عُقِد هذا المجمع سنة 1215م في قصر لاتيران في عهد البابا "اينوشنسيوس" الثالث رقم (175) [1198-1216] لإقرار حسن معاملة الفرنجة الذين احتلوا القسطنطينية لسكانها الروم الأرثوذكس.
قرارات المجمع: قرَّر المجمع الآتي:
1- أن الشعب الشرقي الذي يخضع لكرسي روما يحصل على حسن معاملة اللاتين ويكون مكرمًا، ويمكنه أن يحافظ على عوائده وتقاليده.
2- الأبروشية التي يسكنها الروم وحدهم يُنتَخب أسقفهم منهم ويظل محافظًا على طقوسه وتقاليده.
3- حكم المجمع على عقائد الأرثوذكس التي لا توافق عقائد رومة بالضلال والذين يؤمنون بها هراطقة.
وفي القانون الرابع اعترف البابا " بأن مظالم اللاتين للشعب الشرقي (القسطنطيني) كانت فظيعة حتى اضطرت شعوب الروم أن لا يقدسوا على المذابح المُدَّنسة من اللاتين ما لم يكرسوها وأن يعيدوا معمودية اللاتين " (85)
أما قصة الظلم الرهيب الذي لقاه أبناء القسطنطينية على أيدي أخوتهم المسيحيين أبناء روما فنذكرها هنا باختصار شديد لنتذوق قليلًا مرارة الفظائع التي ارتكبها الجنود اللاتين في القسطنطينية والتي يشيب لها الولدان.
عندما علم البابا "اينوشنسيوس الثالث" بموت صلاح الدين الأيوبي وانقسام أولاده على بعضهم البعض حفَّز الشعب الفرنسي على القيام بحملة جديدة لاسترداد بيت المقدس، فتحركت الحملة سنة 1201م بقيادة " بلدوين " كونت فلاندريَّا و" بونيفانيوس " رئيسًا أعلى للحملة، وقد تعهدوا أمام البابا أن لا يهاجموا مدينة مسيحية في طريقهم.
أرادت الحملة غزو مصر أولًا والوصول منها إلى بيت المقدس عن طريق البر، فلجأ قادة الحملة إلى الدوق "وندل" أمير البندقية الشيخ الذي بلغ عمره نحو ثلاثة وتسعون عامًا، وطلبوا منه سفن تقلهم إلى أرض مصر مع تقديم الطعام للجنود لمدة سنة مقابل تقديم المال اللازم لذلك فأبدى وندل موافقته.
كانت هناك معاهدة سرية بين وندل ووالي مصر
على أن لا يهاجم وندل الأراضي المصرية مقابل تعهد مصر بحماية كل سفينة بندقية تأتى إليها، ولذلك أراد وندل أن يغير خط سير الحملة، وأيضًا كان يكِن في قلبه عداوة كبيرة لمدينة القسطنطينية لأن قيصرها يفرض ضريبة كبيرة على البندقيَّين القاطنين فيها، وأيضًا كان يكِن ضغينة ليست بقليلة لمدينة " زار" المسيحية الغنية التابعة لبلاد دلماطية، ومن أجل هذه المشاعر الرديئة أغرى الجنود الفرنجة وقادهم إلى غزو مدينة زار سنة 1202 بحجة الحصول على المال اللازم لإتمام الحملة، وفعلًا هجم الجنود على المدينة المسيحية رغم تعهدهم أمام البابا بأن لا يفعلوا هذا، فسلبوا غنى المدينة.
وبعد هذا كتب بونيفانيوس الرئيس الأعلى للحملة لبابا روما يخبره بما حدث، فرد عليه البابا يظهِر عدم استحسانه لمحاربتهم لمسيحي مدينة زار، وفي نفس الوقت أشار إليهم بطريقة الدهاء السياسي إلى إمكانية الهجوم على القسطنطينية قائلًا "أن أهل بيزنطية قد أمسوا بالحقيقة تحت جرم ذنوب ثقيلة جدًا ضد الله وضد الكنيسة لأنهم ما زالوا مُصرّين على رفض الاعتراف بسلطة روما، والقيصر اليكسيوس الثالث ارتكب أعظم المظالم ضد أخيه الشرعي، ولكن ليس من اختصاصكم أنتم أن تقاضوا هذه الخطايا " وكأنه يوحى لهم بالهجوم على القسطنطينية، وفعلًا فهم القادة مغزى الرسالة، وذكىَ هذه المشاعر ضغينة وندل أمير البندقية للقسطنطينية.
وكان اليكسيوس الصغير ابن شقيق القيصر اليكسيوس الثالث الذي كان سجينًا في القسطنطينية مع أبيه بحكم عمه القيصر، ولكنه استطاع الهروب فلجأ إلى بابا روما يشكو له ظلم عمه، فاتفق قادة الحملة ومعهم وندل مع اليكسيس الصغير على تنصيبه قيصرًا على القسطنطينية مقابل دفع مائتي ألف مارك والتعهد بخضوع كنيسة القسطنطينية لكرسي روما.
وقف أمام القسطنطينية 20 ألف مقاتل، فعرض عليهم القيصر اليكسيوس الثالث الأموال التي يطلبونها على أن يتركوا المدينة فأبوا وطالبوا بإقامة ابن أخيه قيصرًا بدلًا منه، فهرب اليكسيوس الثالث مع ابنته إيريني وحمل ما يستطيع من مقتنياته، وترك زوجته وشعبه، فدخل الجنود بسهولة إلى القسطنطينية وتوَّجوا إسحاقيوس شقيقه عوضًا عنه مع ابنه اليكسيوس الصغير ودعوه باليكسيوس الرابع، وبذل القيصر الجديد كل جهده ليجمع المال المطلوب منه، ورغم أنه سلب الشعب وقسى عليه حتى هاج ضده شعب القسطنطينية إلاَّ أنه لم يتمكن من جمع المال المطلوب منه، فأعترض عليه الفرنجة وقال له وندل " أيها الولد الشنيع نحن أقمناك من المزبلة ونحن أيضًا سنرميك على المزبلة " (86).. هاج الشعب والرهبان ضد اليكسيوس وخلعوه من على كرسي الإمبراطورية ولم يجدوا من يقيمونه عوضًا عنه في تلك الظروف العصيبة. فتقدم نيقولاوس فنصَّبوه قيصرًا فشرع لوقته يحصن المدينة بالأبراج الشاهقة والخنادق المزدوجة، وحاول عقد معاهدة صلح مع تندل وبينما هم يتفاوضون على شط البحر وتندل واقف في سفينته ونيقولاوس ومن معه على خيلهم هجم بعض فرسان الفرنجة على نيقولاوس إلاَّ أنه استطاع الهرب.
ولأن اقتحام القسطنطينية كان أمرًا مضمونًا بالنسبة لتندل ومن معه لذلك تفاوض مع بلدوين وبونيفانيوس، وتمَّ الاتفاق على توزيع الغنيمة بنسبة الربع للفرنجة والباقي للبندقيّين، وإن تم تعيين القيصر من الفرنجة يكون البطريرك من البندقيّين أو العكس، وفي يوم 12 أبريل سنة 1204م هجم جنود الفرنجة والبنادقة على القسطنطينية فهرب نيقولاوس وأشعل الغزاة النيران في جزء كبير من المدينة فظلت النيران تشتعل لمدة أربعة وعشرين ساعة بينما اجتمع الأعيان ونصبوا ثيودورس لاسكاريس قيصرًا عليهم فشرع في صد الهجوم عن المدينة ولكن الجنود تخلوا عنه فهرب إلى أسيا الصغرى حيث أسَّس مملكة الروم في نيقية، ومنها خرج مُحرّروا العاصمة بعد 57 سنة من الاحتلال المرير.
اقتحم الجنود المدينة وأحلوا السلب والنهب فيها لمدة أربعة أيام، وكانت المدينة بكر لم يطأها قدم مفتتح غاصبٍ من قبل فكانت غنية بالأموال والممتلكات والفنون والعمارة، فسلب الغزاة كل شيء وداسوا المقدسات وبلغ عدد الذين تعرضوا للقتل والذبح في اليوم الأول ألفي قتيل من أبناء الروم، وفي الأيام التالية كان من الصعب حصر عدد القتلى بسبب كثرتهم. يقول المؤرخ فيكيتا الخُنياتي الذي شاهد فتح القسطنطينية " يا للمصيبة في رمى الأيقونات رميًا مهينًا، ويا للمصيبة في رشق بقايا القديسين المجاهدين من أجل المسيح على الأماكن الرجسة. وأما ما ترتعد له الفرائض من مجرد سماعه فهو أن يرى الدم الإلهي وجسد المسيح مكبوبًا ومرميًا على الأرض. فيما أن آنيتها الثمينة كان هؤلاء القوم المتقدمون المسيح الكذاب (يقصد ضد المسيح) يخطفونها فيكسرون بعضها ليأخذوا ما عليها من الزينة ويحملون بعضها ليضعوها على موائدهم آنية أما للمأكل أو لمزيج الخمر... فإن المائدة المقدسة التي كانت مركَّبة من كل المواد الثمينة... قطعت إربًا إربًا وقُسّمت بين الناهبين " (87)
لقد داس الجنود المقدسات ودخلوا الكنائس بالعربات التي تجرها الدواب وبالخيول والبغال، وجلست امرأة عاهرة كاهنة للأوثان على الكرسي البطريركي تغنى غناءًا غراميًا ثم تقوم لترقص... وللأسف الشديد عندما سمع البابا بهذا انتصر فرحهُ بفتح القسطنطينية على ألمه بسبب هذه الفظائع، فأرسل للجنود يلومهم على ما حدث وفي نهاية رسالته يدعوهم للتمسك بالأرض التي امتلكوها بحسب المشيئة الإلهية... ففي البداية يقول لهم " أنكم قد سبقتم ووقعتم تحت كل التوبيخات التي يمكن أن يوبخ بها الصليبيون لأنكم وأنتم عارون من كل حق ومن كل سلطة على الروم وبلا أدنى سبب زغتم عن نقاوة خدمتكم واستوليتم على القسطنطينية بدلًا أن تحرروا أورشليم. وعليه فأنتم فضلتم الخيرات الأرضية على السماوية.
(ثم يقدم البابا الروماني اعترافًا شنيعًا عما أحدثه جنوده بمدينة القسطنطينية فيقول) والأمر الأفظع من كل أمر أن بعضًا منكم لم يشفقوا على ديانة ولا على سنٍ ولا على جنسٍ. بل طفقتم ترتكبون علانية كل نجاسة وسلَّمتم بأعراض النساء لا المتزوجات والأرامل فقط بل العذارى والراهبات أيضًا ليفضحهنَّ العبيد، وإذ لم تكتفوا بسلب الكنوز الملوكية ونهب بيوت الأعيان وغيرهم مددتم يدكم وسلبتم أموال الكنائس وموجوداتها وخطفتم من هياكل الله الأواني المكرسة والموائد الفضية المقدسة ودنستم المذابح وسلبتم الصلبان والأيقونات وذخائر القديسين، وعلى هذا الوجه قد صار من المستحيلات أن يقر الروم على الخضوع لكنيستنا الرومانية لأنهم لا يرون عند اللاتين شيئًا سوى الفظائع وأعمال الظلام التي بسببها يكرهونهم مثل الكلاب.
(ثم يظهر رضائه فيقول).. ربما يكون اليونان (أهل القسطنطينية) قُوصِصوا بسلوككم الظالم ضدهم قصاصًا عادلًا على خطاياهم، وكافأكم الله بعدلٍ على ظهوركم آله لانتقامه... ننصحكم جميعًا لتحافظوا على الأرض التي امتلكتموها بالإرادة الإلهية وتدافعون عنها مؤمنين بخوف أن الله يصفح لكم عن الماضي.." (88)
ويقول المؤرخ الغربي فلوري " وقد كتب القيصر ثيودورس لاسكاربس أيضًا إلى البابا يشكو من قسوة اللاتين في القسطنطينية وفظاعة سلوكهم ضد الأرثوذكس. فأجابه البابا بأنه هو أيضًا لا يبرئ اللاتين ولا يوافق على ارتكاباتهم بل بالعكس كثيرًا ما شجبهم واستقبح أفعالهم. ثم أردف هذه الأقوال ببعض الأعذار يدافع بها عنهم، وفي الختام نصح له ولهم أن يخضعوا للقيصر اللاتيني الجديد قائلًا بأن كل ما جرى إنما جرى بمشيئة الله لأن الروم لا يخضعون للكرسي الروماني " (89)
ترك البطريرك يوحنا المدينة، وأقام الغزاة بلدوين قائد الحملة قيصرًا على القسطنطينية، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. وأقاموا توما موروزيني بطريركًا من البندقيّين على المدينة فشرطنه البابا اينوشنسيوس الثالث بطريركًا باباويًا، وظلت القسطنطينية ترزخ تحت عبودية اللاتين المرة 57 سنة حتى استرجعها القيصر ميخائيل باليولوغس. أما نهاية بلدوين فجاءت مناسبة لأعماله إذ أسَره " يوانيس" ملك البلغار وقطع أطرافه ودفنه حيًا وجعل جمجمته كأسًا يشرب فيها الخمر، وهكذا لا بُد للإنسان أن يحصد ما زرعت يداه ومن يزرع الرياح لا بُد أن يحصد الزوابع.
_____
(85) بابا ريغو بولس ص6، 55 - ورد في تاريخ الانشقاق ج1 ص239.
(86) تاريخ الانشقاق ج2 ص224.
(87) المرجع السابق ص239.
(88) المرجع السابق ص231، 232.
(89) فلورى 76: 26 - ورد في تاريخ الانشقاق ج2ص239.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/catholic/council-lateran-iv-1215.html
تقصير الرابط:
tak.la/8rptyst