س409: لماذا لم يُجُدْنَ العذارى الحكيمات بشيء من زيتهن لصديقاتهن اللاتي فرغ منهن الزيت (مت 25: 9)؟ وما دام المَثَل يُمثل زفاف البشرية للمسيح، فما الداعي لغلق الباب (مت 25: 10) ؟ وهل يمكن لمن كرَّس حياته لإلهه أن يفقد مصيره الأبدي من أجل قليل من الزيت (مت 25: 12)؟
ج: 1- لماذا لم يُجُدْنَ العذارى الحكيمات بشيء من زيتهن لصديقاتهن اللاتي فرغ منهن الزيت..؟ عندما جاء العريس واكتشفت الجاهلات أنهن خاليات الوفاض، فلا زيت في آنيتهن، فكيف تُضئ مصابحهن، ولذلك إلتجأن للحكيمات قائلات: "أَعْطِينَنَا مِنْ زَيْتِكُنَّ فَإِنَّ مَصَابِيحَنَا تَنْطَفِئُ. فَأَجَابَتِ الْحَكِيمَاتُ قَائِلاتٍ: لَعَلَّهُ لاَ يَكْفِي لَنَا وَلَكُنَّ بَلِ اذْهَبْنَ إِلَى الْبَاعَةِ وَابْتَعْنَ لَكُنَّ" (مت 25: 8 ، 9).. لهجة توسل لا تجد استجابة: "فَهَلْ لَكَ مِنْ مُجِيبٍ وَإِلَى أَيِّ الْقِدِّيسِينَ تَلْتَفِتُ" (أي 5: 1) محاولة يائسة للجاهلات يلتمسن زيتًا من الحكيمات، وإجابة الحكيمات تأتي قاسية مخيبة للآمال، لا تتفق مع المنطق ولا مع العقل ولكنها تعكس هول الصدمة ورهبة اللحظة... كيف يذهبن للباعة وهوذا الليل قد انتصف وأُغلقت المتاجر أبوابها وخلد أصحابها للنوم، ولم يكن هناك إجابة مقنعة أخرى، فقد جهل من قد جهل أن طبيعة هذا الزيت أنه لا يصلح إلاَّ لاستخدام صاحبه وحده، ولا يستطيع إنسان أن يمنح من زيته لآخر، فلسان حال الجميع: "إِنْ كَانَ الْبَارُّ بِالْجَهْدِ يَخْلُصُ فَالْفَاجِرُ وَالْخَاطِئُ أَيْنَ يَظْهَرَانِ" (1 بط 4: 18).. البار بالجهد يخلص أي ليس له فائض من الزيت، ولن يُوجد الإنسان الذي يزيد زيته عن احتياجه الضروري، وليس لإنسان قداسة أكثر من احتياجه، ونحن لا نعترف بزوائد القديسين، أي أن القديسين قد صنعوا أعمالًا عظيمة حتى أن مكافأتهم التي يستحقونها تزيد عن احتياجاتهم، فيودعون هذه الزيادات في خزانة الكنيسة ليوزع منه الكهنة لمن هم في احتياج، ولو كانت زوائد القديسين حقيقة لمنحت الحكيمات الجاهلات زيتًا من زيتهن، ولا سيما أنهن ارتبطن معًا بعشرة العمر. لا يستطيع الأب أن يُعطي ابنه فلذة كبده من زيته، ولا الأم تستطيع أن تُعطي ابنتها، لأن: "الأَخُ لَنْ يَفْدِيَ الإِنْسَانَ فِدَاءً" (مز 49: 7). ولا تُعد هذه قسوة من الحكيمات ولا أنهن فقدن فضيلة العطاء عندما لم يُعطين الجاهلات من زيتهن، فهن لا يستطعن هذا، فهذا الزيت يشبه ثوب العروس المطرَّز بأنواع كثيرة ولا ولا يمكن للعروس أن تتخلى عن أي جزء صغير منه، والحقيقة أن كل ما نملكه هو قليل قليل لكيما نظهر به أمام اللَّه، والحقيقة أيضًا أنها لحظات مُرعبة عندما يقف الإنسان أمام اللَّه لا زيت له وفي يده مصباح مطفأ!!.
2- ما دام المَثَل يمثل زفاف البشرية للمسيح، فما الداعي لغلق الباب..؟ العلاقة بين العريس وعروسه علاقة سريَّة، فمن الطبيعي أن يُغلق الباب عليهما، وفي هذا المَثَل ذكر السيد المسيح غلق الباب حيث تُزف النفوس البشرية الأمينة لعريسها السماوي، وغلق الباب له معانيه العميقة:
أ - غلق الباب يُعطي أمانًا للنفوس المجاهدة المكلَّلة، فلن تخرج من نعيم المدينة المنيرة إلى الأبد، فغلق الباب هو مصدر فرح لتلك النفوس الأمينة، فلن يستطع عدو الخير وأعوانه أن يعاودوا شن هجماتهم، ولن يقدر أحد أن يختطفهم من بيت الآب بعد أن عبروا من خلال الرب يسوع: "الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنّي أَنَا بَابُ الْخِرَاف... أَنَا هُوَ الْبَابُ" (يو 10: 7، 9). لقد عبرت تلك النفوس من الشقاء للسعادة ومن الموت للحياة... قديمًا أُغلق اللَّه باب الفُلك على نوح وذويه (تك 7: 16) فنجوا من الطوفان، وفي اليوم الأخير يُغلق اللَّه باب الملكوت " يُغْلِقُ وَلاَ أَحَدٌ يَفْتَحُ" (رؤ 3: 7) فتسعد تلك النفوس الأمينة للأبد.
ب - غلق الباب يُمثل قمة المأساة للجاهلات، لن تستطيع نفس جاهلة أن تتسرب إلى داخل الملكوت، ومن يطرق الباب لن يسمع صوتًا إلاَّ صوت الديان القاضي العادل: "الْحَقَّ أَقُولُ لَكُنَّ إِنِّي مَا أَعْرِفُكُنَّ" (مت 25: 12)، فالعالم بكل شيء لا يعرف إلاَّ من عرفوه المعرفة الاختيارية: ""أَعْرِفُ خَاصَّتِي وَخَاصَّتِي تَعْرِفُنِي" (يو 10: 14)، ويقول "القديس يوحنا الذهبي الفم": "فإذا قال هذا (إني ما أعرفكن) فلا يبقى شيء آخر إلاَّ جهنم والعقوبة التي لا تُطاق، وهذه الكلمة أصعب من جهنم" (89).
3- وهل يمكن لمن كرَّس حياته لإلهه أن يفقد مصيره الأبدي من أجل قليل من الزيت (مت 25: 12)..؟ من يتأمل في هذا المَثَل يلاحظ أن جميع العذارى مكرَّسات للرب، لهن نفس الشكل، نفس الثياب، نفس المصابيح المُضاءة قبل النوم، نفس الآنية، نفس الهدف. أما الذي فرق بين العذارى الحكيمات والعذارى الجاهلات، هو أن الحكيمات خزَّن زيتًا في آنيتهن، الأمر الذي تجاهلته الجاهلات، فقد تغاضين عن هذا بإرادتهن، وربما تحت تأثير الأمل الكاذب حيث توهمن أنهن متى احتجن للزيت فسيجدونه متاحًا، فلم يكلفن أنفسهن بذل الجهد في تجميع الزيت، ولم يلتفتوا للوصية: "وَلِهذَا عَيْنِهِ وَأَنْتُمْ بَاذِلُونَ كُلَّ اجْتِهَادٍ قَدِّمُوا فِي إِيمَانِكُمْ فَضِيلَةً وَفِي الْفَضِيلَةِ مَعْرِفَةً. وَفِي الْمَعْرِفَةِ تَعَفُّفًا وَفِي التَّعَفُّفِ صَبْرًا وَفِي الصَّبْرِ تَقْوَى. وَفِي التَّقْوَى مَوَدَّةً أَخَوِيَّةً وَفِي الْمَوَدَّةِ الأَخَوِيَّةِ مَحَبَّةً. لأَنَّ هذِهِ إِذَا كَانَتْ فِيكُمْ وَكَثُرَتْ تُصَيِّرُكُمْ لاَ مُتَكَاسِلِينَ وَلاَ غَيْرَ مُثْمِرِينَ لِمَعْرِفَةِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (2 بط 1: 5 - 8). ويمثل الزيت أمانة الإنسان مع نفسه ومع إلهه ومع الآخرين، فمن عاش بالأمانة ومجَّد اسم اللَّه في حياته يكافئ، ولكن من عاش في جهالة وكسل علآم يكافئ؟!!.. الأمر الهام أن الكتاب لم يقل عن العذارى الجاهلات أنهن كن شريرات فاسقات، مثلهم مثل العبد الذي طمر وزنة سيده، فالكتاب لم يقل عنه أنه كان قاتلًا زانيًا سكيرًا، ومثلهم مثل الذين وقفوا على يسار الديان (مت 25: 41 - 46)، فجميع هؤلاء ظنوا أنهم ما داموا قد حفظوا أنفسهم من الشر، فهذا يكفي، فلم يسعوا لعمل الخير، فالخطية التي أدينوا بسببها هيَ خطية السلبية وعدم الإثمار.
وقد قال السيد المسيح: "مَنْ لَيْسَ مَعِي فَهُوَ عَلَيَّ وَمَنْ لاَ يَجْمَعُ مَعِي فَهُوَ يُفَرِّقُ" (مت 12: 30) ، وقال القديس يعقوب: "فَمَنْ يَعْرِفُ أَنْ يَعْمَلَ حَسَنًا وَلاَ يَعْمَلُ فَذلِكَ خَطِيَّةٌ لَهُ" (يع 4: 17). وقال "القديس يوحنا الذهبي الفم": "ليس من يأتي السيئات فحسب يُدان بل ومن لا يعمل الصالحات أيضًا يُدان بشدة"(90). حقًا إن لم يستفد أخوتنا من عبادتنا فهذا مؤشر قوي على أن حياتنا بلا ثمر. عندما سأل الرجل الناموسي السيد المسيح عن الوصية العظمى، لم يكتفِ السيد المسيح بذكر الوصية العظمى إنما ألحق بها الثانية قائلًا: "وَالثَّانِيَةُ مِثْلُهَا تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ. بِهَاتَيْنِ الْوَصِيَّتَيْنِ يَتَعَلَّقُ النَّامُوسُ كُلُّهُ وَالأَنْبِيَاءُ" (مت 22: 39 ، 40). وقد يتساءل أحد هل يُعقَل أن هؤلاء اللآتي كان لهن منظر العذارى خلت حياتهن من الفضائل ولم يصنعن خيرًا..؟ والحقيقة أن هؤلاء العذارى كان لهن عملهن الروحي ومارسن الفضيلة والخدمة، ولكنهن سقطن في التناقض -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى- أي كن يفعلنا الفضيلة ولا يفعلنها في آن واحد... كيف؟ كأن الإنسان يُصلي ويصوم ويخدم وفي نفس الوقت هو لا يصلي ولا يصوم ولا يخدم، عندما تتحوَّل الصلاة إلى كلام مهرق في الهواء بلا مشاعر ولا أحاسيس، فما فائدتها؟!!.. عندما يصوم ويطيل أصوامه ليكسب مديح الآخرين، فما فائدة هذه الأصوام؟!!.. عندما يخدم ويتفانى في الخدمة ولكن بدون محبة، فما فائدة هذه الخدمة؟!! ، وقس على ذلك كل شيء. والزيت هو جهاد العمر وخبرة العشرة مع اللَّه، هو السعي الدؤوب لعمل الخير للغير، وتقديم العون لكل محتاج، والإنسان يكتنز الزيت نقطة نقطة، فهو رأس المال الذي يخرج به الإنسان من هذا العالم: "وَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ قَائِلًا لِي اكْتُبْ طُوبَى لِلأَمْوَاتِ الَّذِينَ يَمُوتُونَ فِي الرَّبِّ مُنْذُ الآنَ. نَعَمْ يَقولُ الرُّوحُ لِكَيْ يَسْتَرِيحُوا مِنْ أَتْعَابِهِمْ وَأَعْمَالُهُمْ تَتْبَعُهُمْ" (رؤ 14: 13).
_____
(89) أورده القس أغسطينوس البرموسي - شرح إنجيل متى للقديس يوحنا الذهبي الفم ص244.
(90) أورده الأب متى المسكين - الإنجيل بحسب القديس متى ص714.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/409.html
تقصير الرابط:
tak.la/8awgy2b