يُفضل المؤلف عند الحديث عن عوامل الإنتاج تقسيمها إلى: عوامل إنتاج ملموسة وهي المتعارف عليها والتي انتهينا من شرحها بالتفصيل خلال الصفحات السابقة، وعوامل إنتاج غير ملموسة والتي لم يتناولها من قبل أي كتاب آخر.
وعوامل الإنتاج غير الملموسة هي عوامل غير مرئية في المنتج النهائي في المجال السلعي، ولكنها أساسية جدًا ولا يمكن الاستغناء عنها، الأمر الذي يحتم توافرها حتى يمكن الحصول على درجات مرتفعة من الإنتاجية. أما في المجال الخدمي فدورها حيوي جدًا سواء على مستوى إنتاج الخدمة، أو على مستوى جودتها.
ويرى المؤلف أن عوامل الإنتاج غير الملموسة التي يجب الاعتماد عليها في أي عمل إنتاجي تتمثل في ثمر الروح الذي تكلم عنه بولس الرسول: "أما ثمر الروح فهو: محبة فرح سلام، طول أناه لطف صلاح، إيمان وداعة تعفف" (غل 5: 22، 23). وسوف يكتفي المؤلف بالمجموعة الأولى فقط وهي (المحبة الفرح السلام). وقد يتساءل البعض كيف لنا أن نستخدم بعضًا من ثمر الروح كمدخلات إنتاجية أرضية؟.. بمعنى أن ثمر الروح هو نتاج مقدس سامي يتحقق نتيجة لجهد وسهر روحي، ولا يليق استخدامه أو التعامل به مع أي عمل أرضى حتى لا يقلل من سموّه وقيمته الروحية.
والإجابة ببساطة أنه مع الاعتراف التام بأن ثمر الروح هو نتاج سامي (مخرجات) لجهاد الإنسان الروحي.. إلاّ أن ذلك لا يمنع من أن الامتلاء أو التحلي به في معاملاتنا الأرضية لا يقلل أبدًا من قيمة وهيبة وسمو هذا الثمر، حيث أننا لا نساوى إطلاقًا – طبقًا للمفاهيم المادية – بين ثمر الروح وعوامل الإنتاج الملموسة. ولكن كل ما نعنيه هو ضرورة توافر المحبة والفرح والسلام عند تعامل أعضاء العنصر البشرى مع بعضهم البعض عند إنتاج السلع المادية، أو عند تعاملهم مع المستهلكين عند إنتاج الخدمات الدنيوية، مما ينعكس بالإيجاب على كم وكيف الإنتاج السلعي والخدمي، من خلال تواجد عمل الله وتنامي نعمته وبركته في كل أعمال أيدينا، فيروا الناس أعمالكم الصالحة فيمجدوا أباكم الذي في السموات، الأمر الذي تُترجم معه الوصية الكتابية الإلهية.
لكل ما سبق سوف يتناول المؤلف هذا الجزء من خلال العناصر التالية:
1- المحبة.
2- الفرح والسلام.
"الله محبة" (ا يو 4: 16)
تأمل هذه الآية بقلبك وليس بعقلك، فالعقل المحدود قد لا يستوعب المعنى غير المحدود لمفهوم أو معنى المحبة التي تحمله الآية. فالمؤلف يرى – طبقًا لتفسيره الروحي غير المتخصص – أن الآية قد ساوت ضمنيًا أو مجازًا بين الله غير المحدود في القداسة والصفات الإلهية، وبين المحبة إحدى صفاته وصنائعه. الأمر الذي يُضفى على قيمة (المحبة التي للرب الإلهة وحده) صفة عدم المحدودية والقداسة والسمو. إن الغرض من هذا التفسير هو التأكيد على أن الله غير المحدود هو الذي يستطيع أن يحب هذا الحب غير المحدود، والذي تجلى في تجسد الرب يسوع وإتمامه للفداء من أجل كل نفس بشرية. من قبل الرب صار هذا، وهو عجيب في أعيننا.
وعلى المستوى الدنيوي أو المادي.. تعكس الآية السابقة مدى سمو المحبة وأهميتها في تغيير الأفراد والشعوب، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. لأن المحبة التي نقصدها طبقًا للمفهوم الموسع للمحبة هي المحبة الإيجابية البناءة، لا المحبة السلبية أو النظرية التي تُرفع كشعارات. وقد تبنى المؤلف في كتاب سابق له المحبة كفلسفة إدارية، فقد نادى بما سماه فلسفة "الإدارة بالمحبة".. حيث يرى المؤلف إن المحبة هي فلسفة الإدارة التي يجب أن يؤمن بها ويستشعرها المجتمع الداخلى للمنظمة وتعيشها عناصر المجتمع الخارجي المحيط بها. والمحبة كفلسفة إدارية يمكن أن تنتهجها كل المنظمات الإنتاجية أو الخدمية. "لتصر كل أموركم في محبة" (1 كو 16: 14).
ولكن كيف يمكن ترجمة المحبة (عمليًا) لتكون إحدى المُدخلات الإنتاجية غير الملوسة؟
يمكن ترجمة المحبة إلى مدخلات إنتاجية من خلال ترجمتها إلى سلوك إيجابي على مستوى الفرد نفسه، وبين الفرد وزملائه في الوحدات الإنتاجية (السلعية) أو الخدمية، وبين العاملين بالوحدات الإنتاجية الخدمية ومستهلكي هذه الخدمات. فالمحبة تساعد على تفجير طاقات فسيولوجية إيجابية هائلة داخل الإنسان نفسه، يمكن توجيهها إنتاجيًا بما يحقق نتائج قد تفوق كل التوقعات، وهذا ما تثبته الدراسات الحديثة في هذا المجال.
وعلى جانب آخر، يرى المؤلف أنه مع انتشار حالة الحب بين العاملين، تنعدم حالة الصراع الداخلى ومن ثم زيادة درجة التوازن في العلاقات بين هؤلاء العاملين، فزيادة ارتفاع الحالة المعنوية، فارتفاع درجة التوافق بين العاملين وبعضهم، فاستخراج كل الطاقات الكامنة والقوى الخفية لديهم. والأثر الإيجابي لكل ذلك على رفع الكفاءة الإنتاجية للعاملين وتقليل حجم الإنتاج التالف أو العادم.. وهنا قد يتشكك البعض في إمكانية تحقيق حالة الحب السائدة بين العاملين لكل هذه النتائج الإيجابية.. ولهؤلاء المتشككين نؤكد مع بولس الرسول على أن: "المحبة تتأنى وتترفق. المحبة لا تحسد. المحبة لا تتفاخر، ولا تنتفخ، ولا تقبح، ولا تطلب ما لنفسها، ولا تحتد، ولا تظن السوء، ولا تفرح بالإثم بل تفرح بالحق، وتحتمل كل شيء، وتصدق كل شيء، وترجو كل شيء، وتصبر على كل شيء. المحبة لا تسقط أبدًا" (1كور 13: 4-8).
وتزداد أهمية مجموعة ثمر الروح محل الدراسة (المحبة الفرح السلام) إلى أقصى حد لها وذلك عند إنتاج وتسويق الخدمات، خاصة تلك التي يصاحب إنتاجها أو تقديمها التعامل لفترات طويلة مع جمهور المستهلكين، كالخدمات السياحية أو الترفيهية أو العلاجية أو التعليمية أو الدينية أو حتى المصرفية، الأمر الذي يزيد من ضرورة وحتمية الاهتمام بعناصر المحبة والفرح والسلام من قبل مقدمي الخدمات، ولاسيما الذين يتعاملوا مباشرة (في المواجهة) مع العملاء والمستهلكين، وذلك لتحقيق درجة جودة مرتفعة في الخدمات المقدمة.
إن الدراسات الحديثة في مجال قياس وتقييم جودة الخدمات أثبتت أن المستهلك أو المستفيد من الخدمة يشترك بنسبة ما في إنتاج الخدمة التي يستهلكها، وذلك من خلال مدى استجابة المستهلك لجودة الخدمة المقدمة له وحكمه عليها بالإيجاب أو السلب، وبالتالي درجة رضاه أو عدم رضاه عنها، خاصة في ظل المنافسة الشديدة التي يشهدها سوق الخدمات اليوم. وعليه فإنه كلما أحس المستهلك بدرجة مرتفعة من الحب فيما يُقدم إليه من خدمات، كلما ارتفعت درجة استجابته ورضاه عن الخدمة، الأمر سوف ينعكس بالإيجاب على تكرار تعامل المستهلك مع نفس الخدمة ومع نفس المنظمة المقدمة لها.
تهتم التعاليم المسيحية بعنصر السلام بدرجة كبيرة.. ولما لا.. وإلهنا القدوس هو: "رئيس السلام" (أش 9: 6)، وهو: "صانع السلام" (أش 45: 7). ولذلك فإن ملك السلام ترك سلامه لتلاميذه في حديثه الوداعي، حين قال: "سلامًا أترك لكم، سلامي أنا أعطيكم. ليس كما يعطى العالم أعطيكم، لا تضطرب قلوبكم ولا ترهب" (يو 14: 27). كما يُعلمنا الرب يسوع أيضا في الموعظة على الجبل: "طوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يدعون" (مت 5: 9).
كما أن الآيات التي تدعونا أو توصينا بالفرح كثيرة سنختار منها: "أفرحوا في الرب كل حين، وأقول أيضًا: أفرحوا" (في 4: 4). "فرحين في الرجاء" (رو 12: 12). وهنا يجب ملاحظة أن العلاقة بين السلام والفرح علاقة سببية تبادلية. بمعنى أن السلام يؤدى إلى الفرح، كما أن الفرح يؤدى إلى السلام. هذا وتهتم الكنيسة القبطية اهتماما كبيرًا بعنصريّ السلام والفرح في كل صلواتها وقداساتها وطقوسها. حيث لا تخلو صلاة تقريبًا من طلب السلام أو الفرح للناس في جميع حالتهم، أو للطبيعة، أو للنباتات والزروع، أو للدواب والحيوانات.. إلخ..
إن السلام والفرح الروحي المشار إليهم بالآيات سوف ينعكسا على فرح وسلام الإنسان الداخلى، مما يساعد على إحلال القيم والقناعات المشتركة للعاملين (بدلًا من الشخصية). "لا يكن بينكم شيء بروح التحزب والافتخار الباطل، بل بالتواضع ليعتبر كل واحد منكم غيره أفضل كثيرًا من نفسه، مهتمًا لا بمصلحته الخاصة بل بمصالح الآخرين أيضًا" (في 2: 3، 4). إن زيادة درجة السلام الداخلى للعاملين ومن ثم درجة الرضا الداخلى لهم، سيؤثر دون أدنى شك على زيادة درجة التعاون بين العاملين وبناء روح الفريق. كما قد يؤثر بالإيجاب أيضًا على مهارة وكفاءة العاملين، وعليه تكون المحصلة النهائية للنتائج المترتبة على سلام وفرح الفرد، زيادة أكيدة في كمية الوحدات السلعية المنتجة وعلى جودتها. من جهة أخرى تزداد أهمية السلام والفرح بشكل كبير عند إنتاج وتقديم المنتجات الخدمية، كما أوضحنا من قبل.
وختامًا. فإن ثمر الروح من محبة وفرح وسلام لا ينعكس أثره على الإنتاج الملموس من السلع والخدمات فقط.. بل ينعكس أيضًا على الإنتاج غير الملموس والمتمثل في الاسم التجاري أو السمعة التجارية للمنظمة عند المستهلكين، وفي تحقيق المزيد من المحبة والفرح والسلام للعاملين كمتواليات.. إلخ. وسيتناول المؤلف هذا الجزء بالتفصيل عند الحديث عن الإنتاج والإنتاجية.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/nagy-gayed/christian-economics/intangible.html
تقصير الرابط:
tak.la/49hzdjz