س498: لماذا ارتبط اسم العشارين باسم الخطاة (مر 2: 15)؟ وكيف يقبل السيد المسيح عشارًا ظالمًا خاطئًا ليكون تلميذًا له (مر 2: 14)؟ وكيف يجلس ويأكل السيد المسيح مع العشارين والخطاة (مر 2: 16)؟
ج: 1- لماذا ارتبط اسم العشارين باسم الخطاة (مر 2: 15)؟.. كان العشار رجل يهودي يحصل الجزية والضرائب من الشعب اليهودي لحساب المستعمر الروماني، وراتبه يمثل نسبة مما يحصله، فغالبًا كان يحصل على عشر ما يحصله، وكان تقدير الضرائب تقدير جزافي، والعشار يبالغ في رقم الضرائب ليحقق حصيلة أكبـر، وبذلك يزداد راتبه مدفوعًا بطمعه، وكان للعشار سلطة قضائية حتى أنه كان يُنكّل بكل من يعجز أو يمتنع عن دفع ما يريده، وكأن قلبه كدَّ من حديد، فلا يعرف للرحمة مسلكًا ولا للرأفة طريقًا، فيُلقي عائل الأسرة في السجن ولا يلتفت إلى ما تتعرض له الزوجة والأولاد من فاقة ومجاعة، ولذلك اقترن اسم العشار باسم الخاطئ نظرًا لما يرتكبه من خطايا الطمع والظلم والقسوة والتجبُّر والقهر، وكان اليهود يعتبرون أن من يشارك العشار طعامه فهو يشاركه خطاياه. وقد سبق الحديث من قبل عن العشارين الذين وصفهم ألفريد إيديرشيم بالوقاحة المعهودة وأن تدخلهم في حياة الناس يثير الغيظ والحنق، كما تحدثنا عن نظام الضرائب المتعددة على الأشخاص والأراضي والمنقولات وكل شيء في ظل الحكم الروماني الذي عانى منه اليهود وغيرهم من شعوب العالم، حتى أن الفلاحين في مصر كانوا يعجزون عن دفع ما عليهم من ضرائب، فكانوا يهربون تاركين أراضيهم وأسرهم ويتوهون في المدن الكبرى مثل الإسكندرية، وتتحمل أسرهم عقوبة هروب رب العائلة، وكان العشارون يوقفون قوافل التجارة وقتًا طويلًا ويجعلونهم يفرشون كل ما يحملونه أرضًا (راجع مدارس النقد - عهد جديد - مقدمة (1) س 26).
والأمر العجيب في قصة العشار أنه كان لاويًا، أي لم يكن مكانه مكان الجباية، إنما كان مكانه الطبيعي في الهيكل بين الذبائح وتسبيحات إسرائيل، ولكن عوضًا أن يكون مكرَّس ومقدَّس للرب اختار أن يكرّس نفسه للمال ومقتنيات هذا العالم، وإذ ارتضى أن يعمل كعشار صار مكانه عند مكان الجباية موضع الظلم والقهر والقسوة، وجاء في هامش الترجمة اليسوعية ص 132: " كانوا يجبون "الرسوم" على البضائع التي تدخل المدينة أو تخرج منها. كانت كفرناحوم على الحدود الفاصلة بين منطقة هيرودس أنتيباس ومنطقة فيلبس (أمير ربع خراخونيطس). كانت جباية الرسوم والضرائب من تنظيم الرومانيين لكنها كانت تُؤجر لأناس يستعينون بصغار الموظفين. كان يجوز لبعض المدن أو الملوك الخاضعين لروما أن يجبوا لصالحهم رسوم مرور. وهذا ما كان شأن هيرودس أنتيباس".
2- كيف يقبل السيد المسيح عشارًا خاطئًا ليكون تلميذًا له (مر 2: 14)؟.. سمع لاوي العشار تعاليم السيد المسيح فحركت أعماقه، ولا سيما بعض العبارات التي تلمس حياته مثل قول المعلم الصالح: " فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي وَمِنْ أَجْلِ الإِنْجِيلِ فَهُوَ يُخَلِّصُهَا. لأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ الْعَالمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ" (مر 8: 35 - 36)، وكاشف الخبايا وفاحص القلوب والكُلى رأى هذا فدعاه، وعندما دعاه بكلمة واحدة ترك كل شيء وتبعه: " اتْبَعْنِي. فَقَامَ وَتَبِعَهُ" (مر 2: 14). ويقول "الأب متى المسكين": " ويُلاحظ أن دعوة لاوي "اتْبَعْنِي" قبلها في الحال فقام وتبعه. وهذه الاستجابة أهَّلته بالفعل أن يكون تلميذًا ورسولًا، وبهذا يُعتبر لاوي - متى - أقوى من كرَّم الدعوة في الحياة المسيحية، خاصة أنه كان يتعامل مع المال بإغراءاته وهمومه ومتعلقاته التي لا تنتهي. كيف قطع كل شيء وقام ولم ينظر وراءه. على هؤلاء قامت المسيحية بل قام ملكوت الله" (257).
كان التعامل مع العشارين خط أحمر لا يجرؤ إنسان أن يتغافله دون أن يقع تحت لوم وتبكيت المجتمع له، فجاء السيد المسيح ولم يلتفت لهذا اللوم وذاك التبكيت من القيادات الدينية وكسر هذا الحاجز وحطم الخط الأحمر، والتقى بهؤلاء الخطاة والعشارين لأنه يعلم ما بداخل كل إنسان، حتى قالوا عنه: " هُوَذَا إِنْسَانٌ أَكُولٌ وَشِرِّيبُ خَمْرٍ مُحِبٌّ لِلْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ" (لو 7: 34). لقد سبق وقال عنه إشعياء النبي: " رُوحُ السَّيِّدِ الرَّبِّ عَلَيَّ لأَنَّ الرَّبَّ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ أَرْسَلَنِي لأَعْصِبَ مُنْكَسِرِي الْقَلْبِ لأُنَادِيَ لِلْمَسْبِيِّينَ بِالْعِتْقِ وَلِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ" (إش 61: 1) (لو 4: 18، 19).. لقد جاء إلى العالم ليُفرِح القلوب التي كسرتها الخطية والنفوس الحزينة، جاء ليدعو الخطاة والعشارين إلى وليمة العُرس السمائي، وصنع أول معجزاته في عُرس قانا الجليل، فكيف يُلام لأنه أختطف نفسًا من أنياب الشيطان. يقول "القديس كيرلس الكبير": " كان لاوي عشارًا يهيم وراء الكسب المرذول لا حد لجشعه الممقوت، يزدري بقانون العدل والإنصاف حبًا في تملك ما ليس له، فهذه الخُلق الذميمة أشتهر بها العشارون إلَّا أن المسيح أختطف أحدهم وهو غارق في بحر الأثم والرذيلة، ودعاه إليه وأنقذه وخلصه إذ قيل: "فَقَالَ لَهُ اتْبَعْنِي. فَتَرَكَ كُلَّ شَيْءٍ وَقَامَ وَتَبِعَهُ" (لو 5: 27، 28). فما أصدق بولس المغبوط وهو يصف المسيح بأنه: "جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ لِيُخَلِّصَ الْخُطَاةَ" (1تي 1: 15) أفلا ترون كيف أن كلمة الله الابن الوحيد وقد أخذ لنفسه جسدًا يرد إلى نفسه عبيد أبليس وممتلكاته" (258).
رأى الكتبة والفريسيون في هذا الرجل العشار أنه خاطئ مكروه ومنبوذ ومرذول، أما السيد المسيح فاحص القلوب والكُلى فقد عرف أنه سيضحي بكل شيء من أجل تبعيته له، سيترك عمله ووظيفته، فهو ترك أكثر مما ترك بطرس وأندراوس ويعقوب ويوحنا، ويقول "وليم باركلي": " لقد كان سهلًا على بطرس ويعقوب ويوحنا أن يرجعوا إلى عملهم، فالسفينة والشبكة والبحيرة موجودة، أما متى فكان كمن أحرق كل سفنه وحطم الكباري من وراءه، لكي لا يرجع إلى الوراء، حدث هذا في لحظة تصميم حاسمة، ترك كل شيء وإلتصق بيسوع... ولم يكن متى مخطئًا في عمله هذا... أنه ترك كل شيء ماعدا شيئًا واحدًا: قلمه... أسلوبه المنظم وعقله الرياضي المرتب ساعداه على جمع تعاليم يسوع في مجموعات جميلة تعتبر أمجد ما كتب إنسان" (259).
وصدق اختيار السيد المسيح، فهوذا متى التلميذ المُخلص، والخل الوفي، والرسول الباذل المعطاء الذي ذهب إلى الحبشة والهند ينقل لهم النور الإلهي، الذي كتب بشارته وما زال يكرز بواسطتها يومًا فيومًا، الشهيد العظيم... فأي مجد هذا.
← انظر باقي سلسلة كتب النقد الكتابي هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت للمؤلف.
3- كيف يجلس ويأكل السيد المسيح مع العشارين والخطاة (مر 2: 16)؟.. لقد شخَّص الطبيب الشافي حالة هؤلاء العشارين والخطاة، فما هم إلَّا مرضى بمرض الخطية، في حاجة للطبيب الماهر الذي يشفق ويحنو عليهم، وليس للذين يدينونهم ويصبون عليهم الويلات، ولذلك أقترب منهم وفتح لهم أحضانه ومكَّن لهم محبته الإلهيَّة. ويقول "القديس غريغوريوس النزينزي": " ألا تشتكي لأنه يخالط الخاطئين ويتخذ أحد جباة الضرائب تلميذًا له، وتقول ما هي الفائدة التي يجتنيها من فعله هذا؟ أنها خلاص الخاطئين. أن نلوم يسوع لمخالطته الخاطئين هو كلوم الطبيب الذي ينحنى فوق المريض ويحتمل الروائح الكريهة من أجل شفائه" (260).
ويقول "الأب متى المسكين": " نعم لقد لاق بالمسيح أن يُدعى ابن الإنسان حتى يجد فيه كل إنسان ما يعوّض نقصه ويكمّل طهارته ويجد فيه أخًا يتكرَّم به ويتمجَّد. لم يعد ق. بطرس وحده هو الذي يفتخر قائلًا نحن الذين أكلنا معه وشربنا، بل العشارون والخطاة والزواني بكل صنف لهم ذات الفخر. فهو الأخ الأكبر للإنسانية بأجمعها والكل يفتخر بأنه أكل وشرب معه. لقد حطم المسيح قانون النجس والطاهر حينما قال لبطرس: "مَا طَهَّرَهُ الله لاَ تُدَنِّسْهُ أَنْتَ" (أع 10: 15). فليس فقط من يأكل بل من يلمس المسيح يُطهَّر ويقف نزف خطيته... لقد أحبه هؤلاء الخطاة واللصوص والزناة والمستضعفون والتفوا حوله، ساروا معه وجروا وراءه أينما ذهب ووجدوا عنده في قلبه وفي بيته وعلى مائدته مكانًا يسعهم، وصارت لهم دالة عليه يتحدَّثون معه ويسمعون إليه، وفهموا رسالته وقرأوا إنجيله قبل أن يقرأه هؤلاء الكتبة والفريسيون، وآمنوا به وأحبوه وتابوا على يديه ونذروا حياتهم له" (261).
_____
(257) الإنجيل بحسب القديس مرقس ص 175.
(258) أورده القمص تادرس يعقوب - الإنجيل بحسب القديس مرقس ص 54.
(259) ترجمة الدكتور القس فهيم عزيز - تفسير العهد الجديد - إنجيل مرقس ص 74، 75.
(260) التفسير المسيحي القديم للكتاب المقدَّس - العهد الجديد (2) كما دوَّنه مرقس ص 70.
(261) الإنجيل بحسب القديس مرقس ص 176 - 178.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/498.html
تقصير الرابط:
tak.la/63qtx6s