س352: هل معجزة إشباع الجموع (مت 14: 15 - 21) خرافة، فكل رجل كان يحمل غذاءه في منديل ففرده، وأخرج التلاميذ ما تيسر لديهم من طعام فأكل الجميع وشبعوا؟ وهل هذه المعجزة تدخل في نطاق الأفخارستيا أو هيَ قريبة منها لأن السيد المسيح استخدم نفس الألفاظ الأفخارستية (أخذ - بارك - كسر - أعطى)؟ ولماذا لم يصنع السيد المسيح هذه المعجزة من العدم لتكون أقوى؟
يقول "ف. بوركت" في كتابه "يسوع المسيح": "أعترف بأنني لا أجد سبيلًا لفهم موضوع إشباع الخمسة ألف إلاَّ بالمنطق الصريح... الحل الوحيد الذي يروق لي هو أن يسوع أخبر تلاميذه أن يوزعوا مخزونهم الضئيل وكان تصرفهم هذا داعيًا لأن يوزع من يمتلك طعامًا مما عنده على من لا يحوز شيئًا" (941).
ويقول "الشيخ رأفت زكي": "يقول أحد القسوس البرتستانت أن معجزة السمكة والخبز مجرد خرافة من خيال التلاميذ، فمعروف أن الجموع ستتوجه إلى الجبل لسماع يسوع، وأعدَّت كل زوجة لزوجها غذاءه في منديل، ولما فرغ المعلم من خطابه أمر التلاميذ أن يجلسوهم فيأكلوا ففتح كلٍ منديله وأخذ يأكل من الطعام الذي سبق وصرَّته له زوجته" (942).
ويقول "الخوري بولس الفغالي": "وشدَّد بعض الشرَّاح أخيرًا على ارتباط هذا الخبز بشعائر العبادة: فالتعبير الذي نقرأه في (آية 19) قريب مما نجد في صيغة العشاء السري، أخذ الأرغفة ونظر إلى السماء وبارك وكسر وأعطى (راجع مر 6: 41). ويصوَّر متى بشكل مباشر دور الرسل (أكثر مما يفعل مرقس ولوقا) وكأنه وظيفة ليتورجية في خدمة الجماعة... فكأننا في ليتورجية حقيقية بدأت منذ حمل التلاميذ الخبز إلى يسوع (آية 18). أخذ يسوع الخبز الذي قُدّم له. بارك (قال: مبارك أنت يارب). كسر الخبز وأعطاه... ونفذ التلاميذ أمر يسوع الذي قال: "أعطوهم أنتم ليأكلوا ". كان الرسل الوسطاء الضروريين...
قرأنا خبر تكثير الأرغفة فاكتشفنا إلى أي حد جعل متى خبره ملاحقًا لتأسيس الأفخارستيا (مت 26: 26). واكتشفنا أنه يركز إنتباهنا على الخبزات التي وحدها تُكثَّر وتُوزَّع وتُجمع. فكأني به نسى السمكات... وفي النهاية بقيت 12 سلة مملؤة بالخبز الذي باركه يسوع. هكذا يأخذ كل رسول سلة إلى كنيسته ويُكثرها فيُشبِع الآتين إلى يسوع لا إلى طعام جسدي فحسب، بل إلى طعام روحي... وكل كنيسة وكل جماعة ستجد شبعًا لها، إذا أرادت، في جسد المسيح الذي يوزع على مذابحنا" (943).
ج: 1ــ الذين يدعون أن معجزة إشباع الجموع خرافة لا يتوقفون عند هذا الحد، بل أنهم يُحكّمون العقل في كل شيء، فما يقبله العقل يقبلونه وما هو فوق مستوى العقل يرفضونه، وبهذا فهم ينكرون جميع المعجزات الكتابية في العهدين القديم والجديد، بما فيها الميلاد العذراوي للسيد المسيح وقيامته من الأموات، وقد سبق مناقشة هذا الموضوع بتوسع فيُرجى الرجوع إلى مدارس النقد - عهد قديم - جـ2 الفصل الحادي عشر من س63 إلى س84.
ومحاولة هؤلاء العقلانيون في نفي عنصر الإعجاز عن معجزة إشباع الجموع، واختراع قصة وهمية خرافية بأن كل رجل حمل غذاءه الذي أعددته له زوجته في منديله، هيَ محاولة غير منطقية لأسباب عديدة، نذكر منها ما يلي:
أ - هذه الآراء الليبرالية هيَ تخيلات وتهيؤات لا يوجد لها أي سند في الكتاب المقدَّس.
ب- كيف علمت جميع الزوجات أن رجالهن سيذهبن ليستمعن للمعلم وسيمكثون معه طوال اليوم أو أكثر من يوم. ففي المعجزة الثانية مكث الرجال مع السيد المسيح ثلاثة أيام (مت 15: 32).. هل تحوَّلت هؤلاء النسوة إلى نبيات يعلمن المستقبل؟!
جـ- كان الحاضرون نحو خمسة آلاف رجل فهل جميع هؤلاء الرجال حملوا غذائهم معهم؟! وما بالك بالعدد الأكبر من النساء والأطفال، هل هؤلاء كان معهنَّ مناديل الطعام أيضًا؟!!
د - لو أحضر الأربعة آلاف رجل جميعهم غذائهم في المعجزة الثانية الذي يكفيهم وجبة واحدة أو وجبتين على أكثر تقدير، فكيف استمر معهم هذا الطعام ثلاثة أيام؟!!
هـ- هل جميع الحاضرين أحضروا نوعًا واحدًا من الطعام لا غير، وهو السمك؟!!
و - إن كان هؤلاء النُقَّاد يؤمنون بأن السيد المسيح هو الإله المتجسد، فلماذا يستكثرون عليه صنع هذه المعجزة مرتين؟!! وأيهما أيسر، هاتين المعجزتين اللتان أطعم فيها الإله المتجسد عدة آلاف، أم إعالة أكثر من مليونين في صحراء سيناء طوال مدة نحو أربعين عامًا؟!!
2ــ يعرض الخوري بولس الفغالي التفاسير المختلفة التي تعرضت لمعجزة إشباع الجموع، فيقول: "هناك سبعة اتجاهات:
(1) التفسير العقلاني: نجده خصوصًا عند رينان الفرنسي. اعتزل يسوع في البرية فتبعه إلى هناك عدد كبير من الناس. عاشوا في التقشف، ومع ذلك لم يموتوا جوعًا، فمن الطبيعي أن يروا في هذا الوضع معجزة، وقال آخرون في الخط عينه: فقاسم يسوع والتلاميذ زادهم، فاجتذب مثالهم الجمع، ففعل مثلهم.
(2) التفسير الميثولوجي: هذا الخبر هو تضخيم أسطوري لما نقرأ في (2 مل 4: 42 - 44) أما الهدف فهو تصوير سلطة يسوع العجائبية. وقال بولتمان الشيء عينه دون أن يربط الخبر بالعهد القديم.
(3) التفسير الرمزي: هذا الخبر هو تمثيل رمزي لتعليم يسوع للجموع. علَّمهم المقاسمة، فاخترع خبرًا يدل على المقاسمة، فكأننا أمام مثل من الأمثال (لوازي).
(4) التفسير الجلياني (أو الرؤيوي): إن يسوع أعطى تلاميذه طعامًا مسبقًّا عن الوليمة المسيحانية في الملكوت الآتي.
(5) التفسير الاجتماعي: ساعد يسوع البشر في شفائهم الطبيعي، وطلب من الكنيسة أن تفعل مثله. إن يسوع قد أعلن بهذه الفعلة أنه سيأتي اليوم لن يبقى على الأرض أناس جياع.
(6) التفسير الأفخارستي: حين كثَّر يسوع الأرغفة، هيأ تلاميذه ليؤمنوا يومًا أن جسده ودمه سيوزعان على المؤمنين في شكل الخبز. في هذا الخط قال الأب بنوا في بيبليا أورشليم: "إن لم يكن هذا الخبز بعد الأفخارستيا، فهو صورة عنها واستعداد ". هذا ما قاله آباء الكنيسة واعتقد به الإنجيليون أنفسهم. هنا نستطيع أن نقابل الألفاظ التي تصوّر هذا التوزيع الاحتفالي للخبز مع ألفاظ العشاء الأخير (مت 26: 26). ونقرأ في (يو 6) الذي يربط بهذه المعجزة الخطبة حول خبز الحياة.
(7) التفسير الكنسي: يركز على شخص المسيح، راعي إسرائيل الحقيقي الذي يجمع شعب اللَّه الذي تشتت وكاد أن يضيع" (944).
وهكذا نرى الاجتهادات الخاصة التي تنأى بالمعجزة عن هدفها الحقيقي، فالمعجزة أبسط من هذا بكثير، وهيَ نابعة من الحنو والشفقة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. فالسيد المسيح أشفق على هذا الجمع الذي مكث طويلًا معه، فلم يشأ أن يصرفهم وهم جياع فيخوروا في الطريق، ولذلك صنع هذه المعجزة، وأيضًا لتكن هذه المعجزة مصدر عزاء للشعوب من جيل إلى جيل، تُظهر مدى محبة اللَّه واهتمامه بالجميع، وتدعو للاطمئنان، فحيث الموارد محدودة جدًا فهناك بركة الرب التي تُغني ولا يزيد معها تعب. وقد أدركت الكنيسة أن هذه المعجزة، معجزة بركة، لذلك كل شهر قبطي يحوي خمسة أحاد، تُقرأ قصة هذه المعجزة في الأحد الخامس تعبيرًا عن البركة. ويقول "ر. ب. فرانس": "ثمة محاولات لإعادة صياغة هذه القصة يجعلها في إطار مقبول وكأنها أمر طبيعي (بإدعائهم على سبيل المثال أن كثيرين بين الجموع قد أحضروا طعامهم وأشركوا الآخرين معهم، أو أن ما وزَّعه يسوع كان قِطعًا بالغة الصغر كأمر رمزي)، إلاَّ أن هذا يشكّل ظلمًا قاطعًا للنص. أما متى فيبين أن هذا الحدث معجزة عملها يسوع، وأنه حقيقة واقعة، وليس مجرد مثال. وتسجيل البشيرين الأربعة جميعًا هذا الحدث يشير إلى أن المعجزة كانت تُشكل أهمية بالنسبة لمعرفتهم حقيقة يسوع.
ولكن ما أهميتها؟ لقد كانت دليلًا على قوة يسوع فيما يتعلق بعمل المعجزات، لا شك في هذا، ولو أن القليل من المعجزات صُنِع من أجل هذا الهدف وحده... أشار متى أيضًا (مت 16: 9) إلى ثمة دروسًا للتلاميذ يستلهمونها من المعجزة، وأن تفسيرها من الناحية المادية فقط يبعد المعجزة عن هدفها الحقيقي.
وهنا تعود بنا الذاكرة إلى فقرتين في العهد القديم: فتقديم الخبز في مكان منعزل (صحراء) يُذكّرنا بالمن الذي تحدث عنه الأصحاح 16 من سفر الخروج، وتفاصيل القصة في مجموعها تردّد معجزة أليشع النبي عندما أطعم مئة رجل بعشرين رغيفًا (2 مل 4: 42 - 44)، وفي الحالتين كلتيهما، نجد نبيًا يدبر طعامًا حقيقيًا، ويسوع النبي العظيم فعل الشيء نفسه" (945).. أنه المسيح رب جميع الأنبياء.
3ــ نعم نطق السيد المسيح في معجزة إشباع الجموع بنفس الألفاظ التي نطق بها في سر الأفخارستيا وهيَ (أخذ - بارك - كسر - أعطى)، وأيضًا استخدم السيد المسيح نفس الألفاظ في بيت تلميذي عمواس: "أخذ خبزًا وبارك وكسر وناولهما" (مت 24: 30)، وكانت مثل هذه الألفاظ (أخذ - بارك - كسر ــ أعطى) مستخدمة في التقليد اليهودي الذي يتبعه اليهود في تناول طعامهم. إذًا ليس معنى استخدام نفس الألفاظ أن معجزة إشباع الجموع وطعام تلميذي عمواس يدخلان في نطاق الأفخارستيا، والقارئ المدقق يلاحظ الفروق العديدة بين الأفخارستيا ومعجزة إشباع الجموع:
أ - في سر الأفخارستيا قدم السيد المسيح خبز وخمر، بينما في إشباع الجموع كان الطعام خبز وسمك، ومن المعروف أن الخبز يتحول إلى جسد المسيح والخمر إلى دم المسيح، فالسمك إلى أي شيء يتحوَّل؟!!
ب - في سر الأفخارستيا قدم السيد المسيح خبزة واحدة اشترك فيها الجميع لأن جسد المسيح واحد، بينما في معجزة إشباع الجموع كان هناك تارة خمس أرغفة وتارة أخرى سبعة أرغفة.
جـ - في سر الأفخارستيا أكل التلاميذ جسد المسيح في صورة الخبزة " خُذُوا كُلُوا. هذَا هُوَ جَسَدِي" (مت 26: 26) وشربوا دم المسيح في صورة الخمر " وَأَخَذَ الْكَأْسَ وَشَكَرَ وَأَعْطَاهُمْ قَائِلًا اشْرَبُوا مِنْهَا كُلُّكُمْ. لأَنَّ هذَا هُوَ دَمِي الَّذِي لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ الَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا" (مت 26: 27، 28) أما في معجزة إشباع الجموع فقد أكلوا خبزًا عاديًا مع سمكًا عاديًا لم يقل السيد المسيح خذوا كلوا هذا هو جسدي ولم يقل خذوا أشربوا هذا هو دمي، ولم يقل أن هذا الطعام من الخبز والسمك يغفر الخطايا.
د - في الأفخارستيا أكل التلاميذ الخبزة بالكامل وشربوا ما في الكأس بالكامل، لم يتبقى منهما شيئًا. أما في معجزة إشباع الجموع فقد تبقى في المعجزة الأولى اثنتي عشر قفة، وتبقى في المعجزة الثانية سبعة سلال.
4ــ لم يصنع السيد المسيح هذه المعجزة من العدم لأنه لم يسعى نحو استعراض قوته، فلم يكن الدافع للمعجزة أو لأي معجزة صنعها السيد المسيح الاستعراض ليدهش الجميع ليؤمنوا به، ويوم أن قال له إبليس إلقي بنفسك من فوق حجاب الهيكل من هذا الارتفاع الهائل ودع الملائكة يحملونك فيؤمن بك الجميع رفض السيد المسيح هذا العرض الإبليسي. وقد أوضح الإنجيل الدافع لهذه المعجزة فقال القديس مرقس: "فَلَمَّا خَرَجَ يَسُوعُ رَأَى جَمْعًا كَثِيرًا فَتَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ" (مر 6: 34) فقد قال السيد المسيح للتلاميذ: "إِنِّي أُشْفِقُ عَلَى الْجَمْعِ" (مت 15: 32).
كما أن السيد المسيح في محبته يُشرك الإنسان معه في عمله الإلهي، فأول معجزة لم يخلق خمرًا ممتازًا من العدم، بل طلب منهم قائلًا املأوا الأجران ماء، وحوَّل الماء إلى الخمر، وقبل أن يعيد لعازر للحياة بعد موته بأربعة أيام قال لهم ارفعوا الحجر، وهنا يطلب ما هو مُتاح من خبزات قليلة مع سمكتين فيبارك ويُعطي ويُشبع جميع الحاضرين. وإن كان السيد المسيح قد صنع هذه المعجزة العظيمة من خبز حقيقي وسمك حقيقي فراح العقلانيون يشكّكون فيها، فكم وكم لو صنع المعجزة من العدم؟!!
_____
(941) أورده جوش مكدويل - برهان يتطلب قرارًا ص329.
(942) مقال للشيخ رأفت زكي عن لجنة الكرازة المشتركة.
(943) تفسير إنجيل متى جـ 2 سر الملكوت ص247 - 250.
(944) تفسير إنجيل متى جـ 2 سر الملكوت ص284.
(945) التفسير الحديث للكتاب المقدَّس - العهد الجديد - إنجيل متى ص259، 260.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/352.html
تقصير الرابط:
tak.la/prpg6bw