س394: هل سؤال الناموسي للسيد المسيح عن الوصية العظمى (مت 22: 36) سؤالًا بريئًا أم أنه كان يخفي وراءه هدفًا خبيثًا؟ وإن كان سؤال الناموسي عن الوصية العظمى فقط فلماذا ذكر له السيد المسيح الوصية الثانية (مت 22: 37 - 40)؟ ولماذا أغفل السيد المسيح عقيدة الصلب والفداء التي بدونها لا يدخل الإنسان الملكوت؟
ج: 1- ما هو هدف الناموسي من سؤاله عن الوصية العُظمى..؟ سأل تلاميذ الفريسيين والهيرودسيين السيد المسيح عن جواز دفع الجزية لقيصر وعندما أجابهم تعجبوا، ثم سأله الصدوقيون عن حقيقة القيامة، وعندما أجابهم بهتوا من تعليمه، ويبدو أنه كان هناك رجلًا ناموسيًا يتابع الموقف " فلما رأى أنه أجابهم حسنًا" (مر 12: 28) أراد أن يدلي بدلوه ومن خلفه الفريسيون يحفزونه: "أَمَّا الْفَرِّيسِيُّونَ فَلَمَّا سَمِعُوا أَنَّهُ أَبْكَمَ الصَّدُّوقِيِّينَ اجْتَمَعُوا مَعًا، وَسَأَلَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَهُوَ نَامُوسِيٌّ، لِيُجَرِّبَهُ قِائِلًا" (مت 22: 34 - 35) وكان الناموسيون دارسين ومعلمين لناموس موسى، واهتموا بالفتاوي الشرعية، وكان هذا الرجل ناموسيًّا كاتبًا، فقال عنه القديس مرقس أنه: "وَاحِدٌ مِنَ الْكَتَبَةِ" (مر 12: 28) فهو بمثابة دكتور محامي في الناموس، دارس ومُفسّر وشارع ومعلم للناموس. وكان هناك اختلاف على الوصية العظمى، ليس من الوصايا العشر فقط، بل من جميع وصايا الناموس وعددها (613) وصية، منها (248) وصية إيجابية، و(365) وصية سلبية، وغالبًا اتفقوا على أن أخف الوصايا وهيَ الوصية الخاصة بعش الطائر (تث 22: 6 - 7)، أمَّا عن الوصية العظمى فاختلفوا فيها، وكانت هناك عدة آراء فقالوا أن الوصية العظمى هيَ:
أ - حفظ السبت، لأنها تميِّز شعب الله عن بقية الشعوب.
ب - وصية الختان، لأن الختان يعتبر المدخل إلى الجماعة المقدَّسة.
جـ - وصية لا تنطق بِاسم إلهك باطلًا.
د - النهي عن عبادة الأوثان لأنها خط أحمر.
هـ - تقديم الذبائح والمحرقات فبواسطتها يرضى الله عن الإنسان.
ولعله كان أمام هذا الكاتب أيضًا قول صموئيل النبي لشاول الملك: "هَلْ مَسَرَّةُ الرَّبِّ بِالْمُحْرَقَاتِ وَالذَّبَائِحِ كَمَا بِاسْتِمَاعِ صَوْتِ الرَّبِّ؟ هُوَذَا الاسْتِمَاعُ أَفْضَلُ مِنَ الذَّبِيحَةِ، وَالإِصْغَاءُ أَفْضَلُ مِنْ شَحْمِ الْكِبَاشِ" (1 صم 15: 22)، وقول الله: "إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً، وَمَعْرِفَةَ الله أَكْثَرَ مِنْ مُحْرَقَاتٍ" (هو 6: 6)، وأيضًا قول الله: "قَدْ أَخْبَرَكَ أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا هُوَ صَالِحٌ، وَمَاذَا يَطْلُبُهُ مِنْكَ الرَّبُّ، إِلاَّ أَنْ تَصْنَعَ الْحَقَّ وَتُحِبَّ الرَّحْمَةَ، وَتَسْلُكَ مُتَوَاضِعًا مَعَ إِلهِكَ" (مي 6: 8)، وفي سنة 20 ق.م قال "رابي هلال" أن أهم الوصايا هيَ: "ما لا تريد أن يحصل لك لا تصنعه بقريبك. وذلك هو الناموس كله، والباقي شرح له" (10).
وأمام زحمة الأفكار وهذه الاختلافات الكثيرة تقدم هذا الناموسي الدارس بالسؤال للسيد المسيح: يَا مُعَلِّمُ، أَيَّةُ وَصِيَّةٍ هِيَ الْعُظْمَى فِي النَّامُوسِ؟ فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ" (مت 22: 36 - 39)، وكان هذا الرجل صادقًا مع نفسه، فبالرغم من أنه في البداية سأل السيد المسيح " لِيُجَرِّبَهُ" (مت 22: 35).. " وَإِذَا نَامُوسِيٌّ قَامَ يُجَرِّبُهُ" (لو 10: 25) إلاَّ أنه عندما أجابه السيد المسيح سرَّ واقتنع واستراح قلبه وأعلن استحسانه قائلًا: "جَيِّدًا يَا مُعَلِّمُ. بِالْحَقِّ قُلْتَ، لأَنَّهُ الله وَاحِدٌ وَلَيْسَ آخَرُ سِوَاهُ. وَمَحَبَّتُهُ مِنْ كُلِّ الْقَلْبِ، وَمِنْ كُلِّ الْفَهْمِ، وَمِنْ كُلِّ النَّفْسِ، وَمِنْ كُلِّ الْقُدْرَةِ، وَمَحَبَّةُ الْقَرِيبِ كَالنَّفْسِ، هِيَ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْمُحْرَقَاتِ وَالذَّبَائِحِ" (مر 12: 32 - 33).. " فَلَمَّا رَآهُ يَسُوعُ أَنَّهُ أَجَابَ بِعَقْلٍ، قَالَ لَهُ: لَسْتَ بَعِيدًا عَنْ مَلَكُوتِ اللَّهِ" (مر 12: 34).. تُرى هل خَلُص هذا الناموسي أم أنه هلك وهو على أبواب الملكوت؟!!.
2- لماذا لم يكتفِ السيد المسيح بذكر الوصية العظمى، بل ذكر وصية أخرى لم يسأل عنها السائل..؟ الوصيتان اللتان ذكرهما السيد المسيح هما المبدأن الأصليان اللذان منهما تنبثق جميع الوصايا. جمعت الوصية الأولى الوصايا الأربع الأولى من الوصايا العشر (خر 20: 2 - 11) وجمعت الوصية الثانية الوصايا الست التالية من الوصايا العشر (خر 20: 12 - 17). عندما يحفظ الإنسان الوصية الأولى يحفظ نفسه في إطار المحبة الإلهية، وعندما يحفظ الوصية الثانية يحفظ نفسه في إطار المحبة الأخوية. الوصية الأولى " تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ" (مت 22: 37) فهو إلهك أنت بموجب العهد الذي قطعه على آبائك في طور سيناء (خر 20: 2 - 6)، " وَالثَّانِيَةُ مِثْلُهَا: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ" (مت 22: 39)، مثلها في المصدر، فمصدر الوصيتين واحد، والوصيتان تسعيان نحو الله، لأن الله محبة، والوصية الثانية قائمة على الأولى، فمن لا يملك الأولى لا يملك الثانية، ومن لا يعرف كيف يحب إلهه بالقطع لن يستطيع أن يحب أخيه (1 يو 4: 20 - 21).. الوصية الأولى هيَ جزء من "الشيماء" "Shema": "اِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ. فَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ قُوَّتِكَ" (تث 6: 4 - 5)، وكان اليهود الأتقياء يتلونها كل يوم مرتين، ومحبة القريب هيَ انعكاس طبيعي لمحبة الله، وجاء في كتاب يساكر Issachar الذي يرجع للقرن الثاني الميلادي " تحب الرب وقريبك" (5: 2) (راجع جانين كيه براون - ترجمة د. جرجس ميلاد - متى ص326). الوصية الأولى هيَ الوصية التي أوصى بها يشوع رجال سبطي راوبين وجاد ونصف سبط منسى، بعد أن أنهوا مهمتهم غرب الأردن فقال لهم: "احْرِصُوا جِدًّا أَنْ تَعْمَلُوا الْوَصِيَّةَ وَالشَّرِيعَةَ الَّتِي أَمَرَكُمْ بِهَا مُوسَى عَبْدُ الرَّبِّ: أَنْ تُحِبُّوا الرَّبَّ إِلهَكُمْ، وَتَسِيرُوا فِي كُلِّ طُرُقِهِ، وَتَحْفَظُوا وَصَايَاهُ، وَتَلْصَقُوا بِهِ وَتَعْبُدُوهُ بِكُلِّ قَلْبِكُمْ وَبِكُلِّ نَفْسِكُمْ" (يش 22: 5).
وكان من الضروري أن يذكر السيد المسيح هاتين الوصيتين المرتبطتين معًا ارتباطًا وثيقًا -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى- "بِهَاتَيْنِ الْوَصِيَّتَيْنِ يَتَعَلَّقُ النَّامُوسُ كُلُّهُ وَالأَنْبِيَاءُ" (مت 22: 40). حقًا أن محبة الله والناس هيَ هدف كل الكارزين المبشرين ببشارة السلام والفرح، وعقب القيامة عندما التقى السيد المسيح ببطرس الرسول على بحيرية طبرية ربط بين محبة بطرس له، ومحبة بطرس لأخوته: "يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا أَتُحِبُّنِي..؟ ارْعَ غَنَمِي" (يو 21: 17)، وكأننا نقف جميعًا على محيط دائرة مركزها هو الله، كلما أقتربنا منه إقتربنا بالضرورة من إخوتنا، وكلما إقتربنا من إخوتنا إقتربنا بالضرورة من الله، محبتنا للقريب تنبع من محبتنا لله، ومحبتنا لله تدفع بنا نحو محبة القريب، ولا يمكن أن نحب الآخر محبة باذلة غافرة إلاَّ من خلال محبتنا لله، ولذلك قال يوحنا الحبيب: "إِنْ قَالَ أَحَدٌ: إِنِّي أُحِبُّ الله وَأَبْغَضَ أَخَاهُ، فَهُوَ كَاذِبٌ. لأَنَّ مَنْ لاَ يُحِبُّ أَخَاهُ الَّذِي أَبْصَرَهُ، كَيفَ يَقْدِرُ أَنْ يُحِبَّ الله الَّذِي لَمْ يُبْصِرْهُ؟" (1 يو 4: 20) ولا خلاص لأي إنسان لا يحفظ هاتين الوصيتين، فصاحب الوزنة الواحدة الذي طمر وزنته في الأرض ليُعيدها لصاحبها كما هيَ أُدين رغم أن الكتاب لم يقل عنه أنه كان قاتلًا أو زانيًا، مثله مثل العذارى أيضًا رغم أن الكتاب لم يذكر أنهن كن شريرات فاسقات، فخطيتهم مثل خطية صاحب الوزنة الواحدة، وهيَ السلبية، متغاضين عن فعل الخير مع الآخرين، وتجاهلوا وصية السيد المسيح: "وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَنَا أُعْطِيكُمْ: أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا. كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا تُحِبُّونَ أَنْتُمْ أَيْضًا بَعْضُكُمْ بَعْضًا" (يو 13: 34).
3- لماذا لم يشر السيد المسيح إلى عقيدة الصلب والفداء على أنها الوصية العظمى..؟ لقد سأل الناموسي السيد المسيح قائلًا: "يَا مُعَلِّمُ، أَيَّةُ وَصِيَّةٍ هِيَ الْعُظْمَى فِي النَّامُوسِ؟" (مت 22: 36)، فهل الصلب والفداء كان قد تم حتى هذه اللحظة..؟ بالقطع لا، فالناموسي سأل عن الوصية العظمى من وصايا الناموس التي جاءت في التوراة التي دوَّنها موسى النبي قبل ميلاد السيد المسيح وقبل صلبه وقيامته بنحو خمسة عشر قرنًا من الزمان، وعندما أجاب السيد المسيح عن السؤال تفهَّم الرجل الناموسي الإجابة وعَقَلها واقتنع بها واستراح لها، حتى أن السيد المسيح مدحه على حياديته وعدم تعصبه: "فَلَمَّا رَآهُ يَسُوعُ أَنَّهُ أَجَابَ بِعَقْل، قَالَ لَهُ: لَسْتَ بَعِيدًا عَنْ مَلَكُوتِ اللَّه" (مر 12: 34).. ولم يكن من المعقول أن السيد المسيح يحدثه عن عقيدة الصلب والفداء، وهيَ لم تتم بعد، وفكره بعيد عنها كل البُعد، إذا كان التلاميذ الأطهار الذين عاشوا مع السيد المسيح أكثر من ثلاث سنوات، لم يدركوا هذه العقيدة إلاَّ بعد الصلب وبعد تأكدهم تمامًا من قيامة المصلوب وظهوره لهم مرارًا وتكرارًا، فكيف كان هذا الناموسي سيفهم ما لم يفهمه هؤلاء التلاميذ؟!!.. لو أطاع هذا الرجل الوصية العظمى وأحب الله من كل القلب والفكر والنفس، فأنه سيكون من السهل عليه إدراك قضية الصلب والفداء.
_____
(10) أورده الخوري بولس الفغالي - إنجيل متى جـ3 ص394.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/394.html
تقصير الرابط:
tak.la/h6q5dsn