لم يتبن الكتاب المقدس أو التعاليم المسيحية فكرًا اقتصاديًا بعينه، وذلك لسبب بسيط هو أن الكتاب المقدس ليس كتاب اقتصاد. بل كتاب سماوي يهدف إلى خلاص دائم أبدى لكل نفس بشرية، مع حياة أرضية يملؤها الحب والسلام.
إن الكتاب المقدس فيه من التعاليم، ما يمكن اعتباره فكرًا اقتصاديًا رأسماليًا، حيث يمكن أن ترى فيه ما يدل على الملكية الخاصة منذ بداية الخليقة وعصر الأنبياء، وهذا أمر طبيعي ومقبول خاصة مع عدم وجود دولة بالمعنى المتعارف عليه، وقد استمر هذا الحال تقريبًا حتى عهد السيد المسيح له المجد، وحتى الآن.
ويعتقد المؤلف أن أول ظهور للفكر الاشتراكي الاقتصادي كان مصاحبًا لعصر الرسل، حيث كانت بعض مظاهر الملكية الجماعية في أيام الكنيسة الرسولية الأولى.. وعليه فإن المؤلف سيتناول هذا المبحث من خلال الحديث عن:
1- المسيحية.. والفكر الرأسمالي.
2- المسيحية.. والفكر الاشتراكي.
إن الأصل في الملكية هو الملكية الخاصة. فمنذ أوجد الله الإنسان وأوصاه أن يُثمر ويُكثر ويتسيد على كل ما في الأرض والبحر، بدأت الملكية الخاصة. وتجد هذا الأمر واضحًا في قصص الآباء الأولين إبراهيم وابن أخيه لوط، وإسحق، ويعقوب. فالتعاليم الكتابية والمسيحية أسست لاحترام الملكية الخاصة طالما كانت لها معايير وضوابط روحية وأخلاقية تنظمها، حتى لا تتجمع مقدرات الشعب في يد مجموعة قليلة من الناس ويتسلطون عليه.
ومع ظهور التجمع اليهودي الكبير – بعد الخروج من أرض مصر - أوصى الرب الإله يشوع أن يعبر أمام الشعب للدخول إلى أرض الميعاد وتقسيم الأرض التي يراها. كما أعطاهم الرب شرائع سمائية تنظم الكثير من العلاقات الروحية والحياتية والاجتماعية، من حيث: العبادة لله، مكان الطعام، الأطعمة الطاهرة والأطعمة النجسة، تحرير العبيد، أبكار الغنم والبقر، الأعياد، تعيين القضاة، السلطة القضائية، الذبائح، الزواج، الأبناء، الموازين والمكاييل، باكورة الثمار والعشور، وشرائع أخرى كثيرة خلال كل إصحاحات سفر التثنية. كما تم تقسيم الأراضي طبقًا للوصية الكتابية على أسباط إسرائيل الاثني عشر (إصحاحات 13، 14 بسفر يشوع).
ويستمر الكتاب المقدس خلال كل أسفاره المقدسة في وضع المعايير الروحية والإيمانية والأخلاقية، التي يجد فيها كل من يعتنق الفكر الاقتصادي الرأسمالي، احترامًا لفكره - دون تبنى نظامًا اقتصاديًا بعينه – ولكن بضوابط تحكم وتقيد تطرف أو جنوح السوق الحُر ناحية: الاحتكار، الاستغلال، الربا، الغش، الكذب، التدليس، السيطرة المُطلقة لرأس المال..إلخ.
من جهة أخرى نحن نعلم أن الأصل في النظام الاقتصادي الرأسمالي هو الملكية الخاصة، مع حد أدنى للملكية العامة تتمثل في حقوق الدولة تجاه الأفراد – مقابل توفير مناخ مناسب للاستثمار والدفاع والحماية – في الضرائب والجمارك وبعض الرسوم الأخرى.. إلخ. ويلاحظ أنه عندما قام الفريسيون بسؤال السيد المسيح بكل مكر ودهاء: "ماذا تظن؟ أيجوز أن يُعطى جزية لقيصر أم لا؟ أجاب يسوع: "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله" (مت 22: 15 - 21). وتعنى هذه القصة أن الرب يسوع – لا يسعى إلى مُلك أرضى لأن مملكته ليس من هذا العالم – لا يرفض أو يعترض على النظام السياسي والاقتصادي القائم.
وفي مثل الوزنات الذي ذكره الرب يسوع قد جاء: "أن مُسافرًا قد أعطى - عند سفره - أحد عبيده خمس وزنات وآخر وزنتين وثالث وزنة واحدة (كل واحد على قدر طاقته)، ولما عاد وسأل عبيده عن الوزنات فوجد أن الأول قد تاجر وربح خمس وزنات أخرى، والثاني قد ربح وزنتين أخريتين، بينما العبد الثالث – غير الأمين – قد قام بدفن الوزنة بالأرض. وكنتيجة لذلك قام المسافر (المالك) بمعاقبة العبد الثالث وتوبيخه وأخذ الوزنة منه، في حين قد كافأ كل من العبد الأول والثاني بمضاعفة وزناتهما". (مت 25: 14-30). وبعيدًا عن المعنى الروحي للمثل فإن المؤلف يرى أن به تشجيعًا ضمنيًا على التجارة والاستثمار والعمل الحر (متطلبات الفكر الرأسمالي).
عرفت الكنيسة الأولى الفكر الاقتصادي الاشتراكي في بعض جوانبه، قبل أن تعرفه الشعوب بحوالي 2000 سنة تقريبًا(5)، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. وللتدليل على وجهة نظر المؤلف تأملوا معنى الكنيسة الرسولية الأولى بسفر أعمال الرسل: "وجميع الذين آمنوا كانوا معًا، وكان عندهم كل شيء مشتركًا. والأملاك والمقتنيات كانوا يبيعونا ويقسمونها بين الجميع، كما يكون لكل واحد احتياج" (أع 2: 44، 45). وتكملة لنفس المنظومة الروحية تأملوا أيضًا هذه الآيات:
"وكان لجمهور الذين آمنوا قلب واحد ونفس واحدة، ولم يكن أحد يقول إن شيئًا من أمواله له، بل كان عندهم كل شيء مشتركًا. وبقوة عظمية كان الرسل يؤدون الشهادة بقيامة الرب يسوع، ونعمة عظيمة كانت على جميعهم، إذ لم يكن فيهم أحد محتاجًا، لأن كل الذين كانوا أصحاب حقول أو بيوت كانوا يبيعونها، ويأتون بأثمان المبيعات، ويضعونها عند أرجل الرسل، فكان يوزع على كل أحد كما يكون له احتياج" (أع 4: 32-35).
توضح الآيات صراحة – طبقًا لنصوصها – أن المؤمنين:
- قد باعوا كل ممتلكاتهم الخاصة ووضعوا أثمانها عند أرجل التلاميذ والرسل.
- قد قبلوا أن يتولى إدارة كل أمورهم مجموعة التلاميذ والرسل، لتسيير وتدبير كل شئونهم الحياتية والمعيشية الروحية، والدنيوية خاصة الاقتصادي منها.
- قد قبلوا أن يتم توزيع ثمن الممتلكات طبقًا لحاجات المؤمنين. (وقد كان هناك حوالي 6 طرق أخرى عادلة يمكن استخدامها في توزيع أثمان تلك الممتلكات).
إن المظاهر السابقة تُعبر عن المعنى النقي للملكية العامة. فرأس المال والأملاك – هنا – يملكها كل المؤمنين، ويديرها من يختاروه منهم. وبهدف تحقيق الإشباع العام الروحي والجسدي لجميع المؤمنين. أما عن الملكية العامة للدولة فلم تنطبق على حالتنا هذه لعدم وجود دولة بمفهوم اليوم، ولا كانت الكنيسة في يوم من الأيام تسعى لذلك، ولهذا لا يمكن التأكيد على كيف كانت ملكية عوامل الإنتاج، وإن كان الرأي الأرجح أن كل شيء كان مشتركًا. أما عن منفعة عوامل الإنتاج فكما يقول الكتاب المقدس: "منفعة الأرض للكل. الملك مخدوم من الحقل" (جا 5: 9).
وحيث أن النظام الاقتصادي الاشتراكي يعمل في ظل سوق موجه أو مخطط له، من حيث أولويات الإنتاج وتكاليفه، ومن ثم أنواع السلع والخدمات المنتجة وأسعارها.. إلخ. الأمر الذي يمكن أن يترتب عليه بعض المساوئ، مثل: تقييد حرية المشروعات الخاصة بأنواعها، بالإضافة إلى انعدام الدافع الابتكاري لدى الأفراد في ظل النظام الاشتراكي.. وما قد يترتب على ذلك من قتل روح الإبداع والابتكار والتميز لدى العاملين، والأثر السلبي لذلك على جودة المنتجات من السلع والخدمات. وحيث أنه في تعاليم الكتاب المقدس كل حياة روحية ودنيوية، فسوف نجد فيها كل الحماية لكل أفكارنا وتصرفاتنا حتى لو كانت مساوئ أو عيوب لنظام اقتصادي.
فمثلًا يمكن تجنب الكثير من الاعتراضات السابقة من خلال التعاليم المسيحية الكثيرة – التي يصعب حصرها – والتي تحذرنا من الكسل والتراخي والفتور والتردد وعدم التجويد أو إتقان العمل.. إلخ.، من خلال بعض الشواهد الكتابية التي نختار منها: "أذهب إلى النملة أيها الكسلان: تأمل طرقها وكن حكيمًا. التي ليس لها قائد أو عريف أو متسلط، وتعد في الصيف طعامها، وتجمع في الحصاد أكلها" (أم 6: 6-8). "العامل بيد رخوة يفتقر، أما يد المجتهدين فتغنى" (أم 10: 4). "أنا عارف أعمالك، أنك لست باردًا ولا حارًا. ليتك كنت باردًا أو حارًا" (رؤ 3: 15). "فمن يعرف أن يعمل حسنًا ولا يعمل، فذلك خطية له" (يع 4: 17). أما فيما يتعلق بتقييد حرية العمل أو المشروعات الخاصة، فالمسيحية ترفض ذلك تمامًا، وقد رأينا في مثل الوزنات أحد الأمثلة العملية للتدليل على ذلك.
وأخيرًا. يؤكد المؤلف أن التعاليم الكتابية والمسيحية لا تتبنى شكل اقتصادي بعينه، ولا تسعى إلى ذلك لأنه خارج نطاق هدفها الخلاصي، فكما رأينا فأن التعليم المسيحية تجمع بين أكثر من شكل اقتصادي. وبناء على ما تقدم فأنه يمكن لأي دولة اختيار العمل بالنظام الاقتصادي المناسب لها سواء كان رأسمالي أو اشتراكي أو الجمع بينهما، أو حتى أن نظام اقتصادي آخر بشرط أن يكون للبنيان الروحي والمادي.
(5) وإن كانت الإشارة إلى مفهوم الاستثمار بالمشاركة من منظور أخلاقي عادل قد جاءت بالكتاب المقدس في قصة سيدنا يوسف بسفر التكوين (47: 13-26). حيث كان سيدنا يوسف يوزع الأرض الزراعية الخاصة بالملك على الفلاحين ليزرعوها بالإضافة إلى بعض مستلزمات الزراعة، في مقابل اقتسام ناتج الأرض بنسبة (1/5) للملك، و(4/5) للفلاحين.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/nagy-gayed/christian-economics/schools.html
تقصير الرابط:
tak.la/64pv45d