س361: لو كان السيد المسيح صنع آيات كثيرة عظيمة، فلماذا طلب الفريسيون والصدوقيون أن يريهم آية من السماء (مت 16: 1)؟ وهل قول السيد المسيح عن جيله أنه لا تُعطى له آية إلاَّ آية يونان (مت 16: 4) يعني أن السيد المسيح لم يصنع معجزات سوى معجزة موته وقيامته؟ ومن قال أن احمرار السماء يعني أن الجو صحو، واحمرارها بعبوسة يعني أن الجو شتاء (مت 16: 2، 3)؟ ولماذا اتهم يسوع المسيح الفريسيين والصدوقيين بالرياء (مت 16: 3)؟ ولماذا حذفت طبعة كتاب الحياة كلمة "يا مراؤون"؟ (راجع علاء أبو بكر - البهريز جـ 5 س 5، وموقع ابن مريم).
ج: 1ــ اهتم الفريسيون بمراكزهم الأدبية وسط الشعب أكثر من خلاص أنفسهم، وكذلك اهتم الصدوقيون بسلطاتهم الكهنوتية أكثر من البحث عن الحق، وعندما ظهر السيد المسيح بخدمته الجبارة وكرازته التي حركت مشاعر التوبة، في تواضع ووداعة جذب أنظار الجميع إليه، وعرفت الجموع الفرق الشاسع بينه وبين الفريسيين أو الصدوقيين، وهؤلاء القادة شعروا أن السجادة قد سُحبت من تحت أقدامهم، فهاجوا وماجوا وتآمروا على الرب يسوع، ونظروا للمعجزات العجيبة التي عملها على أنها ليست من اللَّه بحجة أن بعضها تم في السبوت، وكأن خدمة الشفاء تكسر وصية السبت، وسمعوا الشياطين تصرخ وتخرج من المجانين فأدعوا أنه ببعلزبول يُخرج الشياطين (مت 12: 24) وتآمروا عليه ليهلكوه.
وقد إعتاد اليهود أن يطلبوا من أي نبي أن يثبت صدق نبوته بأن يصنع عملًا غير المعتاد: "فَقَالُوا لَهُ فَأَيَّةَ آيَةٍ تَصْنَعُ لِنَرَى وَنُؤْمِنَ بِكَ مَاذَا تَعْمَلُ. آبَاؤُنَا أَكَلُوا الْمَنَّ فِي الْبَرِّيَّةِ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ خُبْزًا مِنَ السَّمَاءِ لِيَأْكُلُوا" (يو 6: 30، 31). وبعد أن صنع الرب يسوع معجزات هذه عددها وهذه عظمتها، راح الفريسيون يطلبون منه آية من السماء، مثل عمود السحاب والنار الذي سار مع شعب اللَّه في البرية (خر 14: 19)، أو المن النازل من السماء يطعم الشعب الغفير (خر 16: 13)، أو الرعود والبروق والسُحب وصوت البوق التي صاحبت اللَّه في نزوله على الجبل (خر 19: 16) بالرغم من أن اليهود عندما رأوا خافوا وارتعبوا واستعفوا قائلين لموسى تكلم أنت مع اللَّه لئلا نموت (خر 20: 19)، ومثلما فعل يشوع بن نون عندما أوقف الشمس (يش 10: 12، 13) ومثلما جعل صموئيل النبي السماء تُمطر في حصاد الحنطة (1 صم 12: 17، 18)، ومثلما فعل إيليا عندما أغلق السماء فلم تمطر (1 مل 17: 1)، أو عندما أحدر نارًا من السماء أحرقت الذبيحة على جبل الكرمل (1 مل 18: 38)، أو التي أكلت الخمسين وقائدهم مرتين (2 مل 1: 10، 12)، أو مثلما فعل إشعياء عندما أعاد الظل عشر درجات (2 مل 20: 10).. والسيد المسيح الذي أسكت البحر الهائج والريح العاصف وأشبع الآلاف من خبزات قليلة طلبوا منه آية من السماء، والسيد المسيح يعلم جيدًا حتى لو صنع أمامهم آية من السماء فلن يؤمنوا به. لقد طلبوا آية لا لكي يؤمنوا بل لكي يجربوه: "فَخَرَجَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَابْتَدَأُوا يُحَاوِرُونَهُ طَالِبِينَ مِنْهُ آيَةً مِنَ السَّمَاءِ، لِكَيْ يُجَرِّبُوهُ. فَتَنَهَّدَ بِرُوحِهِ وَقَالَ لِمَاذَا يَطْلُبُ هذَا الْجِيلُ آيَةً اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَنْ يُعْطَى هذَا الْجِيلُ آيَةً" (مر 8: 11)، وقال بولس الرسول: "لأَنَّ الْيَهُودَ يَسْأَلُونَ آيَةً" (1 كو 1: 22)، ولذلك وصفهم السيد المسيح بأنه جيل غير صادق مع نفسه، بل هو جيل ملتو ومعوج وشرير وفاسق.
ويقول "متى هنري": "لقد سبق أن رأوا آيات كثيرة، فكل معجزة صنعها المسيح كانت آية، لأنه لا يستطيع أحد أن يفعل ما فعل لو لم يكن من اللَّه (يو 9: 33). ولكن هذه لم تجدهم (تهبهم) نفعًا، فلا بد لهم من آية يختارونها. لقد ازدروا بتلك الآيات التي أزاحت كابوس الهم عن المرضى والحزانى. وأصروا على طلب آية تشبع رغبة حب الاستطلاع في المتكبرين. من اللائق أن تُختار براهين الاعلانات الإلهية بالحكمة الإلهية لا بالحماقة البشرية والأوهام البشرية. كانت الأدلة التي أُعطيت كافية لإقناع كل عقل غير متحيز...
وكان القصد أن يجربوه، لا لكي يتعلموا منه بل لكي يصطادوه. فإن أعطاهم آية من السماء نسبوها لمحالفته مع "رئيس سلطان الهواء"، وإن لم يعطهم كما توقعوا وجدوا عذرًا يبررون به أنفسهم لدى أنفسهم لعدم الإيمان به... لاحظ إلتواءهم، فأنهم بعد أن أُعطيت إليهم آيات من السماء جربوا المسيح قائلين: "هَلْ يَقْدِرُ اللَّه أَنْ يُرَتِّبَ مَائِدَةً فِي الْبَرِّيَّةِ" (مز 78: 19)، والآن وقد رتب مائدة في البرية جربوه قائلين: "هل يقدر أن يعطينا آية من السماء ".." (982).
وكان رد السيد المسيح عليهم: "جِيلٌ شِرِّيرٌ فَاسِقٌ يَلْتَمِسُ آيَةً وَلاَ تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ النَّبِيِّ. ثُمَّ تَرَكَهُمْ وَمَضَى" (مت 16: 4). لقد قدم السيد المسيح معجزاته للشعب البسيط الذين آمنوا به والتجأوا إليه. أما هؤلاء المعاندون المكابرون من الكتبة والفريسيين والصدوقيين فلم يسعدوا بآياته العجيبة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. والرب يسوع لم يصنع أمامهم أية معجزة من أجل الاستعراض ولم يلح عليهم يومًا ليؤمنوا به. ولم يعطهم آية إلاَّ آية يونان النبي لعلهم يسلكون مسلك أهل نينوى في التوبة عندما يرون موته الفدائي على الصليب ويسمعون عن قيامته، بل يستشعرون قيامته في وجوه تلاميذه الذين امتلئوا شجاعة وسلامًا عوضًا عن الخوف والإضطراب والهروب، ووقفوا يتحدون الشيطان وكل قواته وكل أعوانه، وملأوا الدنيا كرازة وتبشيرًا بيسوع المصلوب القائم. ويقول "الأب متى المسكين": "اعتبر المسيح نفسه بالنسبة لهذا الجيل الفاسق الشرير كيونان الذي جاء ينذر المدينة. فكما حدث ليونان وهو في طريقه لنينوى لكي ينقذها من الانقلاب الآتي عليها، أن ابتلعه الحوت وظل في بطنه ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ. هكذا سيصير المسيح وإنمًا في باطن الأرض، وهذه هيَ معجزة الخلاص... لذلك أُحتسبت الثلاثة أيام والثلاث ليالٍ في القبر أنها معجزة الجيل الفاسق الشرير - العظمى - لأن بهذه المعجزة الفائقة أُكملت كل المعجزات وتم استعلان المسيا كمخلص وفادي إسرائيل والبشرية قاطبة" (983).
عجبًا للناقد الذي برغم إيمانه بعظمة المعجزات التي أجراها السيد المسيح (آل عمران 3: 49 والمائدة 5: 110)، فأنه يردّد قول بعض العقلانيين من أصحاب التأليه الطبيعي، الذين ينفون عن السيد المسيح قيامه بعمل أي معجزة، وهذا يؤكد قولنا سابقًا أن كثير من النُقَّاد أحادي النظرة، فكل هدفه نقض الكتاب المقدَّس، وفيما هو يفعل هذا يهاجم ما يعتقد به.
2ــ وعن توقعات الطقس يقول "دكتور وليم إدي": "محمّرة: كثيرًا ما تحمَّر السماء مساء عند الغروب أو بعده بقليل، وكان القدماء يتخذون ذلك علامة على صحو الغد كعادة الناس اليوم... محمّرة بعبوسة: ذلك لا يكون إلاَّ لغيوم تقع عليها أشعة الفجر فاستدلوا بذلك على قرب المطر" (984).
ويقول "الأب متى المسكين": "السماء المحمَّرة، والسماء المحمَّرة بعبوسة: الأولى تُرى عند الغروب، فإذا كانت الحمرة صافية كان باكر صحوًا، وإذا كان الاحمرار في الصباح قاتمًا بسبب السُحب المليئة بالماء كان اليوم مطيرًا. هذا يدركه الشعب الساذج وليس الحكماء والعلماء، ولكنهم ما حصَّلوا معرفة السماء لدى السذَّج، ولا أدركوا عمق أسرار السماء كالحكماء بالحق"(985).
3ــ كشف السيد المسيح عن رياء الكتبة والفريسيين: "يَا مُرَاؤُونَ تَعْرِفُونَ أَنْ تُمَيِّزُوا وَجْهَ السَّمَاءِ وَأَمَّا عَلاَمَاتُ الأَزْمِنَةِ فَلاَ تَسْتَطِيعُونَ" (مت 16: 3)، فهم يدَّعون القدرة على تمييز وجه السماء فيعرفون الطقس المتوقع إن كان صحوًا أو ممطر، بينما تجاهلوا علامات الأزمنة التي تخبر بمجيء المسيا، مثل زوال المُلك من يهوذا (تك 49: 10) وانتهاء أسابيع دانيال (دا 9: 35)، وتحقق النبؤات فيه، ومجيء يوحنا المعمدان الملاك السابق، وشهادته للمسيح... إلخ. وإن كانت طبعة كتاب الحياة اعتمدت على بعض المخطوطات التي لم ترد فيها كلمة "المراؤون" فهذا لا يمثل أي إشكالية لأن رياء الفريسيين أمر ثابت وواضح في الكتاب المقدَّس، فالسيد المسيح قال لتلاميذه " أَوَّلًا تَحَرَّزُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَمِيرِ الْفَرِّيسِيِّينَ الَّذِي هُوَ الرِّيَاءُ" (لو 12: 1) ويكفي وصف السيد المسيح لهم في أصحاح واحد ست مرات قائلًا: "وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ" (مت 23: 13، 14، 15، 23، 25، 29). وتجاهل الناقد قول الإنجيل: "لأَنَّ الْحَرْفَ يَقْتُلُ وَلكِنَّ الرُّوحَ يُحْيِي" (2 كو 3: 6).
_____
(982) ترجمة القمص مرقس داود - تفسير الكتاب المقدَّس - تفسير إنجيل متى جـ 2 ص43.
(983) الإنجيل بحسب القديس متى ص415.
(984) الكنز الجليل في تفسير الإنجيل جـ 1 شرح بشارة متى ص264.
(985) الإنجيل بحسب القديس متى ص486.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/361.html
تقصير الرابط:
tak.la/p73wzt7