س65: هل السيد المسيح نال الترقية والمجد من الله الآب بعد موته على الصليب بدليل قول الإنجيل " وإذ وُجِد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب. لذلك رفَّعه الله أيضًا وأعطاه اسمًا فوق كل اسم" (في 2: 8، 9)؟
ج : هناك تعبيرات جاءت في الإنجيل تخص ناسوت السيد المسيح مثل قول الإنجيل " رفَّعه الله " أو " أقامه من الأموات " أو " مسحه الله " فهو كإنسان حُبل به في البطن تسعة أشهر، وكإنسان وُلِد كطفل وكإنسان كان ينمو قليلًا قليلًا شبه البشر، وكإنسان مُسِح من الروح القدس، وكإنسان أكل وشرب وتعب ونام وتألم وصلب ومات وقبر... أما من جهة اللاهوت فهو الإله المنزَّه عن كل هذه الأمور الجسدية، والسيد المسيح لشدة محبته لنا شابهنا في كل شيء ما خلا الخطية وحدها، ولم يسمح للاهوت أن يرفع إحساس التعب والألم عن الناسوت، ونستطيع أن نقول أن اللاهوت أتحد بالناسوت ولكن بدون اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير، فاللاهوت ظل لاهوتًا بكل خصائصه الإلهية، والناسوت ظل ناسوتًا بكل خصائصه الإنسانية، وفي السيد المسيح رأينا خصائص اللاهوت وخصائص الناسوت في آن واحد... رأيناه يرضع اللبن ويمنح الحياة... العذراء ترعاه والمجوس يسجدون له... يجوع وهو الذي يُشبع الكل من رضاه... يعطش وهو الينبوع الذي يروي العطشان... يتعب من السفر وهو يريح التعابى... يحزن ويكتئب وهو فرح نفوسنا... يموت وهو القيامة والحياة (راجع كتابنا أسئلة حول التثليث ص 276 - 279).
ويؤكد القديس أثناسيوس أن تعبيرات الإنجيل السابق ذكرها إنما تخص ناسوت المسيح وليس لاهوته، فيقول "جيد لنا أن نستمع إلى الطوباوي بطرس لأنه شاهد موثوق فيه عن المخلص، فهو يكتب في رسالته هكذا {فإذ قد تألم المسيح لأجلنا بالجسد} (1 بط 4: 1) لذلك فحينما يقال عنه أنه يجوع، وأنه يعطش، وأنه يتعب، وأنه لا يعرف، وأنه ينام، وأنه يبكي، وأنه يسأل... فينبغي أن يُقال في كل حالة من هذه الحالات أن (المسيح) عندما يجوع ويعطش فإنه يفعل هذا بالجسد لأجلنا، وعندما يُقال أنه لم يعرف وأنه لُطِم وأنه تعب، فإنه فعل هذه بالجسد لأجلنا... وكذلك عندما قال "إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس" (مت 26: 39) وعندما يُقال أنه ضُرب وأنه أُخذ، فإن كل هذه كانت بالجسد لأجلنا، وعلى وجه العموم فكل مثل هذه الأمور هي بالجسد لأجلنا، ولهذا السبب قال الرسول نفسه أن المسيح عندما تألم، لم يتألم بلاهوته، بل لأجلنا بالجسد... لذلك لا ينبغي أن يعثر أحد بسبب الأمور الإنسانية بل بالحري فلنعرف أن الكلمة نفسه بالطبيعة هو غير قابل للتألم، ومع ذلك فبسبب الجسد الذي لبسه تقال عنه هذه الأمور، حيث أنها أمور خاصة بالجسد، والجسد نفسه خاص بالمخلص، فبينما هو نفسه غير قابل للتألم بالطبيعة، ويظل كما هو دون أن يؤذيه هذه الآلام" (100). وهكذا بسبب الإتحاد الكامل بين اللاهوت والناسوت فإننا ننسب كل أعمال الناسوت للإله المتأنس، فنقول بضمير مستريح إن الله بيَّن محبته لنا إذا مات عنا، وفي هذا نحن نعلم إن اللاهوت لا يموت ولكن السيد المسيح مات بالجسد، وهذا أمر مقبول عقليًا ومنطقيًا، فمثلًا رغم إن الإنسان مكوَّن من جسد وروح، والروح تسمو فوق كل الأمور الجسدية، لكن عندما يأكل الإنسان أو يشرب أو يبكي أو يضحك أو ينام أو يموت فإننا لا نقول جسد فلان هو الذي فعل كل هذا، إنما نقول أن فلان هو الذي فعل هذا.
ونعود إلى الفكر الأريوسي الذي تعلَّل بقول الإنجيل إن الله رفَّع السيد المسيح وأعطاه اسمًا فوق كل اسم بسبب موته على الصليب، ونترك الآباء القديسين يردون على هذا الفكر، فيقول القديس أثناسيوس عن السيد المسيح " لو كان موجودًا ثم رقى فيما بعد، فكيف خُلقت كل الأشياء بواسطته، وكيف يفرح به الآب لو لم يكن كاملًا بعد (أم 9: 30) ومن الناحية الأخرى، إن كان هو قد ترقى الآن، فكيف كان يبتهج أمام الآب قبل أن يترقى... وإن كان قد حصل على العبادة بعد موته، فكيف يظهر إن إبراهيم يسجد له في الخيمة، وموسى يسجد له في العليقة، وكيف رأى دانيال {ربوات وألوف ألوف يخدمونه} (دا 7: 10) وإن كان -كما يقولون- قد حصل على الترقي الآن، فكيف يشير الابن نفسه إلى مجده الذاتي الذي يفوق الطبيعة، والذي كان له قبل إنشاء العالم عندما قال {مجدني أنت أيها الآب بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم} (يو 17: 5) وإن كان حسبما يقولون قد مُجّد الابن مجدًا عاليًا فكيف "طاطأ السموات" ونزل قبل ذلك، وأيضًا "أعطى العلي صوته" (مز 18: 9، 13) لذلك فإن كان للابن ذلك المجد حتى قبل خلقة العالم، وكان هو رب المجد وهو العلي ونزل من السماء، وهو يعود على الدوام، فينتج منه ذلك أنه لم يترقَ بنزوله، بل بالأحرى هو نفسه الذي رقى الأشياء التي يعوزها الترقي. وإن كان قد نزل من أجل ترقيتها، لذلك فإنه لم يحصل على اسم ابن وإله كمكافأة... ولذلك فهو لم يكن إنسانًا ثم صار فيما بعد إلهًا. بل كان إلهًا وفيما بعد صار إنسانًا" (101).
ويستكمل القديس أثناسيوس حديثه موضحًا أن التجسد حالة إخلاء للابن وليس ترقية، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام أخرى. فيقول " أية أقوال أوضح وأكثر بيانًا من هذه الأقوال؟ إن الرب لم يكن أصلًا في حالة وضيعة ثم رقىَّ بل بالأحرى إذ كان إلهًا فقد اتخذ صورة عبد، وباتخاذه صورة العبد لم يرقى بل أذل (وضع) نفسه... إذًا أي تقدم أو ترقي يمكن أن يكون في الإذلال؟ لأنه إن كان هو وهو الإله قد صار إنسانًا وبتنازله من علوه لا يزال يقال أنه يرفَّع. فمن أين يرفّع وهو الله، ويتضح من هذا أيضًا، أنه بما إن الله هو الأعلى والأكثر رفعة من الكل، فبالضرورة أيضًا، أن يكون كلمته هو الأعلى والأكثر رفعة فوق الكل. وهذا الذي هو في الآب ومثل الآب في كل شيء، من أين إذًا يمكنه أنه يُرفع عاليًا أكثر من ذلك؟ إذا فهو ليس في حاجة إلى أي ازدياد، وليس الأمر كما يفهمه الأريوسيين لأنه وإن كان اللوغوس قد نزل من أجل أن يُرفَّع عاليًا -وهكذا هو مكتوب- فأية حاجة كانت هناك على الإطلاق تدفعه لأن ينزل نفسه لكي يسعى للحصول على ذلك الشيء الذي كان لديه أصلًا؟ وما هي النعمة التي ينالها واهب النعمة؟ أو كيف نال هو الاسم للعبادة وهو الذي كان دائمًا معبودًا باسمه" (102).
وأيضًا يقول القديس أثناسيوس أن مجد المسيح ورفعته بعد الموت إنما كانت لأجلنا نحن " أنه كإنسان مُجّد أيضًا نيابة عنا ومن أجلنا، لكي كما بموته قد متنا جميعًا في المسيح. وعلى نفس المنوال أيضًا. فإننا في المسيح نفسه أيضًا قد مُجّدنا مجدًا عاليًا، مقامين من بين الأموات، وصاعدين إلى السموات {حيث دخل يسوع كسابق لأجلنا} (عب 6: 20) {لا إلى أقداس أشباه الحقيقية. بل إلى السماء عينها ليظهر الآن أمام وجه الله لأجلنا} (عب 9: 24) فإن كان المسيح قد دخل الآن إلى السماء عينها لأجلنا، رغم أنه من قبل هذا الحدث، كما هو دائمًا الرب وخالق السموات، فتبعًا لذلك تكون هذه الرفعة الحالية قد كُتبت أيضًا من أجلنا نحن.
وكما أنه وهو الذي يُقدّس الجميع، فيقول أيضًا أنه يُقدّس نفسه للآب من أجلنا، بل لكي بتقديس ذاته يقدّسنا جميعًا من ذاته. وهكذا بنفس المعنى ينبغي أن نفهم ما يقال الآن أنه "تمجَّد" ليس لكي يمجد هو نفسه. بل لكي هو ذاته {يصير برًا} من أجلنا، أما نحن فلكي نتمجَّد (نُرفَع) فيه ولندخل إلى أبواب السماء التي قد فتحها هو ذاته من أجلنا...
وهكذا أيضًا فإن عبارة {أعطاه اسمًا} لم تُكتب لأجل اللوغوس ذاته. فإنه حتى قبل أن يصير إنسانًا فقد كان معبودًا أيضًا من الملائكة ومن كل الخليقة... بل كُتِبت هذه العبارة عنا بسببنا لأجلنا" (103).
ويقول القديس كيرلس الكبير ردًا على هذا الفكر الأريوسي "لو كان السيد المسيح قد أُعطى اسمًا فوق كل اسم بسبب طاعته إذًا هو قبل التجسد لم يكن له اسم فوق كل اسم ولا كان ربًا - يتبع ذلك أنه - بعد التجسد - صار أعظم مما كان عليه قبل التجسد وهذه خرافة... ومن المستحيل طبعًا أن نقول أن السيد المسيح قبل تجسده كان في حالة أقل من حالته في التجسد. هو الله الكلمة (اللوجوس) الذي كان له المجد من قبل، منذ الأزل... إذًا فهو الاسم الذي فوق كل اسم كان له منذ الأزل من جهة لاهوته وربوبيته وعبادة الخليقة له.." (104).
وقال القديس إيلاري "إن كان المُعطِي أعظم فإن المُعطَى له -هنا- ليس أقل. كان يعتبر أعظم إن لم يكن أعطى ليسوع. أنه يعترف به أنه مجَّد الله الآب. أنه ليس أقل الذي له نفس مجد الله الآب. الآب الذي ولده على نفسه صورته... هو واحد مع الآب في الطبيعة. إن الابن في إخلائه لذاته أخذ شكل العبد ثم لما انتهت فترة الإخلاء، الآب جعل الابن يظهر في صورته الحقيقية التي كانت له قبل إخلائه لذاته. لما أخذ شكل العبد أضاف إلى لاهوته الصورة البشرية ولكن هذا لا يمنع أن لاهوته كان موجودًا غير أنه كان مخفيًا عن الناس بهذا الشكل البشري. فعبارة أعطاه اسمًا فوق كل اسم معناها أنه كشف لاهوته للناس بعد أن كان مخفيًا بإخلاء الذات" (105).
_____
(100) المقالة الثالثة ضد الأريوسيين ص 65، 66.
(101) الشهادة لألوهية المسيح ص 76، 77 .
(102) المرجع السابق ص 78، 79.
(103) الشهادة لألوهية المسيح ص 80 - 82 .
(104) أورده مكرم عزيز فهمي في كتابه ألوهية السيد المسيح والرد على الأريوسية ص 134.
(105) المرجع السابق ص 135.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/divinity-of-christ/better-level.html
تقصير الرابط:
tak.la/y2h4wnt