س568: لماذا بدأ السيد المسيح خدمته في الجليل (لو 4: 14)؟ وهل السيد المسيح رجع إلى الجليل بعد التجربة (لو 4: 14) أم أنه رجع بعد أن سمع أن يوحنا أُسلم (مت 4: 12)؟ وهل ما قرأه السيد المسيح من سفر إشعياء (لو 4: 18، 19) كان ذلك مصادفة؟ ولماذا لم يكمل ما قاله إشعياء النبي: "وَبِيَوْمِ انْتِقَامٍ لإِلَهِنَا" (إش 61: 2)؟ هل لأنه لا ينطبق عليه؟
ج: 1- لماذا بدأ السيد المسيح خدمته في الجليل (لو 4: 14)..؟ قصد السيد المسيح أن يبدأ بخدمته في الجليل لعدة أسباب، نذكر منها:
أ– إن أهل أورشليم واليهودية كانوا أكثر صلفًا وكبرياءً مدَّعين علمهم بالشريعة وافتخارهم بالهيكل لا يتوقف، عاشوا حياة الرياء وظهروا بمظهر وعاشوا بمظهر آخر، وسعوا نحو الأمور الشكلية وتطبيق الشريعة بصورة شكلية مُنصرفين عن الحق والرحمة، فكانوا يمثلون تربة غير صالحة وأرض غير مُمهدة لاستقبال بذرة الخلاص.
ب- كان أهل الجليل أكثر احتياجًا للافتقاد والخدمة والسيد المسيح جاء من أجل الخطاة الهالكين: "لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ" (لو 19: 10)، ولا سيما أنه كان لدى أهل الجليل الاستعداد للتوبة وتغيير الاتجاه وترك الضلالات التي يعيشون فيها، وعندما كرز لهم السيد المسيح من خلال المجامع اليهودية والساحات المفتوحة مثل سهول الجبال أو شط بحيرة الجليل قبلوا كرازته وانجذبوا نحوه وبُهتوا من تعاليمه ومعجزاته وقوة سلطانه.
جـ- تربى يسوع في الجليل، فكان ينبغي أن يُكرز أولًا لأهل وطنه ثم يخرج إلى بقية المناطق، وقد اختار السيد المسيح جميع تلاميذه من أهل الجليل باستثناء "يهوذا الإسخريوطي" الذي كان من قرية "قريوت" أو "قريوط" جنوب مملكة يهوذا، فشكلوا مجموعة متجانسة، لأنهم نشأوا في بيئة واحدة، وكان هؤلاء الجليليون شديدو الإخلاص له وشهدوا له بالفم والدم، منهم بطرس الغيور وأندراوس أخيه، ويوحنا الحبيب ويعقوب أخيه، ويعقوب ابن حلفى ويهوذا المُلقَّب تداوس أخيه.
وبالرغم من اهتمام السيد المسيح بخدمة أهل الجليل، المنطقة التي عاش فيها حتى سن الثلاثين، فإنه لم يهمل ولم يقصر في خدمة المناطق الأخرى كاليهودية بما فيها أورشليم حيث كان يصعد إلى الهيكل في الأعياد، والسامرة، ومنطقة شرق الأردن بما فيها المدن العشر... لقد كان يجول يصنع خيرًا ليل نهار طوال أكثر من ثلاث سنوات، فلم تشهد الأرض كرازة نارية مثل هذه الكرازة الأمينة لابن الإنسان.
2- هل السيد المسيح رجع إلى الجليل بعد التجربة (لو 4: 14) أم أنه رجع بعد أن سمع أن يوحنا أُسلم (مت 4: 12)..؟ سبق يوحنا المعمدان السيد المسيح في الخدمة بستة أشهر وهو فارق السن بينهما، فعندما بلغ يسوع الثلاثين كان يوحنا يكرز منذ ستة أشهر، ومرت فترة كان يخدم فيها كل من يوحنا المعمدان والسيد المسيح: "وَبَعْدَ هذَا جَاءَ يَسُوعُ وَتَلاَمِيذُهُ إِلَى أَرْضِ الْيَهُودِيَّةِ... وَكَانَ يُعَمِّدُ. وَكَانَ يُوحَنَّا أَيْضًا يُعَمِّد... لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُوحَنَّا قَدْ أُلْقِيَ بَعْدُ فِي السِّجْنِ" (يو 3: 22- 24)، وإن كانت الأناجيل الأزائية ركزت على خدمة يسوع في الجليل وصعوده الأخير إلى اليهودية وأورشليم حيث صُلِب هناك، فإن إنجيل يوحنا قد أوضح أن السيد المسيح صعد إلى اليهودية عدة مرات في الأعياد أثناء خدمته التي امتدت ثلاث سنوات، وعندما قال القديس لوقا: "وَرَجَعَ يَسُوعُ بِقُوَّةِ الرُّوحِ إِلَى الْجَلِيلِ" (لو 4: 14) كان يشير للمرة الأولى التي عاد فيها يسوع للجليل بعد المعمودية، بينما عندما قال القديس متى: "وَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ أَنَّ يُوحَنَّا أُسْلِمَ انْصَرَفَ إِلَى الْجَلِيلِ" (مت 4: 12) فإن هذه تمثل عودة أخرى للجليل، غير المرة الأولى التي ذكرها القديس لوقا، وبين هذه وتلك نحو عام كامل (راجع دكتور وليم إدي - الكنز الجليل في تفسير الإنجيل جـ 2 إنجيلي مرقس ولوقا).
← انظر باقي سلسلة كتب النقد الكتابي هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت للمؤلف.
3- هل ما قرأه السيد المسيح من سفر إشعياء (لو 4: 18، 19) كان مصادفة..؟ دخل يسوع مجمع الناصرة الذي اعتاد أن يدخله منذ نعومة أظافره، وكان نظام العبادة في المجامع يبدأ بالتضرع للَّه طلبًا للبركة، ثم تلاوة "شماع" أي اسمع يا إسرائيل وهو إقرار الإيمان العبري الوارد في (تث 6: 4-9، 11: 13-21) ثم الصلاة. ويعقب الصلاة القراءات من على "البيما" أي "منبر الوعظ"، وتبدأ بقراءة من أسفار موسى الخمسة وتُدعى "فرشه" أي "فصل" ثم قراءة مقطع من أسفار الأنبياء، تدعى "هافتره" أي "تفسير" وكان القارئ يقرأ باللغة العبرانية ويترجمها للأرامية، ويقف القارئ أثناء القراءة احترامًا وتوقيرًا لكلمة اللَّه، وبعد الانتهاء من القراءة يجلس ليعلّم: "ثُمَّ طَوَى السِّفْرَ وَسَلَّمَهُ إِلَى الْخَادِمِ، وَجَلَسَ" (لو 4: 20) وفي بستان جثسيماني قال السيد المسيح: "كُلَّ يَوْمٍ كُنْتُ أَجْلِسُ مَعَكُمْ أُعَلِّمُ فِي الْهَيْكَلِ" (مت 26: 55). وخادم المجمع هو المسئول عن حفظ الأسفار المقدَّسة في الخزانة، يُخرجها ويُدخلها بحسب الاستخدام، وهو المسئول عن نظافة المجمع، ويعلن عن بداية السبت بالضرب بالبوق الفضي ثلاث مرات، وأيضًا كان يُعلِّم الصبية في مدرسة القرية. وبعد القراءات كان يتقدم أحد الحاضرين المشهود له بالتقوى بعظة صغيرة، ويا حبذا لو كان من الضيوف (أع 13: 14، 16) وغالبًا ما تُختم العظة بالحديث عن رجاء إسرائيل في العصر المسياني. ثم يختتم الكاهن إن وجد الخدمة بالبركة، وإن لم يكن هناك كاهنًا يختم أحد الحاضرين الاجتماع بالصلاة.
وقال القديس لوقا: "فَدُفِعَ إِلَيْهِ سِفْرُ إِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ. وَلَمَّا فَتَحَ السِّفْرَ وَجَدَ الْمَوْضِعَ الَّذِي كَانَ مَكْتُوبًا فِيهِ.." (لو 4: 17) وقرأ ما جاء في (إش 61: 1، 2) ومن المعروف أن هذا الجزء ينطبق على المسيا، وبالطبع لم يكن هذا مجرد صدفة إنما قصد السيد المسيح أن يقرأ هذا الجزء بالذات... لماذا..؟ لأنه يحتوي على خطة خدمة المسيا، الذي جاء ليُبشر المساكين ويُشفي منكسري القلوب ويُطلق المأسورين ويُفتح أعين العميان ويهب الحرية للمنسحقين ويُكرز بسنة الرب المقبولة، سنة اليوبيل التي يُطلّق فيها العبيد أحرارًا، وتُرد الممتلكات إلى أصحابها، فهذه هيَ الخطوط العريضة في خدمته، بينما كانت العيون تتعلق به شاخصة إليه، وإذ به يقول لهم: "إِنَّهُ الْيَوْمَ قَدْ تَمَّ هذَا الْمَكْتُوبُ فِي مَسَامِعِكُمْ" (لو 4: 21). قرأ هذا الجزء ولم يُفسره ولم يعظ عليه، بل اكتفى بقوله أنه اليوم تحقق ما كتبه إشعياء عنه... صُدِم السامعون من قوله هذا، لأنهم يعرفونه منذ طفوليته وقد نشأ بينهم نجارًا بسيطًا في أسرة بسيطة، فكيف يكون هو المسيا؟!! وإن لم يكن السيد المسيح حقق هذه النبوءة في صورتها المادية، فإنه حققها في صورتها الأقوى، وهيَ الصورة الروحية، فشفى منكسري القلوب المُثقلين بالخطايا، وحرَّر المُنسحقين المُقيَّدين بقيود الشيطان... إلخ. أما أهل الناصرة فقد استكثروا عليه أن يكون المسيا، وللأسف لم تجد كلمات النعمة الخارجة من فيه أذانًا صاغية، إنما أرادوا أن يطرحوه من على حافة الجبل.
ويقول "العلامة أوريجانوس": "يجب أن تعتبر ما تكلم به اللَّه على لسان النبي وما أعلنه من بعد في المجمع. يقول: "أرسلني لأبشر المساكين". "المساكين" هم الأمم... التي لا تملك شيئًا البتة، لا إلهًا، لا شريعة، لا أنبياء، لا عدالة، ولا فضيلة من الفضائل. لماذا أرسله اللَّه ليُبشر الفقراء؟ "ليطلق الأسرى". كنا أسرى، فقد قيدنا إبليس وأسرنا سنوات وسنوات ولذلك آتى يسوع "ليُعلن إطلاق الأسرى، ويُعيد البصر إلى العميان" بكلمته وبتعليمه يُعاد البصر إلى العميان. لذلك نفهم أن "مناداته تتوجه للعميان" و "للأسرى" أيضًا. "أرسلني لأنادي للأسرى بالحرية" فمن كان مُحطمًا ومسحوقًا كذلك الذي شفاه يسوع وأرسله. "وأكرز بسنة الرب المقبولة". أعلن كل هذا لتبلغ سنة قبول الرب لنا، عندما نستعيد بصرنا وتتساقط عنا سلاسلنا، ونُشفى من جروحنا" (مواعظ على لوقا 32-4-5)" (140).
4- لماذا لم يُكمل ما قاله إشعياء النبي: "وَبِيَوْمِ انْتِقَامٍ لإِلَهِنَا" (إش 61: 2)؟ هل لأنه لا ينطبق عليه..؟ كلاَّ، فما قاله إشعياء النبي (إش 61: 1، 2) ينطبق على المسيا، ولكن السيد المسيح قصد أن يقرأ ويُركز على ما يخص مجيئه الأول. أما يوم الانتقام الإلهي فهو يخص مجيئه الثاني ويوم الدينونة الرهيب، ولذلك فلم يذكره... لقد أراد أن يوضح أنه جاء بالنعمة والبركة والشفاء والخلاص للبشرية، ولم يأتِ بالنقمة كقوله: "لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ" (لو 19: 10). تحدث السيد المسيح عن "سنة الرب المقبولة" أي سنة اليوبيل، أفضل وأجمل سنوات العمر (لا 25) سنة تحرُّر العبيد من نير عبوديتهم القاسية، وسنة رد الممتلكات إلى أصحابها، ورد الشيء إلى أصله، سنة البراءة والعتق من الديون. والسنة التي تستريح فيها الأرض من الزراعة، هذا هو الوقت الذي أشار إليه السيد المسيح بمجيئه إلى أرضنا... هذا هو يوبيلنا، وهذا ما أشار إليه بولس الرسول قائلًا: "هُوَذَا الآنَ يَوْمُ خَلاَصٍ" (2 كو 6: 2). ولك يا صديقي أن تلاحظ طول وقت القبول إذ عبَّر عنه بالسنة " بِسَنَةِ الرَّبِّ الْمَقْبُولَةِ" وقصر وقت التأديب، إذ عبَّر عنه بيوم " بِيَوْمِ انْتِقَامٍ لإِلَهِنَا".
_____
(140) التفسير المسيحي القديم للكتاب المقدَّس - العهد الجديد جـ 3 - الإنجيل كما دوَّنه لوقا، ص146.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/568.html
تقصير الرابط:
tak.la/rp25mwr