المخافة تسبق المحبة وتستمر معها
كثيرون ينفرون من مخافة الله، ويتمسكون بالمحبة، دون أن يدركوا ما هي المخافة؟ وما هي المحبة؟ وما العلاقة بينهما. وأود أن أقول لكل منهم: حسن أن تتمسك بمحبة الله. ولكن لكي تصل إلى هذه المحبة، لا بُد أن تبدأ بالمخافة.
مخافة الله هي بدء الطريق، ونهاية هي المحبة.
وأنت لا تستطيع أن تبدأ الطريق من نهايته.
لذلك اسلك حسب المنهج الطبيعي الذي شرحه الكتاب فقال "بدء الحكمة مخافة الرب" (أم9: 10)، "رأس الحكمة مخافة الله" (مز111: 10).
بمخافة الله تتعود طاعة الوصية. أما محبة الله فهي نهاية الطريق وقمة العمل الروحي "بها يتعلق الناموس كله والأنبياء" (مت 22: 40). والذي يصل إليها، لا يحتاج معها إلى وصية أخرى. فهي تشمل كل الفضائل داخلها.
والإنسان الحكيم يبدأ الطريق من أوله، بالمخافة. ومخافة الله توصله إلى المحبة. فكيف ذلك؟
ما دام الإنسان يفعل الخطية، أو يشتهي الخطية، إذن فمخافة الله ليست في قلبه. إذن يبدأ بالمخافة، فيتوب، ويبعد عن الخطية مهما كانت محبتها لا تزال في قلبه، وينفذ الوصايا ولو بالتغصب. ويسلك في وسائط النعمة من صلاة وقراءة وتأمل وتسبيح... ولو من أجل الطاعة ما دام لم يصل بعد إلى الحب. ذلك لأنه في مرحلة "يشتهي فيها الجسد ضد الروح، والروح ضد الجسد، وهذان يقاوم أحدهما الآخر..." (غل5: 17).
والمبتدئ في حياة الروح لم يصل بعد إلى التحرر من الخطية، فهو يغصب نفسه على تركها، خوفًا من أن يغضب الله.
وخوفًا من أن يسقط، ويحزن روح الله، ويتعرض لعقوبته... ولكن الأمر لا يستمر هكذا.
فكلما ينفذ الوصايا، يجد فيها لذة، فيحبها.
يجد أن "وصية الرب مضيئة تنير العينين من بُعد" وأنها "تصيرّ الجاهل حكيمًا" (مز19).. "فيفرح بها كمن وجد غنائم كثيرة" (مز119). ويبدأ في محبة الخير، ويحب الوصية التي أرشدته والتي قادته إلى حياة النقاوة، وإلى حياة القداسة، وإلى الروحيات، التي تذوقها فأحبها.
وبمحبة الخير، يحب الله. وهكذا تكون المخافة جسرًا قد أوصله إلى محبة الله.
ويخطئ من يظن أنه يصل إلى محبة الله، دون العبور على مخافته. فالمخافة هي التي تُنقي القلب، وتؤهله لأن يكون مسكنًا للروح القدس. والروح القدس هو الذي يسكب فيه محبة الله (رو5: 5). وهكذا ينتقل من المخافة إلى الحب...
ولكن هذا التطور لا يأتي دفعة واحدة.
إنما قد يصل إليه بعد فترة طويلة من الجهاد ومن عمل النعمة فيه. وهو بهذا الجهاد وبهذا التغصب، إنما يثبت للرب مدى تمسكه به وتعبه من أجله. وإذ يرى الله جدية هذا الإنسان، يقول له "كفاك تعبًا". ويسكب محبته في قلبه ويريحه، من كفاح الخطية ومن خوف السقوط.
وعلى الرغم من وضوح هذا الطريق، إلا أن البعض يتمسكون في فهم خاطئ بقول القديس يوحنا الرسول:
"لا خوف في المحبة، بل المحبة الكاملة تطرح الخوف إلى خارج" (1 يو 4: 18).
ونحن نود أن نتأمل هذه العبارة ونحللها معًا، ونرى على أية درجة روحية تتكلم؟ وهل تتنافَى مع البداية بمخافة الله...
ولعل الرسول يتكلم عن الخوف بمعنى الرعب في يوم الدينونة، لأنه يقول بعدها مباشرة "لأن الخوف له عذاب"... كما قال القديس بولس الرسول: "مخيف هو الوقوع في يدي الله الحي" (عب 10: 31). ومع ذلك يليق بنا أن نسأل:
من الذي وصل إلى المحبة الكاملة التي تطرح الخوف إلى خارج؟ وما هي هذه المحبة الكاملة؟
قد يدعى إنسان أنه يحب الله، بينما يكون بعيدًا جدًا عن محبته. أما الاختبار الصحيح لمحبته، فهو هذا: هل هو يحفظ وصايا الله أم يكسرها ويخطئ؟
هوذا السيد الرب يقول "إن حفظتم وصاياي، تثبتون في محبتي... الذي عنده وصاياي ويحفظها، فهو الذي يحبني" (يو 15: 10) (يو 14: 21).. لذلك فمن غير المعقول أن يدعى إنسان أنه يحب الله، بينما يخالفه ويكسر وصاياه، ولا تكون له شركة معه!
ها هي عبارة واضحة يقولها القديس يوحنا الرسول:
"فإن هذه هي محبة الله: أن نحفظ وصاياه" (1 يو 5: 3).
← انظر كتب أخرى للمؤلف هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت.
ويقول الرسول أيضًا "من قال قد عرفته وهو لا يحفظ وصاياه، فهو كاذب وليس الحق فيه. وأما من حفظ كلمته، فحقًا في هذا قد تكملت محبة الله" (1 يو 2: 5، 4). إذن علينا أن نسعى أولًا إلى حفظ الوصايا. وهنا تلزمنا مخافة الله التي تمنعنا من ارتكاب الخطية، وتدفعنا إلى حفظ الوصية... ولا نخدع أنفسنا ونقول إننا وصلنا إلى محبة الله، بينما نحن نخطئ، ونحزن روح الله داخلنا (أف 4: 30).
أن الذي يخطئ، لا هو في درجة المحبة، ولا هو في درجة المخافة، إنه لم يبدأ الطريق الروحي بعد..!
ما دام يخالف الله، فهو لا يخافه ولا يحبه... وهو لا يزال يعيش في الظلمة، بعيدًا عن نور الله... والرسول يقول في صراحة "إن قلنا إن لنا شركة معه، وسلكنا في الظلمة، نكذب ولسنا نعمل الحق" (1 يو 1: 6)... والسلوك في الظلمة لا بُد يستدعى الخوف.
إذن إن كانت محبة الله، أن نحفظ وصاياه، فما هي إذن (المحبة الكاملة) التي تطرح الخوف خارجًا؟
الذي يصل إلى المحبة الكاملة، يكون قلبه على الدوام مشتعلًا بمحبة الله. وهذه المحبة تحرق في داخله كل شعور الخطية، بل أنه "لا يستطيع أن يخطئ" (1 يو 3: 9)... ومن الناحية الإيجابية نرى محبة الله تسيطر على كيانه كله، على قلبه، على فكره، وعلى وقته أيضًا. فيحب الله من كل قلبه ومن كل فكره، ومن كل نفسه، ومن كل قدرته (تث 6: 5) (مت 22: 37). ويتعلق فكره بالله، فيفكر فيه بالنهار والليل... هذا شيء من المحبة الكاملة. والذي وصل الله طبيعي أنه لا يخاف...
لا داعي لأن يستخدم البعض عبارة القديس أنطونيوس الكبير حينما قال لتلاميذه.
"يا أولادي أنا لا أخاف الله"...
فلما قالوا له "هذا الكلام صعب يا أبانا"، أجابهم "ذلك لأني أحبه. والمحبة تطرح الخوف إلى خارج"... وهنا اسأل: من منا وصل إلى درجة القديس الأنبا أنطونيوس في محبة الله؟!
هؤلاء القديسون العظام وصلوا إلى درجة عظيمة في عشرة الله، والدالة معه، وفي دوام الحديث معه، وتفريغ القلب من كل شيء، لكي لا يبقى فيه سوى الله وحده...
فهل ندعي لأنفسنا درجات القديسين التي ليست لنا؟! نردد أقوالهم، ونحن لسنا في مستواهم؟!
هل نحن قد وصلنا إلى الدرجة التي تحرق كل ما في القلب من شهوات الجسد والمادة، والتي فيها تتضاءل بل تختفي كل محبة أخرى تنافس محبة الله، حيث يزهد القلب كل شيء، ويحسب كل شيء نفاية إلى جوار محبة المسيح... الدرجة التي قال فيها القديس "جلست على قمة العالم، حينما أحسست في نفسي أني لا أشتهي شيئًا، ولا أخاف شيئًا". هل أنت كذلك؟ أوغسطينوس
أما إن كان لا يزال في قلبك شيء من محبة العالم وشهواته، فأنت لم تصل بعد إلى المحبة الكاملة نحو الله التي تطرح الخوف إلى خارج...
وإن كان القديس الأنبا أنطونيوس قد قال عبارته المشهورة، بعد عشرات السنوات من الخلوة في عشرة الله ومناجاته، فهل تضع نفسك في مستواه؟!
ومع ذلك فالقديس أنطونيوس تكلم عن مخافة الله.
قال القديس الأنبا أنطونيوس "كما أن الضوء إذا دخل إلى بيت مظلم، طرد ظلمته وأناره، كذلك خوف الله إذا دخل إلى قلب إنسان، طرد عنه الجهل، وعلمّه كل الفضائل والحكمة". وقال أيضًا "في كل موضع تمضى إليه، اجعل مخافة الله بين عينيك. وكل عمل تعمله ليكن لك عليه شاهد من الكتب". وهكذا نصح القديس تلاميذه بمخافة الله.
لا تقل إذن إنك قد وصلت إلى المحبة الكاملة التي تطرح الخوف خارجًا، إنما قل:
"أنا أريد يا رب أن أحبك. ولكني لم أصل بعد إلى هذه المحبة الكاملة. امنحني إياها... أنا أسلك في المخافة، وأنت تمنحني المحبة".
ألم تقل "كنت أمينًا في القليل، فسأقيمك على الكثير" (مت 25: 21). ليتني إذن أكون أمينًا في القليل الذي هو المخافة، ولا أعصى وصاياك. وأنت تدربني على الحب، بل تسكبه في قلبي بروحك القدوس...
وحتى المخافة لا أستطيع أن أصل إليها بدونك.
ألست أنت القائل "بدوني لا تقدرون أن تعملوا شيئًا" (يو 15: 5) نعم، لا نقدر أن نعمل القليل ولا الكثير، بدونك. إذن علمني يا رب أن أبدأ الطريق معك. ساعدني أن أصل إلى مخافتك، فأحيا في طاعتك. وأكون أمينًا في هذه الطاعة وفي هذه المخافة. وحينئذ سوف تعطيني المحبة، كعطية مجانية من عندك.
والمخافة هي الأساس المتين الذي نبني عليه المحبة. وهو الذي يحفظها من السقوط والنكسة.
لأن الرب يقول لملاك كنيسة أفسس "عندي عليك أنك تركت محبتك الأولى" (رؤ 2: 4). والرسول القديس بولس ذكر أن أهل غلاطية: بعد أن بدأوا بالروح، كملوا بالجسد (غل 3: 3)... ولماذا كملوا بالجسد، إلا لأن مخافة الله لم تكن أمامهم.
المخافة إذن هي الأساس القوي الذي يحمي من النكسة. ولذلك فإن ملاك كنيسة أفسس الذي ترك محبته الأولى، عالجه الرب المخافة، فقال له "وإلا فإني آتيك عن قريب، وأزحزح منارتك من مكانها، إن لم تتب" (رؤ 2: 5).
إن المحبة هي الوضع الأصلي، يمكن أن تفقده بالخطية، ولكن تعيدنا إليه المخافة...
إذن هي وقاية علاج. هي وقاية من الخطية تمنعنا من ارتكابه. فإن كانت شهوة الخطية فينا أقوى من مخافة الله وسقطنا، وبالتالي بعدنا عن المحبة. تأتي مخافة الله مرة أخرى فتقيمنا من سقطتنا بالتوبة. وبنفس المخافة نسعى إلى مصالحة الله لنعود إلى محبته...
يبقى بعد ذلك كل سؤال هام وهو:
هل إذا وصلنا إلى المحبة، تنتهي علاقتنا بالمخافة تمامًا؟
كلا... وكيف ذلك؟
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/pope-sheounda-iii/fear-of-god/love.html
تقصير الرابط:
tak.la/7pmmy8y