س515: ما الداعي لتكرار معجزة إشباع الجموع (مر 8: 1 - 9)؟ وهل بعد هذه المعجزة ركب يسوع السفينة "جَاءَ إِلَى نَوَاحِي دَلْمَانُوثَةَ" (مر 8: 10)، أم أنه "جَاءَ إِلَى تُخُومِ مَجْدَلَ" (مت 15: 39)؟ وهل معنى قول السيد المسيح "لَنْ يُعْطَى هذَا الْجِيلُ آيَةً" (مر 8: 12) يعني أن السيد المسيح لم يصنع ولا معجزة واحدة، وأن كل ما ذكرته الأناجيل من معجزات هيَ مدسوسة عليه؟
ج: 1- ما الداعي لتكرار معجزة إشباع الجموع (مر 8: 1 - 9)؟.. لم يصنع السيد المسيح أي معجزة للاستعراض والافتخار، إنما صنع جميع المعجزات بدافع المحبة والحنو (مر 6: 34) وبسبب الاحتياج الشديد لها:
(أ) وكان هناك ضرورة مُلحة لعمل هذه المعجزة لأن الآلاف الذين تجمعوا ليسمعوا تعاليم السيد المسيح كانت لهم اشتياقات شديدة حتى أنهم مكثوا معه ثلاثة أيام، ربما القريبين من منازلهم كانوا يذهبون ليبيتوا في منازلهم ويعودون مبكرًا، والذي جاءوا من بعيد لم يغادروا المكان، والطعام الذي معهم قد نفذ، فأشفق الرب يسوع عليهم وقال لتلاميذه إن صرفتهم صائمين يخورون في الطريق (مر 8: 2، 3). فكان لا بد أن الذي يُشبِع كل حي من رضاه أن يُشبِع هذا الجمع. ولعل أحد يتساءل: من أين جاءت هذه الآلاف في هذه المنطقة الأممية؟ ونحن لا ننسى أن السيد المسيح عندما مرَّ بهذه المنطقة من قبل وشفى مجنون كورة الجدريين الذي كانت سمعته قد عمت الآفاق، طلب أهل الكورة من السيد المسيح أن يرحل عن كورتهم، فرحل، وإذ أراد الرجل الذي كان مجنونًا أن يتبعه قال له السيد المسيح: " اذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ وَإِلَى أَهْلِكَ وَأَخْبِرْهُمْ كَمْ صَنَعَ الرَّبُّ بِكَ وَرَحِمَكَ... فَمَضَى وَابْتَدَأَ يُنَادِي فِي الْعَشْرِ الْمُدُنِ كَمْ صَنَعَ بِهِ يَسُوعُ. فَتَعَجَّبَ الْجَمِيعُ" (مر 5: 20). قد تكبد مشقة الكرازة باسم يسوع في المدن العشرة لم يترك منها مدينة واحدة، واليوم تجمعت هذه الآلاف كثمرة كرازة هذا الرجل الأممي.
(ب) جرت معجزة إشباع الجموع الأولى بالقرب من بيت صيدا بين يهود الجليل (مر 6: 35 - 44)، فكما أطعم السيد المسيح اليهود هكذا أطعم الأمم في معجزة إشباع الجموع الثانية (مر 8: 1 - 9)، فهو مخلص العالم كله ولم يأتِ من أجل شعب بعينه فقط، بل من أجل العالم كله.
(ج) أراد السيد المسيح أن يقدم تلاميذه الطعام لهؤلاء الأمميين، وأن يشاركونهم الطعام ويأكلون معهم، ليهيئ أذهانهم لقبول الأمم، ولا يشمئزوا منهم بعد أن قبلهم المعلم الصالح وعلمهم وشفى مرضاهم، ولعل السلال السبعة التي امتلأت بكسر الخبز كانوا قد حملوا فيها قبلًا أناس مقعدين، وضع السيد المسيح يده عليهم فعادوا أصحاء سالمين ونهضوا من تلك السلال إلى جدة الحياة. أن كرازة السيد المسيح بين الأمم كانت إيذانًا بعهد جديد يلتقي فيه اليهود مع الأمم في السيد المسيح.
ولعل قبول الأمم جعل الفريسيون يتشككون في تصرفات السيد المسيح
فطلبوا منه آية من السماء، فقال لهم: "جِيلٌ
شِرِّيرٌ وَفَاسِقٌ يَطْلُبُ آيَةً وَلاَ تُعْطَى لَهُ آيَةٌ
إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ النَّبِيِّ"
(مت 12: 39) وهذا ما سجله القديس متى الذي كتب لليهود الذين
يعرفون يونان ونبوءته، أما
القديس مرقس إذ كتب للأمم تغافل ذكر
يونان لأن الأمم ربما لم يسمعوا عنه، فأكتفى بقوله: " اَلْحَقَّ
أَقُولُ لَكُمْ لَنْ يُعْطَى هذَا الْجِيلُ آيَةً" (مر 8: 12) ولا
يقل أحد أن هنا تناقض بين قول مرقس وقول متى، لأن
القديس مرقس لم
ينفي قول القديس متى، حتى يقع التناقض
(راجع
مدارس النقد - عهد جديد ج 4 س342).
(د) لقد برع مرقس الرسول في تسجيل مقطعين متشابهين يبدأ كل منهما بمعجزة إشباع الجموع، الأولى لليهود (مر 6: 35 - 44) والثانية للأمم (مر 8: 1 - 9)، يعقبهما عبور بحيرة طبرية، الأولى إلى جنيسارت (مر 6: 45 - 53) والثانية إلى دلمانوثة (مر 8: 10)، يعقبهما حوار الفريسيين مع السيد المسيح، الأول حول أكل التلاميذ بأيدي غير مغسولة (مر 7: 1 - 23) والثاني حول طلبة آية من السماء (مر 8: 11 - 12)، ويعقبهما حوار السيد المسيح، الأول مع المرأة الفينيقية عن شفاء ابنتها (مر 7: 24 - 30) والثاني مع التلاميذ عن ضمير الفريسيين (مر 8: 13 - 21). وينتهي المقطع الأول بشفاء الأصم الأعقد باللمس والتفل (مر 7: 31 - 37) وهو يشير إلى حالة الأمم، وينتهي المقطع الثاني بشفاء الأعمى بالتفل واللمس (مر 8: 22 - 26) وهو يشير إلى حالة اليهود، الذين كانت روايتهم للمسيا مشوشة.
2- هل بعد هذه المعجزة ركب يسوع السفينة " جَاءَ إِلى نَوَاحِي دَلْمَانُوثَةَ" (مر 8: 10)، أم أنه " جَاءَ إِلَى تُخُومِ مَجْدَلَ" (مت 15: 39)؟.. كانت كل من " دَلْمَانُوثَةَ" و" مَجْدَلَ" على الساحل الغربي لبحر الجليل في منطقة العشر مدن، وكانت نواحي دلمانوثة متاخمة لتخوم مجدل (الأفكار الرئيسية للعظات الكتابية ج 3 إنجيل مرقس ص 135)، فتقع مجدل عند الطرف الجنوبي الغربي لسهل جنيسارت، عند ملتقى الطريق المجاور لبحيرة جنيسارت والطريق النازل من الناصرة عبر التلال، على بُعد نحو خمسة كيلومترات من مدينة طبرية، وكانت تتمتع مجدل بنشاط اقتصادي رائج، فاشتهرت بزراعة الكروم والزيتون والتين والنخيل، واشتهرت بصيد السمك وتمليحه، وصناعة الصباغة وغزل ونسج الصوف، كما أُشهرت بالتجارة (راجع حسام كمال - مدينة مجدل).. ومعنى اسم "مجدل" أي "برج (أو أبراج) المراقبة" ومعنى كلمة "دلمانوثة" أي "المباني العالية"، ومجدل هيَ المدينة التي أنبتت لنا القديسة العظيمة الكارزة المبشرة بالقيامة "مريم المجدلية". وفي العهد الجديد لم يأتي اسم " مَجْدَلَ" سوى مرة واحدة (مت 15: 39) وأيضًا " دَلْمَانُوثَةَ" (مر 8: 10) وفي سنة 2003م تم اكتشاف آثار مدينة مجدل وبها مجمع يهودي، وقاعة مجاورة يرجع تاريخها إلى سنة 24م، وكذلك العثور على بعض العملات النقدية.
← انظر باقي سلسلة كتب النقد الكتابي هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت للمؤلف.
3- هل معنى قول السيد المسيح " لَنْ يُعْطَى هذَا الْجِيلُ آيَةً" (مر 8: 12) يعني أن السيد المسيح لم يصنع ولا معجزة واحدة، وأن كل ما ذكرته الأناجيل من معجزات هيَ مدسوسة عليه؟.. قال القديس مرقس: " فَخَرَجَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَابْتَدَأُوا يُحَاوِرُونَهُ طَالِبِينَ مِنْهُ آيَةً مِنَ السَّمَاءِ لِكَيْ يُجَرِّبُوهُ" (مر 8: 11) فهدفهم كان واضحًا ومفهومًا، أفصح عنه القديس مرقس صراحة: " لِكَيْ يُجَرِّبُوهُ" فهم لم يطلبوا آية ليؤمنوا به، بل لكي يجربونه، فقد سلكوا في مشورة أبيهم المجرّب إبليس، ولهذا رفض السيد المسيح طلبهم، وقال لهم: " لِمَاذَا يَطْلُبُ هذَا الْجِيلُ آيَةً؟ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ لَنْ يُعْطَى هذَا الْجِيلُ آيَةً" (مر 8: 12). لقد طلبوا بالتحديد آية من السماء وكأن جميع الآيات التي أجراها السيد المسيح ليست من السماء، فطلبوا آية من السماء مثلما أوقف يشوع الشمس، أو مثلما أرجع إشعياء الظل عشر درجات، أو مثلما أحدر إيليا نارًا من السماء لتأكل ذبيحته على جبل الكرم، أو عندما أكلت الخمسين جندي وقائدهم مرتين، ولا يُفهم من سؤال الفريسيون ولا من إجابة السيد المسيح ما ينفي أو يطعن في حقيقة المعجزات العديدة العظيمة التي أجراها السيد المسيح. ويقول "القديس يوحنا الذهبي الفم": " لم يطلبوا آية لكي يؤمنوا وإنما لكي يمسكوه، فلو كان القادمون مستعدين لقبول الإيمان لصنع لهم آية" (368).
ومن العجيب أن بعض النُقَّاد من الأخوة المسلمين يرددون مثل هذه الانتقادات، ويغضون البصر عن شهادات القرآن لمعجزات السيد المسيح:
- " وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي" (المائدة 5: 110) ويقولون أنه لم يفعل هذا بقوته وبقدرته بل بأذن الله وقدرته. وعندما نقول أن الطالب كتب بأذن المعلم، فمن هو الكاتب؟ أنه الطالب هو الكاتب، وبالقياس: المسيح خلق بأذن الله، فمن هو الخالق؟ أنه المسيح الخالق.
- " وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ الله" (آل عمران 3: 49).
- " وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ" (آل عمران 3: 49).
(راجع كتابنا: أسئلة حول الوهية المسيح - الباب الرابع: ماذا يقول الإسلام عن السيد المسيح).
_____
(368) أورده القمص تادرس يعقوب - الإنجيل بحسب مرقس ص 134.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/515.html
تقصير الرابط:
tak.la/sgtqj78