يُذكرنا ببني في البرية، وتمردهم على الرب وعلى إسرائيل موسى، على الرغم من كل المعجزات التي رأوها بأعينهم... وأيضًا موقفهم عند صلب السيد المسيح، وكيف نسوا له كل معجزاته...
حقًا إن الإنسان القاسي لا تُخلصه المعجزة، فلا يخلص إلا بنقاوة القلب.
لأن القلب القاسي يمكن أن يرفض المعجزة، أو يعللها بأسباب أخرى! أو يتأثَّر بها مؤقتًا، ثم ينساها بعد حين...
وهذا هو ما كان يحدث مع فرعون... كان يقابل معجزات الله أحيانًا بما يعمله السحرة والعرافون الذين تحت يده... وأحيانًا كان يضطر إلى الاعتراف بالمعجزة أمام سحرته وحكمائه.
وهذا القلب القاسي كان يلين في بعض الأوقات، أثناء الضربات.
ويقدم وعودًا، ويطلب الصلاة من أجله، وينسحق، ويتنازل عن كبريائه كفرعون... وأمامنا أمثلة كثيرة لذلك:
فبعد ضربة الضفادع، دعا موسى وهرون وقال لهما: "صَلِّيَا إِلَى الرَّبِّ لِيَرْفَعَ الضَّفَادِعَ عَنِّي وَعَنْ شَعْبِي فَأُطْلِقَ الشَّعْبَ لِيَذْبَحُوا لِلرَّبِّ" (خر 8: 8). فماذا حدث بعد أن رفع عنه الضربة وماتت الضفادع؟ يقول الكتاب:
"فَلَمَّا رَأَى فِرْعَوْنُ أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ الْفَرَجُ أَغْلَظَ قَلْبَهُ وَلَمْ يَسْمَعْ لَهُمَا، كَمَا تَكَلَّمَ الرَّبُّ" (خر 8: 15).
هناك إنسان إذا حدث الفرح، يمتلئ قلبه شكرًا ولسانه تهليلًا، ويزداد ارتباطًا بالرب وعِرفانًا بجميله. أما فرعون فكان على العكس: إذا حدث الفرج، ينسى وعوده للرب، وينسى الرب أيضًا وقوته ومعونته!
لذلك أحيانًا نرى الرب يدبر البعض ويسوسهم بالضيقات والمتاعب، لأنها تقودهم إلى التوبة، وتقربهم إليه...
بينما إذا بعدت عنهم التجارب، بعدوا هم أيضًا عن الله. فالتجارب هي صمام الأمن في علاقتهم مع الله...
أمثال هؤلاء يحيون بالخوف، ولم يصلوا إلى الحب بعد.
إنها قصة حية تكررت مِرارًا في سفر القضاة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. كان بنو إسرائيل، كلما تنعّموا أو عاشوا في راحة، يبتعدون عن الرب وعن عبادته. وكلما ضاقت بهم الحال، يرجعون إليه... (قض 2).
نعود إلى فرعون، فنلاحظ في ضربات الرب له، انه:
كان فرعون يزداد انسحاقًا، كلما ازدادت الضربات عليه.
ويظهر ذلك في كلامه ووعوده واعترافاته. فمن عبارة "صَلِّيَا لأَجْلِي" لعبارات أكثر انسحاقًا ومذلة...
فبعد ضربة البَرَد والمطر والرعود، نرى عباراته تتطوَّر، إذ يقول الكتاب: "فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ وَدَعَا مُوسَى وَهَارُونَ وَقَالَ لَهُمَا:
أَخْطَأْتُ هذِهِ الْمَرَّةَ. الرَّبُّ هُوَ الْبَارُّ وَأَنَا وَشَعْبِي الأَشْرَارُ. صَلِّيَا إِلَى الرَّبِّ، وَكَفَى.." (خر 9: 7، 8).
ولعل أحدهم يقول: ها هو الرجل يتطوَّر في انسحاقه واعترافه. تبقى بعد ذلك ضربة واحدة أو ضربتان، فيصل إلى الله ويتوب..! ولكن يبدو أنها كانت كلمات من الشفتين فقط، أما قلبه فمُبتعد بعيدًا. لذلك نرى الكتاب يقول: "وَلكِنْ فِرْعَوْنُ لَمَّا رَأَى أَنَّ الْمَطَرَ وَالْبَرَدَ وَالرُّعُودَ انْقَطَعَتْ، عَادَ يُخْطِئُ وَأَغْلَظَ قَلْبَهُ هُوَ وَعَبِيدُهُ" (خر 9: 34).
حقًا صدق الحكيم في قوله:
"إِنْ دَقَقْتَ الأَحْمَقَ فِي هَاوُنٍ... لاَ تَبْرَحُ عَنْهُ حَمَاقَتُهُ" (أم 27: 22).
وفي الضربات التالية، كان يبدو أن انسحاق فرعون يزداد... فيعد ضربة الجراد يقول الكتاب: "فَدَعَا فِرْعَوْنُ مُوسَى وَهَارُونَ مُسْرِعًا وَقَالَ: أَخْطَأْتُ إِلَى الرَّبِّ إِلهِكُمَا وَإِلَيْكُمَا. وَالآنَ اصْفَحَا عَنْ خَطِيَّتِي هذِهِ الْمَرَّةَ فَقَطْ، وَصَلِّيَا إِلَى الرَّبِّ إِلهِكُمَا لِيَرْفَعَ عَنِّي هذَا الْمَوْتَ" (خر 10: 16، 17).
وبعد أن رفع الرب الضربة، عاد فرعون إلى قسوته كما كان!
والعجيب في كل ذلك: أن الله العارِف بالمستقبل قبل أن يكون، كان يعرف أن وعود فرعون باطلة، ومع ذلك كان يستجيب لوعوده!!
إنه كان يعرف أن فرعون غير صادق في توبته، وغير جاد في وعوده وعهوده، وأنه يَعِد لمجرد الخوف وليس عن توبة، وأنه لن ينفذ حرفًا واحدًا مما قال. ومع ذلك كان الله يقبل منه التعهد، ويعطيه فرصة أخرى، وهو عارف بما في قلبه..!
حقًا ما أطيب الرب... وما أعمق طيبته..!
إنه طيب، مهما كان فرعون، الذي تكرر العبارات في الكتاب عن قسوته وغلاظة قلبه ورجوعه في مواعيده. وهكذا نقرأ كمثال:
فمثلًا في ضربة البعوض، بعد أن حاول العرافون بسحرهم أن يخرجوا البعوض فلم يستطيعوا "وقال العرافون لفرعون هذا إصبع الله ولكن اشتد قلب فرعون فلم يسمع" (خر 8: 18، 19).
وبعد ارتفاع ضربه الذبان، يقول الكتاب كذلك:
"ولكن أغلظ فرعون قلبه هذه المرة أيضًا" (خر 8: 32).
وبعد ضربة الوبأ على المواشي، يقول الكتاب كذلك "ولكن غلظ قلب فرعون، فلم يطلق الشعب" (خر 9: 7). وبعد ضربة الجراد اشتد قلبه أيضًا... يبدوا أن طبيعته كانت هكذا.
بعض الناس، الطيبة عندهم هي الأساس، والقسوة تكون حالة طارئة مؤقتة يندمون عليها، ويعودون إلي طيبتهم... أما فرعون، فقد كانت قساوة القلب عنده هي الأساس. أما انسحاق القلب، والاعتراف بالخطأ، وطلب الصلاة، فكانت حالات طارئة مؤقتة عنده، يدعوا أيها الخوف والسعي وراء المنفعة، وتزول بعد حين. ولم تكن توبة.
أما موسى فكان طيب القلب حقًا.
وما كانت قسوة فرعون، تجعل قلب موسى يتقسَّى. بل ظل يشفع في فرعون ويصلي لأجله، وهو عارف بتقلبه وقسوته وعدم تنفيذه لعهوده.
في كل مرة كان فرعون يطلب منه الصلاة لأجله، كان يصلي لأجله وهو عارف بان توبته غير صادقة... عجيب هذا الأمر! إن المثل يقول "لا يُلدغ مؤمن من جحر مرتين". وهوذا أنت يا موسى جربت هذا الجحر مرات عديدة. ومع ذلك فإن الطيبة التي في قلبك، كانت أعمق بكثير من الشر في قلب فرعون...
عجيب أن موسى الذي اضطهد فرعون شعبه، يتشفع في فرعون!
ويصلي لأجله مهما رجع في عهوده... ولكن القلب الطيب لا بُد هكذا يكون. وقد تعلم موسى من الله الذي قال عنه الرسول "أن كنا غير أمناء، فهو يبقى أمينًا" (2 تي 2: 13).
كانوا ثلاثة في هذه القصة: الله وموسى وفرعون...
الله طيب وموسى طيب، والشديد في الثلاثة هو فرعون!
الله سهل في التفاهم معه. وموسى سهل في التفاهم معه.
أما فرعون فهو الوحيد في الثلاثة، الصعب في التفاهم!!
من أجل هذا قال داود النبي عبارته المشهورة "أقع في يد الله، ولا أقع في يد إنسان. لأن مراحم الله واسعة" (2 صم 24: 14).
_____
(1) توضيح من الموقع: هذا مَثَل شهير، ومثله في الإنجليزية A fox is not taken twice in the same snare، وهو كذلك حديث في الإسلام.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/moses-pharaoh/harshness.html
تقصير الرابط:
tak.la/rzc84bk