س569: ما دام السيد المسيح هو اللَّه، فما حاجته لمسحة الروح القدس (لو 4: 18)؟ ولماذا ليس للنبي قبولًا وكرامة في وطنه (لو 4: 24)؟ وهل عندما جاء يسوع للناصرة كان بمفرده وحاول أهلها أن يطرحونه من حافة الجبل (لو 4: 29) أم أنه كان معه تلاميذه ولم يتعدى عليه أهلها (مت 13: 54-58، مر 6: 1-6)؟
ج: 1- ما دام السيد المسيح هو الله، فما حاجته لمسحة الروح القدس (لو 4: 18)..؟ يُجيب على هذا التساؤل "القديس كيرلس الكبير" قائلًا: "وهكذا فإن عبارة "مَسَحَنِي" تناسب ناسوته، فليست الطبيعة الإلهيَّة هيَ التي مُسِحت، بل تلك الطبيعة التي هنا منا. هكذا أيضًا عبارة "أَرْسَلَنِي" إنما تشير إلى ما هو بشري... وأولئك الذين اعتمت قلوبهم منذ القديم بكلمة إبليس، ثم أنار لهم بإشراقه كشمس البر. وجعلهم أبناء لا لليل والظُلمة فيما بعد، بل أبناء للنور والنهار كقول بولس الرسول (1 تس 5: 5) وأولئك الذين كانوا عميانًا "لأن المُضل أعمى قلوبهم" قد استعادوا بصرهم وعرفوا الحق، وكما يقول إشعياء: "أَجْعَلُ الظُّلْمَةَ أَمَامَهُمْ نُورًا" (إش 42: 16)..
وما معنى إرسال المنسحقين في الحرية..؟ معناه إطلاق الذين سحقهم الشيطان بقضيب العنف الروحي، ليذهبوا في طريقهم أحرارًا.
وما معنى الكرازة بسنة الرب المقبولة..؟ أنها تشير إلى الأخبار المُفرحة عن مجيئه، أي أن الابن قد جاء، فتلك كانت هيَ السنة المقبولة التي فيها صُلِب المسيح لأجلنا، لأننا عندئذ صرنا مقبولين عند اللَّه الآب كثمار حملها المسيح. لذلك فقد قال هو نفسه: "وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ" (يو 12: 32).. أيضًا من كل ناحية هيَ سنة مقبولة التي فيها إذ قد إنضممنا إلى عائلته، فقد دخلنا إليه بعد أن اغتسلنا من الخطية بالمعمودية المقدَّسة، وصرنا شركاء طبيعته الإلهيَّة بواسطة شركة الروح القدس. تلك أيضًا هيَ سنة مقبولة، إذ أظهر فيها مجده بمعجزات تفوق الوصف" (141).
كما يقول "القديس كيرلس الكبير" أيضًا: "كان المسيح إلهًا متأنسًا، وبصفته إلهًا يهب الروح القدس للخليقة بأسرها، وبصفته إنسانًا يتسلم الروح القدس من اللَّه أبيه" (142).
2- لماذا ليس للنبي قبولًا وكرامة في وطنه (لو 4: 24)..؟ هذه حقيقة بدليل أن أهل الرامة لم يقبلوا صموئيل النبي بل سعوا ليكون لهم ملك كبقية الشعوب، ولم يقبل أهل تسبي إيليا النبي الناري، فأرسله اللَّه إلى أرملة صرفة صيدا الأممية لتعوله، ولم يقبل أهل محولا أليشع النبي، ورفض أهل عناثوث إرميا النبي، وأهل الناصرة رفضوا رب جميع الأنبياء، وأخرجوه خارج المجمع وأتوا به إلى حافة الجبل الكائنة عليه مدينتهم ليطرحوه إلى أسفل. فرؤية إنسان كثيرًا ومخالطته مهما كانت عظمته، فإن هذه الرؤية المتكررة تنزع من قلوب المُخالطين له المهابة التي تحيط به، هكذا استهانوا بيسوع المسيح قائلين: "أَلَيْسَ هذَا ابْنَ النَّجَّارِ؟ أَلَيْسَتْ أُمُّهُ تُدْعَى مَرْيَمَ وَإِخْوَتُهُ يَعْقُوبَ وَيُوسِي وَسِمْعَانَ وَيَهُوذَا" (مت 13: 55) ويقول مارمرقس أن أهل وطنه قالوا: "أَلَيْسَ هذَا هُوَ النَّجَّارَ ابْنَ مَرْيَمَ..؟ فَكَانُوا يَعْثُرُونَ بِهِ" (مر 6: 3). بالإضافة إلى أن الحسد يدفع الإنسان لتحقير من هو أعظم منه، وبالإحساس بالأفضلية عليه، فلا بد أن ألسنة أهل الناصرة قد تلوَّقت عليه: من هو هذا النجار ابن النجار؟..! ما له والنبؤة؟..! على يد من تتلمذ أو تعلم؟..! كيف يمكن أن يكون نبيًا؟!! فأوضح لهم السيد المسيح هذه الحقيقة قائلًا لهم: "الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لَيْسَ نَبِيٌّ مَقْبُولًا فِي وَطَنِه" (لو 4: 24).. وتارة أخرى قال لأهل وطنه الذين عثروا به: "لَيْسَ نَبِيٌّ بِلاَ كَرَامَةٍ إِلاَّ فِي وَطَنِهِ وَبَيْنَ أَقْرِبَائِهِ وَفِي بَيْتِهِ" (مر 6: 4). واستشهد السيد المسيح بنبيين عظيمين كان قد أرسلهما اللَّه لذات المملكة الشمالية، وكيف صنعا المعجزات مع الأمم، فأرملة صرفة صيدا الأممية بإيمانها العظيم استحققت أن تستضيف إيليا رجل اللَّه وقت المجاعة، وإيليا النبي أقام لها ابنها من الموت، ونعمان السرياني الأممي استحق أن يُشفى من برصه بواسطة أليشع رجل اللَّه.
← انظر باقي سلسلة كتب النقد الكتابي هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت للمؤلف.
3- هل عندما جاء يسوع للناصرة كان بمفرده وحاول أهلها أن يطرحونه من حافة الجبل (لو 4: 29) أم أنه كان معه تلاميذه ولم يتعدى عليه أهلها (مت 13: 54-58، مر 6: 1-6)..؟ تقع مدينة الناصرة في الجليل على مكان مرتفع بالقرب من "وادي يزرعيل"، وفي هذا المكان تجد "سهل اسبداليون" حيث دارت الحرب قديمًا في عصر القضاة بين سيسرا رئيس جيش كنعان وبين باراق ودبورة (قض 4)، وفي هذه المنطقة انتصر جدعون بالإيمان ومعه ثلثمائة رجل انتصارًا عظيمًا على جيش مديان والعمالقة وبني المشرق، الجيش الجرار في وادي يزرعيل (قض 6: 33) وفي نفس المنطقة سفكت إيزابل دم نابوت اليزرعيلي (1 مل 21) وفيه لحست الكلاب دم آخاب ملك إسرائيل (1 مل 22: 38)، وفي هذا المكان أيضًا تقع شونم التي سكن فيها أليشع النبي، وجبل الكرمل حيث أحدر إيليا نارًا من السماء أكلت الذبيحة وإلتهمت المياه التي حولها، وقتل إيليا أنبياء البعل، وفي هذه المنطقة صعد يوشيا ملك يهوذا لملاقاة نخو ملك مصر وقُتل في تلك المعركة (2 مل 23: 29) أي أن هذه المنطقة قد شهدت أحداثًا هامة في تاريخ إسرائيل.
وقد أشار القديس لوقا (لو 4: 14-30) للمرة الأولى التي جاء فيها السيد المسيح إلى الناصرة، وكان بمفرده ولم يكن قد اختار أحدًا من تلاميذه بعد، وحاول أهل مدينته أن يطرحونه من على حافة الجبل، بالرغم من أنه عاش معهم منذ طفولته ولم يؤذي أحد منهم، ولم يسيء إلى أي منهم، لكن تغافلوا هذا ونتيجة حسدهم الأسود وغضبهم الأحمق لأنه كشف حقيقتهم أخرجوه من المجمع مُعطلين العبادة المقدَّسة، ودفعوه ليطرحونه إلى أسفل، أما هو فجاز في وسطهم. هذا ما ذكره القديس لوقا، بينما ما ذكره القديس مرقس (مر 6: 1-9) وما سجله القديس متى (مت 13: 54-58) فإنه كان يمثل زيارة أخرى إلى الناصرة، فقد عاد إليها يسوع ليفتقدها بالرغم ما فعله أهلها معه، عاد إليها مع تلاميذه، وللأسف لم يجد هناك الإيمان، ولهذا لم يصنع قوات كثيرة (راجع دكتور وليم - الكنز الجليل في تفسير الإنجيل جـ 2 ص185). ويقول "الأنبا غريغوريوس" أسقف عام الدراسات القبطية والبحث العلمي، عن المرة الأولى التي قرأ فيها يسوع المسيح في المجمع ما جاء في (إش 61: 1، 2): "فلما سمع الذين في مجمع الناصرة ما قاله السيد المسيح، استشاطوا كلهم غضبًا، لأنه شبه نفسه بإيليا وأليشع أعظم أنبيائهم، ولأنه شبههم هم بأهل ذلك الجيل الفاسد من الإسرائليين الذين كانوا في عهد هذين النبيين، ولأنه أخيرًا -وكان هذا موضع ضعفهم الأكبر- أثنى في كلامه على الأرملة الوثنية التي أطعمت إيليا، وعلى القائد الوثني (نعمان السرياني) الذي شفاه أليشع... ومن ثمَّ قاموا وراحوا يدفعون السيد المسيح إلى خارج المدينة، حتى جاءوا به إلى قمة الجبل التي كانت مدينتهم مقامة عليه وقد عقدوا العزم على قتله بأن يطرحوه من هناك إلى أسفل، بيد أن شخصيته المهيبة شلت أيديهم عن أن يفعلوا ذلك، فمرَّ في وسطهم ومضى" (143).
ويقول "القديس أمبروسيوس": "لما وزع نِعمه على الناس ألحقوا به الأذى. لا عجب إذ خسر الخلاص أولئك الذين أخرجوا المُخلّص خارج أمتهم. جاءوا إلى حافة الجبل ليلقوه منها، لكن عقول الرجال الهائجين تغيَّرت أو ارتبكت فجأة. مرَّ من بينهم ومضى، لأن ساعة آلامه ما كانت قد أتت بعد. أنه يُفضّل شفاء اليهود، بدلًا من تدميرهم" (144).
_____
(141) ترجمة د. نصحي عبد الشهيد - تفسير إنجيل لوقا للقديس كيرلس الإسكندري، ص84، 85.
(142) أورده القس أنجيليوس جرجس - يوميات مع كلمة الحياة من إنجيل لوقا، ص107.
(143) الإنجيل حسب القديس لوقا - ترجمة لجنة قداسة البابا كيرلس السادس، ص205، 206.
(144) التفسير المسيحي القديم للكتاب المقدَّس - العهد الجديد جـ 3 - الإنجيل كما دوَّنه لوقا، ص149.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/569.html
تقصير الرابط:
tak.la/kh473m6