س429: كيف يُجيّش اليهود كل ذلك الجمع الذين يحملون السيوف والعصي لمجرد القبض على شخص واحد (مت 26: 47)؟ ولماذا اختلفت قصة القبض على المسيح في إنجيل متى حيث احتاجوا إلى من يعرفهم على يسوع الذي عاش وسطهم يعلمهم ويصنع المعجزات، فاتخذوا يهوذا دليلًا حتى قبَّله فأمسكوا به (مت 26: 48 - 50) عنها في إنجيل يوحنا حيث خرج يسوع للقائهم وسألهم من تطلبون؟ وعندما سقطوا على وجوههم انتظرهم وأعاد عليهم السؤال، واشترط عليهم أن يتركوا تلاميذه يمضون (يو 18: 4 - 8)؟ وكيف يدعو يسوع التلميذ الخائن بقوله " يَا صَاحِبُ" (مت 26: 50)؟
يقول "الأمام محمد أبو زهرة": "وقد اختلف خبر القبض على المسيح لمحاكمته في متى عن يوحنا... وترى هنا خلافًا بيّنًا بين الروايتين، فمتى يقول أن يهوذا هو الذي أعلمهم بالمسيح بالعلامة التي اتفق معهم عليها، وهيَ تقبيله، ويوحنا يقول أن المسيح هو الذي قدم نفسه وكفى يهوذا مئونة التعريف، ولا شك أن ذلك الاختلاف البيّن في رواية حادثة واحدة يجعل إحدى الروايتين كاذبة والثانية صادقة، والكاذبة ليست بإلهام، فأحدهما ليست بإلهام، ولا سبيل إلى معرفتها فيثبت الشك في الروايتين" (208).
ج: 1- كيف يُجيّش اليهود كل ذلك الجمع الذين يحملون السيوف والعصي لمجرد القبض على شخص واحد..؟ اجتمع الكهنة والكتبة وشيوخ الشعب: "وَتَشَاوَرُوا لِكَيْ يُمْسِكُوا يَسُوعَ بِمَكْرٍ وَيَقْتُلُوهُ. وَلكِنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ فِي الْعِيدِ لِئَلاَّ يَكُونَ شَغَبٌ فِي الشَّعْب" (مت 26: 4، 5)، لأن هناك آلاف من أتباع يسوع ومُحبيه، ومنهم أهل الجليل موطنه المعروفين بالثورة، فهم مستعدون أن يزودوا عنه بأرواحهم، لهذا رأت القيادات اليهودية تأجيل القبض على يسوع إلى فترة ما بعد الأعياد، ولكن عندما ذهب إليهم يهوذا تلميذه وعرض عليهم هذا العرض الذي أفرحهم، بأن يسلم لهم معلمه في خلو من جمع، في هدوء وبدون أية شوشرة ولا سفك دماء، حينئذ تشجعوا ومنحوه المقابل لهذا العمل الدنيء ثلاثين من الفضة، ولكي لا يُحمّل الوالي الروماني رئيس الكهنة مغبة أي شغب قد يحدث، فيقيله من منصبه لذلك رأى قيافا وأعوانه أن يلجأوا إلى الوالي ليساعدهم في القبض على ذلك الإنسان المخل بالأمن، فاستجاب بيلاطس لهم وأرسل معهم قائد ألف مع بعض جنوده الرومان " إِنَّ الْجُنْدَ وَالْقَائِدَ" (يو 18: 12) وهؤلاء كانوا يحملون السيوف، واستغل رئيس الكهنة سلطانه، فأرسل معهم بعض من حراس الهيكل، وانضم إليهم بعض الخدم الذين سعوا لإرضاء سادتهم على حساب يسوع الحق، ولم يخلو الجمع من رؤساء الكهنة والدهماء. كان البعض منهم يعرفه جيدًا لأنه كان يُعلّم دائمًا في الهيكل، ولكن ربما الجنود الرومان لم يعرفونه، فاحتاجوا ليهوذا ليدلهم على مكان وجوده. أما الهدف من قبلة يهوذا فهيَ أن يعطله ويشل حركته حتى يتمكنوا منه، وكان هذا الجمع يتوقع أن يسوع ربما يكون معه بعض أتباعه، ولا بد أن تلاميذه سيقاتلون عنه، وربما جاز في وسطهم ومضى كما حدث ذلك قبل هذا أكثر من مرة، وربما أجرى أعجوبة تشتتهم، ولذلك جاء كل هذا الجمع المسلح بالسيوف والعصي: "فَأَخَذَ يَهُوذَا الْجُنْدَ وَخُدَّامًا مِنْ عِنْدِ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ، وَجَاءَ إِلَى هُنَاكَ بِمَشَاعِلَ وَمَصَابِيحَ وَسِلاَحٍ" (يو 18: 3).
2- لماذا اختلفت قصة القبض على المسيح في إنجيل متى حيث احتاجوا إلى من يعرفهم على يسوع الذي عاش وسطهم يعلمهم ويصنع المعجزات، فاتخذوا يهوذا دليلًا حتى قبَّله فأمسكوا به (مت 26: 48 - 50) عنها في إنجيل يوحنا حيث خرج يسوع للقائهم وسألهم من تطلبون؟ وعندما سقطوا على وجوههم انتظرهم وأعاد عليهم السؤال، واشترط عليهم أن يتركوا تلاميذه يمضون (يو 18: 4 - 8)..؟ ليس هناك خلافًا في قصة القبض على يسوع في إنجيل متى (مت 26: 48 - 50) عنها في إنجيل يوحنا (يو 18: 4 - 8)، وليس بينهما تناقض على الإطلاق، إنما القصتان تتكاملان، فقد كان يسوع يصلي في خلوته، وعندما جاءت الساعة التي حدَّدها هو ليسلم نفسه ترك مكان خلوته مع تلاميذه الثلاث بطرس ويعقوب ويوحنا، وعاد إلى بقية تلاميذه، فأعلمهم أن الوقت حان لتسليم نفسه. وتقدم للقاء الجمع الهادر، يتقدمهم يهوذا الذي اقترب منه وقبَّله: "فَلِلْوَقْتِ تَقَدَّمَ إِلَى يَسُوعَ وَقَالَ السَّلاَمُ يَا سَيِّدِي وَقَبَّلَهُ فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ يَا صَاحِبُ لِمَاذَا جِئْتَ؟" (مت 26: 49، 50). وكلمة " أُقَبِّلُهُ" في قول يهوذا: "الَّذِي أُقَبِّلُهُ هُوَ هُوَ أَمْسِكُوهُ" (مت 26: 48) في الأصل اليوناني Plilien وهيَ تعبر عن التقبيل العادي، أما كلمة " قَبَّلَهُ" التي استخدمها القديس متى: "وَقَالَ السَّلاَمُ يَا سَيِّدِي وَقَبَّلَهُ" في الأصل اليوناني Katephilysen فهيَ تشير للتقبيل الحار المتكرّر المصحوب بالعاطفة، فيقول "دكتور موريس تاوضروس": "الفعل في اليونانية مركَّب، وهذا التركيب يشير إلى أن التحية تتم في شيء من التباهي وتأكيد الولاء، أي يمكن القول هنا أن ما تم لم يكن مجرد قبلة بل سبق ذلك معانقة واحتضان. لقد عانق يهوذا السيد المسيح واحتضنه ثم قبَّله... أُستعمل نفس الفعل عن الأب عندما استقبل ابنه التائب... (لو 15: 20)"(209). ويقول "دكتور موريس بوكاي": "كانت العادة في فلسطين أن يحيى الناس بعضهم البعض بقبلة على الخد"(210).
وبعد أن سمح يسوع ليهوذا أن يقبَّله، ثم التفت للجمع: وَقَالَ لَهُمْ مَنْ تَطْلُبُونَ. أَجَابُوهُ يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ. قَالَ لَهُمْ أَنَا هُوَ. وَكَانَ يَهُوذَا مُسَلِّمُهُ أَيْضًا وَاقِفًا مَعَهُمْ" (يو 18: 4، 5). كان يهوذا ملتحمًا مع الجمع وصار يسوع في متناول أيديهم، ولكن حدث أمر عجيب، إذ بمجرد قول يسوع لهم " أَنَا هُوَ" سقطوا على وجوههم، فتعبير " أَنَا هُوَ" تعبير عن اللاهوتية، وفي العبرية " أَهْيَه" أي الكائن " أَهْيَه الذي أَهْيَه" (خر 3: 14) أي "الكائن الذي يكون" أو "أنا أكون أو "الكائن بذاته" أو "الواجب الموجود" " فَلَمَّا قَالَ لَهُمْ إِنِّي أَنَا هُوَ رَجَعُوا إِلَى الْوَرَاءِ وَسَقَطُوا عَلَى الأَرْضِ" (يو 18: 6). وبالطبع لم يقصد السيد المسيح أن يسقطهم أمامه كنوع من الإرهاب، لكن كان من الضرورة أن يطمئن على تلاميذه، ولذلك قال لهؤلاء الغوغاء: "فَإِنْ كُنْتُمْ تَطْلُبُونَنِي فَدَعُوا هؤُلاَءِ يَذْهَبُونَ" (يو 18: 8)، وبهذا تمَّم وعده: "الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي حَفِظْتُهُمْ، وَلَمْ يَهْلِكْ مِنْهُمْ أَحَدٌ" (يو 17: 12).
وكانت الفرصة مُهيأة ليسوع عندما سقطوا على وجوههم أن يتوارى عن أعينهم، ولكنه لم يفعل هذا، لأنه لأجل هذه الساعة قد جاء (يو 12: 27)، فانتظرهم حتى نهضوا من كبوتهم: "فَسَأَلَهُمْ أَيْضًا مَنْ تَطْلُبُونَ؟ فَقَالُوا يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ. أَجَابَ يَسُوع قَدْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي أَنَا هُو" (يو 18: 7، 8). وفي هذه اللحظة: "حِينَئِذٍ تَقَدَّمُوا وَأَلْقَوْا الأَيَادِيَ عَلَى يَسُوعَ وَأَمْسَكُوهُ" (مت 26: 50). هنا نلاحظ أن القديس يوحنا لم يشأ أن يكرر قصة تقبيل يهوذا ليسوع التي ذكرتها الأناجيل الأزائية -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى- لكنه أضاف قصة قبض الغوغاء على يسوع وسقوطهم أمامه، فانفرد بذكر هذا الحدث، ولم يذكر القديس متى قصة القبض هذه ليس لأنه لا يعرف شيئًا عنها لأنه كان شاهد عيان، إنما هذا يتمشى مع أسلوبه في الاختصار (راجع مدارس النقد - عهد جديد جـ3 س151). إذًا هناك تكامل بين الأناجيل وليس تناقضًا، فلم يذكر أحدهما أن يهوذا قبَّل يسوع ونفاها الآخر، ولم يذكر أحدهما سقوط الجمع أمامه ونفاها آخر (راجع كتاب الهداية جـ1 ص246 - 248).
3- كيف يدعو يسوع التلميذ الخائن بقوله " يَا صَاحِبُ"..؟ ياللعجب... لقد سمح يسوع العالِم بكل شيء لتلميذه الخائن أن يقترب منه ويقَّبله، قبلة يوآب لعماسا: "فَقَالَ يُوآبُ لِعَمَاسَا أَسَالِمٌ أَنْتَ يَا أَخِي؟ وَأَمْسَكَتْ يَدُ يُوآبَ الْيُمْنَى بِلِحْيَةِ عَمَاسَا لِيُقَبِّلَهُ. وَأَمَّا عَمَاسَا فَلَمْ يَحْتَرِزْ مِنَ السَّيْفِ الَّذِي بِيَدِ يُوآبَ فَضَرَبَهُ بِهِ فِي بَطْنِهِ فَدَلَقَ أَمْعَاءَهُ إِلَى الأَرْضِ وَلَمْ يُثَنِّ عَلَيْهِ فَمَاتَ" (2صم 20: 9، 10)، وتزداد قبلة يهوذا بشاعة إذ حدثت في أيام الفصح المقدَّسة. ويقول "القديس يوحنا الذهبي الفم": "كان الذي سلَّمه قد جعل له علامة، إذ قال: هوذا الذي أقبَّله فأمسكوه. ياللعجب، كم غاصت نفس الخائن في الشرور، بأية عين نظر إلى معلمه؟ بأي فم قبَّله؟ يالرجاسة فكره! ماذا ابتغى! علآم أقدم؟ أي علامة لخيانته أعطى؟ قال أنه الذي أقبَّله، شجعه لطف السيد بدلًا من أن يخجله. حرمته القبلة كل عذرٍ، لأنه خان الحليم. ولماذا قال "أمسكوا الذي أُقبَّل"؟ لأن يسوع كثيرًا ما كان يخرج من بين الذين كانوا يخططون للقبض عليه"(211).
وقال السيد المسيح لتلميذه الخائن: "يَا صَاحِبُ، لِمَاذَا جِئْتَ؟" (مت 26: 50)، فجاءت هذه الكلمة " يَا صَاحِبُ" تعبيرًا عن لطف مُخلصنا الصالح، وهيَ كلمة افتقاد من الراعي الصالح للخروف الذي وضع أقدامه على طريق الهاوية، لعل هذه الكلمة " يَا صَاحِبُ" تذكّر يهوذا بالأيام الحلوة التي قضاها مع معلمه الصالح الطيب الذي أحبه، ولم يُسيء له قط، حتى غسل قدميه، ولعل هذه الكلمة " يَا صَاحِبُ" تذكّر يهوذا بقول المزمور: "رَجُلُ سَلاَمَتِي الَّذِي وَثِقْتُ بِهِ آكِلُ خُبْزِي رَفَعَ عَليَّ عَقِبَهُ" (مز 41: 9).. " أَنْتَ إِنْسَانٌ عَدِيلِي إِلْفِي وَصَدِيقِي. الَّذِي مَعَهُ كَانَتْ تَحْلُو لَنَا الْعِشْرَةُ. إِلَى بَيْتِ اللَّهِ كُنَّا نَذْهَبُ فِي الْجُمْهُورِ" (مز 55: 13، 14). وفي إنجيل لوقا قال يسوع ليهوذا: "يَا يَهُوذَا. أَبِقُبْلَةٍ تُسَلِّمُ ابْنَ الإِنْسَانِ" (لو 22: 48) أسلوب رقيق للغاية، ولكن له وقع السياط لمن يفهم ويدرك ويعي... القبلة التي تعبر عن أسمى معاني الحب والاخلاص والوفاء والصداقة دنسها يهوذا بالقبلة الغاشة " وَغَاشَّةٌ هيَ قُبْلاَتُ الْعَدُوِّ" (أم 27: 6)، ومن جانب آخر تسببت هذه القبلة الغاشة آلامًا ليسوع النسمة الرقيقة، " أَنْعَمُ مِنَ الزُّبْدَةِ فَمُهُ وَقَلْبُهُ قِتَالٌ. أَلْيَنُ مِنَ الزَّيْتِ كَلِمَاتُهُ وَهِيَ سُيُوفٌ مَسْلُولَةٌ" (مز 55: 21).. قال المثل اليوناني: "التقبيل شيء والمحبة شيء آخر"، وقال المثل اللاتيني: "في الفم عسل وفي القلب مرارة". ويقول "القديس يعقوب السروجي": "من هو الخروف الذي قلب نفسه ذئبًا وبدأ يعض الراعي الصالح" (212).
وهكذا سيظل يسوع رقيقًا لطيفًا هادئًا، كما كان مع الطامع في أجرة أعلى: "يَا صَاحِبُ مَا ظَلَمْتُكَ أَمَا اتَّفَقْتَ مَعِي عَلَى دِينَارٍ" (مت 20: 13)، وكما كان مع الإنسان الذي ليس عليه ثياب العرس: "يَا صَاحِبُ كَيْفَ دَخَلْتَ إِلَى هُنَا وَلَيْسَ عَلَيْكَ لِبَاسُ الْعُرْسِ" (مت 22: 12). وجاء في "تفسير إنجيل متى" لمجموعة من أشهر مفسري الكتاب المقدَّس ص280، 281: "إن تصرفات يسوع البطولية في كل ظروف آلامه، تلاحظها كل عين وذهن يقظ، ويشعر بها كل قلب نقي، ولو أن كتبة الوحي حسب عادتهم وبساطتهم الغير العادية لم يشددوا عليها. فبأي صورة يخرج ليقابل الخائن! وبأي هدوء يقبل القبلة الغاشة الحاقدة! وبأي رصانة وهدوء يسلم نفسه إلى أيدي أعدائه، إلاَّ أنه ببساطة يظهر تفوقه عليهم ويقود أسراره (أسريه) أسرى".
_____
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/429.html
تقصير الرابط:
tak.la/2wjc8r8