س614: ما معنى القول: "مَنْ طَلَبَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا وَمَنْ أَهْلَكَهَا يُحْيِيهَا" (لو 17: 33)؟ ولماذا وضع العدد: "يَكُونُ اثْنَانِ فِي الْحَقْلِ فَيُؤْخَذُ الْوَاحِدُ وَيُتْرَكُ الآخَرُ" (لو 17: 36) بين قوسين في الترجمة العربية البيروتية؟ وما المقصود بقوله: "حَيْثُ تَكُونُ الْجُثَّةُ هُنَاكَ تَجْتَمِعُ النُّسُورُ" (لو 17: 37)؟
ج: 1- ما معنى القول: "مَنْ طَلَبَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا وَمَنْ أَهْلَكَهَا يُحْيِيهَا" (لو 17: 33)..؟ المقصود بالقول: "مَنْ طَلَبَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ" أن يخلصها من الضيقات والآلام التي قد تتعرَّض لها والاضطهادات التي قد تصيبها نتيجة سيرها في طريق الملكوت، فلو حرس الإنسان على سلامته الجسدية فربما يصل به الأمر إلى إنكار إيمانه والتنكر لمسيحه، كما حدث مع بطرس الرسول، فإن لم يتب سريعًا فماذا ستكون نهايته سوى الهلاك الأبدي، لذلك قال "الأنبا بولا" أول السواح: "من يهرب من الضيقة يهرب من اللَّه". فكل من يريد أن ينجو من هذه المتاعب والآلام قد يصل إلى هلاك روحه هلاكًا أبديًا. والذي يحب نفسه أكثر من محبته للَّه تجد قلبه مُتعلقًا بمباهج هذه الحياة، ويصير العالم هو كل كنزه، وحيثما يكون كنزه هناك يكون قلبه، ومثال صارخ على هذا امرأة لوط التي ذكرها السيد المسيح في هذه المناسبة، فبعد أن نجت من سدوم كان قلبها مُتعلقًا ببيتها ومقتنياتها، فنظرت للخلف مخالفة وصية الملاك فهلكت وتحوَّلت إلى عمود ملح، ذكرى للأجيال ولذلك جاءت الوصية: "اُذْكُرُوا امْرَأَةَ لُوطٍ" (لو 17: 32).
ويقول "الأنبا غريغوريوس" أسقف الدراسات القبطية والبحث العلمي: "فأولئك (الأشرار المعاندين) سيهلكهم المسيح الديان شر هلاك، وأما الأبرار من الناس الذين آمنوا بالمسيح وعملوا بتعاليمه، تاركين حياة الجسد إلى حياة الروح، ونابذين الاهتمام بالجسديات، حاصرين كل همهم واهتمامهم في الروحيات، فأولئك هم مختاروا المسيح الذي سينقذهم من الهلاك ويضمهم إلى أحضان ملكوته ليجعلهم رعيته في ذلك الملكوت ورعاياه لأن من سعى إلى الخلاص بانتهاج حياة الروح مُهلكًا بذلك في نفسه حياة الجسد، يستحق الخلاص والحياة الأبدية في ملكوت المسيح الذي هو ملكوت السموات: وأما من انهمك في حياة الجسد مُهلكًا بذلك في نفسه حياة الروح فإنه لا يستحق إلاَّ الهلاك الأبدي. وبذلك ينقسم الناس في ذلك اليوم الرهيب المهيب -في عملية فرز دقيقة- إلى فريقين، ولو كانوا إخوة يعيشون معًا في بيت واحد، أو زملاء يشتركون معًا في عمل واحد، وربما كان اثنان نائمًا معًا في فراش واحد، فيهلك الشرير منهما ويخلص البار، وربما تكون اثنتان تطحنان معًا على رحى واحدة فتهلك الشريرة وتخلص البارة. وربما يكون اثنان يعملان معًا في حقل واحد فيهلك أحدهما لأنه من الأشرار ويخلص الثاني لأنه من الأبرار" (376).
ويقول "القديس كيرلس الكبير": "من خسر حياته يُخلصها، هذا ما فعله الشهداء المباركون. أنهم تحملوا الاضطهادات وهُدرت دمائهم، لكن حُب المسيح ظل تاجًا على رؤوسهم. أما الذين أنكروا الإيمان عن ضعف في الحكم والتمييز، وتحاشوا موت الجسد الحاضر، فقد قتلوا أنفسهم بأيديهم، سيُقذف بهم إلى الجحيم وسينزل بهم العقاب على جُبنهم الشرير" (377).
كما يقول "القديس كيرلس الكبير": "أما عن الطريقة التي يهلك بها الإنسان نفسه لكي ما يُخلّصها، وكيف أن من يتصوَّر أنه يخلصها يهلكها، فهذا يبينه بولس بوضوح عندما يقول عن القديسين: "الَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا الْجَسَدَ مَعَ الأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ" (غل 5: 24) لأن الذي قد صاروا تابعين حقيقيين للمسيح مُخلصنا جميعًا، يصلبون جسدهم ويميتونه وذلك بانشغالهم دائمًا في أتعاب وجهادات لأجل التقوى، وبإماتتهم شهوة الجسد الطبيعية لأنه مكتوب: "الزِّنَا، النَّجَاسَةَ، الْهَوَى، الشَّهْوَةَ الرَّدِيَّةَ، الطَّمَعَ" (كو 3: 5) أما الذين يحبون سلوك الحياة الشهواني ربما يتخيَّلون أنهم يربحون نفوسهم بالعيش في اللذة والتخنث، بينما هم يخسرونها بالتأكيد، لأنه يقول: "لأَنَّ مَنْ يَزْرَعُ لِجَسَدِهِ فَمِنَ الْجَسَدِ يَحْصُدُ فَسَادًا" (غل 6: 8). لكن كل من يخسر فهو بالتأكيد سيخلصها، وهذا ما فعله الشهداء، إذ احتملوا الصراعات حتى الدم وبذل الحياة، ووضعوا فوق رؤوسهم، محبتهم الحقيقية للمسيح إكليلًا لهم... لأن الديان سينزل من السماء، وهؤلاء الذين أحبوه بكل قلوبهم ومارسوا باجتهاد حياة تقوى خالصة سوف يدعوهم قائلًا: "تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ" (مت 25: 34). وأما الذين سلكوا حياة اهمال وانحلال أو لم يحافظوا على مجد الإيمان به، فسوف يُحكم عليهم بعقوبة صارمة وشديدة جدًا ويقول لهم: "اذْهَبُوا عَنِّي يَا مَلاَعِينُ إِلَى النَّارِ الأَبَدِيَّةِ" (مت 25: 41)" (378).
2- ولماذا وضع العدد: "يَكُونُ اثْنَانِ فِي الْحَقْلِ فَيُؤْخَذُ الْوَاحِدُ وَيُتْرَكُ الآخَرُ" (لو 17: 36) بين قوسين في الترجمة العربية البيروتية..؟ وُضِع هذا العدد بين قوسين لأن بعض النسخ القديمة خلت منه، مع أنه يتوافق تمامًا مع سياق الحديث. وبلا شك أن هذا العدد لا يؤثر في أقل عقيدة إيمانية، ولا بد أنه نتج عن ضعف الإدارة البشرية في النساخة والتي حفظت لنا النصوص المقدَّسة لكل هذه الأزمان. ومثل هذا الاعتراض الكثير فيما يتعلق بإنجيل لوقا، وجميعها تم مناقشتها باستفاضة بمعرفة "دكتور غالي"، فيُرجى الرجوع إلى موقع "هوليبايبل" تحت عنوان: "النقد النصي في إنجيل لوقا".
← انظر باقي سلسلة كتب النقد الكتابي هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت للمؤلف.
3- ما المقصود بقوله: "حَيْثُ تَكُونُ الْجُثَّةُ هُنَاكَ تَجْتَمِعُ النُّسُورُ" (لو 17: 37)..؟ اعتبر بعض المفسرين أن هذه الآية لغزًا واجتهدوا في التفسير، فيقول "الخوري بولس الفغالي": "ينتهي هذا المقطع (22-37) بسؤال غامض طرحه التلاميذ (أين يا رب؟) يجيب عليه يسوع بشكل غامض أيضًا. لا علاقة تدل على مكان ظهور ابن الإنسان، ولا علاقة تدل على الوقت الذي فيه يظهر. هذا يعني أن يسوع يعرف متى يكشف هذا السر، يبقى أن نعرف أن النهاية تأتي فجأة (الآن وفيما بعد) دون أن تُعطي أي إنذار للبشر" (379). فعندما تحدث السيد المسيح عن فرز الأبرار عن الأشرار، ونجاة هؤلاء وهلاك أولئك، فسأل المجتمعون "أين يا رب؟" أي أين سيحدث هذا الفرز بين الأبرار والأشرار؟ فأخبرهم السيد المسيح بصورة غير مباشرة أن الجميع مراقبين جيدًا كما من عيون النسور، فالشرير أينما وُجِد فمصيره الهلاك. ونستطيع أن نقول أن عبارة: "حَيْثُ تَكُونُ الْجُثَّةُ هُنَاكَ تَجْتَمِعُ النُّسُورُ"، قد تحققت بصورة مصغَّرة سنة 70م في دمار أورشليم على يد جنود تيطس الوالي الروماني، فالجثة هيَ أورشليم يوم اكتمل مكيال شرورها وآثامها، فتجمعت حولها النسور الرومانية هدمتها وأحرقتها وبنيها فيها وأحرقوا الهيكل وهدموه، وكانت الدولة الرومانية تتخذ النسر شارة على عَلمها (هو 8: 1، حب 1: 8).
كما أن هذه العبارة ستتحقق بصورة أكبر في نهاية العالم، فالجثة هيَ العالم حيث يكتمل كأسه ويمتلئ ويفيض بالآثام والذنوب، عندئذ يكون هلاكه أكيد (رؤ 19: 17-18). ويقول "متى هنري": "إن عملية التمييز أو الفصل (التفرقة) ستتم في جميع الأماكن على مدى اتساع الملكوت... لقد سألوا عن زمن حدوث ذلك ولكنه لم يشبع فضولهم... وجاءت الإجابة على صورة قول مأثور: "حَيْثُ تَكُونُ الْجُثَّةُ هُنَاكَ تَجْتَمِعُ النُّسُورُ"، أي حيثما كان الأشرار فسوف تصلهم دينونة اللَّه وتلتهمهم تمامًا مثلما تتخذ الطيور من الجثة فريسة وتتجمع حولها أينما كانت لتلتهمها" (380). (راجع أيضًا مدارس النقد - عهد جديد جـ 5 س404).
_____
(376) الإنجيل حسب القديس لوقا - ترجمة لجنة قداسة البابا كيرلس السادس، ص393، 394.
(377) التفسير المسيحي القديم للكتاب المقدَّس - العهد الجديد جـ 3 - الإنجيل كما دوَّنه لوقا، ص425.
(378) ترجمة دكتور نصحي عبد الشهيد - تفسير إنجيل لوقا، ص566، 567.
(379) إنجيل لوقا جـ 2 صعود يسوع إلى أورشليم، ص512.
(380) التفسير الكامل للكتاب المقدَّس جـ 1 العهد الجديد - الأناجيل الأربعة، ص513، 514.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/614.html
تقصير الرابط:
tak.la/rp2ztk2