س514: لماذا مضى السيد المسيح إلى تخوم صور وصيدا (مر 7: 24) وهيَ منطقة أممية مع أنه قال للمرأة الكنعانية: "لَمْ أُرْسَلْ إِلاَّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ" (مت 15: 24)؟ ولماذا هذا الإذلال الذي مارسه السيد المسيح مع هذه المرأة الأممية حتى أنها خرت عند قدميه (مر 7: 25)؟ ولماذا لم يشفي السيد المسيح هذا الرجل الأصم الأعقد بكلمة منه، إنما وضع أصابعه في أذنه وتفل ولمس لسانه ورفع نظره للسماء وأنَّ (مر 7: 33، 34)؟
ج: 1- لماذا مضى السيد المسيح إلى تخوم صور وصيدا (مر 7: 24) وهيَ منطقة أممية مع أنه قال للمرأة الكنعانية: " لَمْ أُرْسَلْ إِلاَّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ" (مت 15: 24)؟.. مضى السيد المسيح إلى تخوم صور وصيدا المدينتين الأمميتين لأنه جاء من أجل العالم كله، يهود وأمم... لقد أوصد اليهود أبوابهم في وجهه رافضين خبز البنين، بينما كان الأمم يسعون نحو الفتات الساقطة من مائدة أربابها. وصور وصيدا ميناءان على البحر المتوسط شمال منطقة الجليل، وكان قديمًا "حيرام" ملك صور على علاقة قوية مع داود الملك وسليمان ابنه، وقد أرسل خشب أرز ونجارين وبنائين لبناء بيت داود ثم هيكل الرب وبيت سليمان (2 صم 5: 11، 1 مل 5: 8 - 10)، ولكن عندما تعرض هيكل أورشليم للدمار على يد نبوخذ نصر سنة 586 ق.م، ابتهجت صور بهذا، فحلَّ عليها الغضب الإلهي، وكان إشعياء قد تنبأ بخرابها قبل أن يحدث بمائة عام (إش 23: 1 - 14) وتنبأ حزقيال النبي عما سيصيبها على يد ملك بابل (حز 26: 1 - 14، 29: 8) وتخرَّبت على يد الإسكندر الأكبر الذي قتل من سكانها ثمانية آلاف رجل وصلب ألفي رجل لأنها أوصدت أبوابها في وجهه (راجع كتابنا: أسئلة حول صحة الكتاب المقدَّس س 2). وفي ملء الزمان جاء ابن داود إلى تلك المنطقة علامة على قبوله لجميع الأمم، فكما خدم في اليهودية والجليل ذهب في طفولته إلى مصر وأمضى بها أكثر من ثلاث سنوات فدشّن أرضها لتكون قدسًا للرب، وفي خدمته جاء إلى تلك المدن ليزرع بذرة الكرازة فيها، وذهب أيضًا إلى المدن العشر شرق الأردن، ومعظم سكانها من الأمم، فشفى مجنون كورة الجدريين تارة (مر 5: 1 - 20)، وتارة أخرى وعظ وعلّم وأشبع الآلاف من السبع خبزات وقليل من صغار السمك (مر 8: 1 - 19). لقد جاءت الأمم إليه في طفولته متمثلة في المجوس (مت 2: 1 - 12)، وإليه جاء قائد المئة الأممي ليشفي غلامه (مت 8: 5 - 13).. " وَتَبِعَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ الْجَلِيلِ وَمِنَ الْيَهُودِيَّةِ... وَالَّذِينَ حَوْلَ صُورَ وَصَيْدَاءَ" (مر 3: 7 - 8)، وهو لم يردهم، بل وهبهم سُئل قلبهم، والآن قد جاء ليبارك أرضهم، جاء إلى هذه المرأة المسكينة التي تعاني من جنون ابنتها، وتحمل إيمانًا افتقر له شعب الله. يقول "الأب متى المسكين": " وفي الحقيقة لم يقابلنا في جميع قصص المسيح مريض بهذا القدر من الارتفاع في القامة الروحية، فهيَ تخاطب المسيح وكأننا نقرأ مزمورًا لداود النبي أو قولًا لأحد عظماء اليهود: "ارحمني يا سيد يا ابن داود" !! ما لهذه الأممية وابن داود؟ ومن أين أتاها هذا اللقب اليهودي، وممن تسلمته؟..
الآن علمنا لماذا اتجه المسيح صوب حدود صور وصيدا ليتقابل مع هذا الرسول العالي القدر والمفتوح العينين ليسمع منه كلمة تعزّي قلبه عوض جحود بني وطنه، وتشد من أزر كرازته عوض مكيدة أهل الناصرة، أهل بيته، عند محاولة إلقائه من على الجبل بغية قتله.
أسعد الله قدومك أيتها المرأة!! الرسول حاملة أعز لقب لقلب المسيح، وأسعد الله بلدك وبلاد كل الأمم التي أنبتت مثل نباتك الشامخ في الإيمان، الذي جئتِ لتمثليه كرسول فوق العادة في أيأس أيام إسرائيل، لتقولي للنبي المهان في وطنه والمُطارد من أهل بيته: قلوبنا مفتوحة للإيمان يا ابن داود وإيماننا رهن إشارتك. نحن في انتظارك بعد الجلجثة. وقف المسيح مبهورًا أمام هذه المرأة" (362).
نعم لقد جاء السيد المسيح إلى هذه المنطقة مبتعدًا عن مؤامرات السنهدريم، وشر هيرودس، فإلى هذه المنطقة ذهب قديمًا إيليا النبي هربًا من آخاب ملك إسرائيل وزوجته إيزابل ابنة أثبعل ملك الصيدونيين ليقيم عند أرملة صرفة صيدا وينقذها من المجاعة (1 مل 17: 8 - 24). جاء السيد المسيح ليقضي فترة هدوء قبل المواجهة العاصفة مع القيادات المتعصبة، وكان التلاميذ أيضًا يحتاجون مثل تلك الخلوة بعيدًا عن تزاحم الجموع.
2- لماذا هذا الإذلال الذي مارسه السيد المسيح مع هذه المرأة الأممية حتى أنها خرَّت عند قدميه (مر 7: 25)؟.. عندما أتت المرأة الأممية وخرَّت عند قدميه لم يكن هذا نوع من الإذلال كما قال البعض، لأن السيد المسيح لم يطلب منها هذا السجود، إنما جاء هذا السجود من إحساسها بقداسته الفائقة، فخرَّت عند قدميه وسجدت له، وليست هيَ الوحيدة التي فعلت هذا، فالأبرص جثا أمامه (مر 1: 40) ويايرس خرَّ عند قدميه (مر 5: 22) والمرأة الخاطئة: " ابْتَدَأَتْ تَبُلُّ قَدَمَيْهِ بِالدُّمُوعِ وَكَانَتْ تَمْسَحُهُما بِشَعْرِ رَأْسِهَا وَتُقَبِّلُ قَدَمَيْهِ وَتَدْهَنُهُمَا بِالطِّيبِ" (لو 7: 38) وعندما شفى مجنون كورة الجدريين جاءوا فوجدوه: " لاَبِسًا وَعَاقِلًا جَالِسًا عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ" (لو 8: 35)، وكان يلذ لمريم أخت لعازر أن تجلس عند قدمي يسوع وتسمع كلامه (لو 10: 39)، ودهنت قدمي يسوع ومسحتهما بشعرها (يو 12: 3) و" فَجَاءَ إِلَيْهِ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ مَعَهُمْ عُرْجٌ وَعُمْيٌ وَخُرْسٌ وَشُل وَآخَرُونَ كَثِيرُونَ وَطَرَحُوهُمْ عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ. فَشَفَاهُمْ" (مت 15: 30) والأبرص الذي شُفي وعاد ليشكر: "خَرَّ عَلَى وَجْهِهِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ شَاكِرًا" (لو 17: 16) والمريمتان بعد القيامة: " فَتَقَدَّمَتَا وَأَمْسَكَتَا بِقَدَمَيْهِ وَسَجَدَتَا لَهُ" (مت 28: 9).. إلخ.
← انظر باقي سلسلة كتب النقد الكتابي هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت للمؤلف.
3- لماذا لم يشفي السيد المسيح هذا الرجل الأصم الأعقد بكلمة منه، إنما وضع أصابعه في أذنه وتفل ولمس لسانه ورفع نظره للسماء وآنَّ (مر 7: 33 - 34)؟.. لم يتبع السيد المسيح طريقة واحدة في شفاء المرضى، إنما استخدم عدة طرق:
(1) شفى البعض بكلمة، حتى لو كان المريض على بُعد، ومهما كانت درجة خطورة المرض، مثلما شفى عبد قائد المئة وابنة المرأة الكنعانية.
(2) شفى البعض باللمس مثلما فعل مع الأبرص.
(3) شفى الكثيرين بوضع اليد " جَمِيعُ الَّذِينَ كَانَ عِنْدَهُمْ سُقَمَاءُ بِأَمْرَاضٍ مُخْتَلِفَةٍ قَدَّمُوهُمْ إِلَيْهِ فَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَشَفَاهُمْ" (لو 4: 40) وحتى في الناصرة: " وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى مَرْضَى قَلِيلِينَ فَشَفَاهُمْ" (مر 6: 5).
(4) صنع للمولود أعمى عينين من الطين وطلب منه أن يذهب ليغتسل في بركة سلوام.
(5) استخدم حاسة اللمس كما فعل مع هذا الرجل الأصم الأعقد، وأجرى معجزة تفتيح أعين الأعمى في بيت صيدا باللمس على مرحلتين (مر 8: 22 - 25).
ويقول "القس سمعان كلهون": " وربما نسأل: لماذا شفى المسيح هذا الأصم بهذه الطريقة ومنفردًا عن الجمع؟ فنجيب: نحن لا نشك في حكمة المسيح، ولا نسأل لماذا استخدم في معجزاته طرقًا متنوعة، فأنه كان أحيانًا يأمر فقط، وأحيانًا يلمس، وأحيانًا يُرسل المصاب ليغتسل في إحدى البرك، وأحيانًا يشفي في وسط الجمع، وأحيانًا يأخذ المُصاب إلى مكان منفرد كما جرى في هذه الحادثة، التي وإن كنا لا نرى في الأصم ذاته سببًا لهذا الانفراد، إلَّا أننا نرى في الأحوال المحيطة ما يدعو إلى ذلك. فعمل كهذا إذ صُنِع ظاهرًا في مثل هذا الوقت وسط وثنيين ربما كانوا يظنون أن المسيح ساحر عظيم، ولذلك أخذ المريض على انفراد وشفاه ثم ردَّه إلى أصحابه. فقال اليهود أنه عمل كل شيء حسنًا، والأمم مجدوا إله إسرائيل بالمقارنة مع آلهتهم" (363).
لقد أراد السيد المسيح أن يدرك هذا الرجل مدى محبته له واهتمامه به، فأنفرد به عن الجمع، ولم يكتفِ السيد المسيح بأن ينطق بكلمة فيُشفى هذا الرجل، أو يضع يده عليه فينال الشفاء الكامل، إنما بدأ بشفاء أذنيه بأن وضع أصابعه فيهما، فإن كان هذا الرجل فَقَدَ حاسة السمع، إلَّا أنه لم يفقد الإحساس، فيتكلم معه الرب يسوع بطريقة اللمس التي تناسبه، ولا بد أنه شاهد وأحسَّ بأصابع يسوع تقترب إلى مكان العلة. والأصبع يشير لعمل الروح القدس كقول السيد المسيح: " إِنْ كُنْتُ بِأَصْبعِ الله أُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ فَقَدْ أَقْبَلَ عَلَيْكُمْ مَلَكُوتُ الله" (لو 11: 20).. " لكِنْ إِنْ كُنْتُ أَنَا بِرُوحِ الله أُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ فَقَدْ أَقْبَلَ عَلَيْكُمْ مَلَكُوتُ الله" (مت 12: 28). وعندما استخدم السيد المسيح أصابعه في شفاء هذا الأصم فهو يُعلن أن جسده هو الجسد الشافي المحيي، لأنه متحد باللاهوت.
وكان هذا الرجل أعقد، فلديه تعوَّق في الكلام وليس أخرس تمامًا، فيقول "دكتور موريس تاوضروس": " اعقد mogilalon تتكون الكلمة من جزئين: mogis وتعني صعوبة، وlalos وتعني: يتكلم، فيكون معنى الكلمة: يتكلم بصعوبة أو يعاني من تعويق في الكلام. وعلى ذلك فلم يكن أخرسًا بوجه مُطلّق. ويتضح هذا بالأكثر من عدد 35 حيث يُقال: "وَتَكَلَّمَ مُسْتَقِيمًا" (أو صحيحًا أو بسهولة). وفي اللغة الإنجليزية تُترجم الجملة: (he spoke correctly rightly, plainly, properly) (364).
لقد تفل السيد المسيح على أصبعه ودهن لسان الأعقد ليرطّب بهذا التفل اللسان المعتل باليبوسة... كان هذا الرجل أصم فوضع أصابعه في أذنيه ومنحه السمع، وكان أعقد فتفل السيد المسيح ولمس لسانه، وكان إنسانًا أمميًّا لا يعرف مصدر الشفاء ولذلك رفع السيد المسيح عينيه إلى السماء، وقد أخذه جانبًا ليكون أول صوت يسمعه هو صوت الرب يسوع، وأول إنسان يتحدث معه أيضًا هو الرب يسوع الذي قدم له الحب الشافي.
وجاء في "التفسير العربي المعاصر": " ويقوم يسوع هنا بعمل الشفاء بأفعال تُذكّر القارئ بعملية الخلق إذ يلمس بيده الإنسان، ثم يتفل وكأن يصنع... طينًا، وأخيرا قال "أفتح" (تك 2: 7)، ففي العالم القديم كانوا يعتقدون أن للعاب الرجل القوي والقائد قوة خارقة تُشفي الأمراض" (365). لقد حقَّق السيد المسيح نبوة إشعياء النبي عنه، إذ بقوته جعل: ".. آذَانُ الصُّمِّ تَتَفَتَّحُ. وَيَتَرَنَّمُ لِسَانُ الأَخْرَسِ" (إش 35: 5 - 6) وهذا ما شهدت به الجموع عقب هذه الحادثة قائلين: " إِنَّهُ عَمِلَ كُلَّ شَيْءٍ حَسَنًا جَعَلَ الصُّمَّ يَسْمَعُونَ وَالْخُرْسَ يَتَكَلَّمُونَ" (مر 7: 37).
وفي وصف لهذا الحدث: " لا بد أن المشهد كان دراميًا بالنسبة للرجل. فقد رأى كل شيء، ولا بد أن انتباهه وهو واقف وجهًا لوجه أمام يسوع كان متابعًا لكل حركة من حركات يسوع. لا بد أن إيمان هذا الرجل تشجع بصورة هائلة عندما لمس يسوع لسانه المتعثر ووضع أصابعه في أذني الرجل. لا بد أن حسًا هائلًا من المتوقع تحرك داخل جسد هذا الرجل" (366).
ويقول "مارأفرام السرياني" عن السيد المسيح: " الذي لا يسبر غوره نزل متدثرًا أعضاء حسيَّة، فيسهل على المعوزين أن يدنوا منه. وهم إذ لمسوا ناسوته شعروا بلاهوته، فأن ذاك الأخرس شعر باقتراب (الرب) إلى أذنيه ومس لسانه بأصابعه الجسدية. فبأصابعه الملموسة شعر (الأخرس) بلاهوته غير الملموس، وذلك لما كان (اللاهوت) يحل رباط لسانه، ويفتح أبواب أذنيه المسدودتين. فقد جاء إليه مهندس الجسد وصانع الجسم. وبصوته الرخيم فتح من غير ألم ثقبين لأذنين مصابتين بالصم، فنطق الفم المعقود... فمن منح آدم أن ينطق فجأة بدون أن يتعلم ووهب الخُرس أن ينطقوا بطلاقة باللغات التي يصعب إتقانها؟!!" (367).
ولماذا أنَّ السيد المسيح؟.. لقد أنَّ السيد المسيح أي تنهَّد بروحه عطفًا وشفقة على البشرية وما آلت إليه، فأن الله لم يخلق الإنسان بهذه الصورة المعوَّقة، إنما خلقه على صورته ومثاله، في أجمل حالة، وإنما الخطية التي دخلت إلى العالم قد شوَّهت هذه الصورة الجميلة... هنا نقف أمام لقطة رائعة التقطها مارمرقس الرسول جسَّمت مشاعر السيد المسيح الذي رفع عينيه إلى السماء وأنَّ وتنهَّد... ألم يبكي عند قبر لعازر..؟!! قال السيد المسيح لهذا الرجل الأصم الأعقد " إِفَّثَا" أي "انفتح" أو "تحرَّر"، وبهذا الأمر الإلهي عاد للرجل سمعه وانطلق لسانه مسبحًا الله.
_____
(362) الإنجيل بحسب القديس مرقس ص 355، 356.
(363) اتفاق البشيرين ص 285، 286.
(364) المدلولات اللاهوتية والروحية لكلمات الإنجيل بحسب القديس مرقس ص 67.
(365) التفسير العربي المعاصر للكتاب المقدَّس ص 1777.
(366) الأفكار الرئيسية للعظات الكتابية ج 3 إنجيل مرقس ص 130.
(367) التفسير المسيحي القديم للكتاب المقدَّس - العهد الجديد (2) الإنجيل كما دوَّنه مرقس ص 162.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/514.html
تقصير الرابط:
tak.la/t8wbwfb