س348: هل الكنز يُخفى في البيت أم في الحقل (مت 13: 44)، وهل من الأمانة أن إنسانًا يجد كنزًا لا يخصه، وعوضًا عن أن يرده لصاحبه، يخفيه ويخفي الأمر عن صاحب الحقل تمهيدًا للاستيلاء عليه؟ وما الداعي لتكرار نفس الفكرة في مثلي الكنز واللؤلؤة (مت 13: 44 - 46)؟
ج: 1ــ في ذلك الزمان لم يكن هناك مصارف ولا بنوك ولا بورصة لحفظ أو لاستثمار الأموال، بل كان هناك صيارفة لجمع الضرائب وتحصيل الجمارك وتغيير العملات (مت 21: 12)، وكانت بعض الشعوب تحفظ الأموال والمجوهرات في المعابد، والذين كانوا يبالغون في إخفاء كنوزهم كانوا يخفونها في طيات الأرض في حقل أو جبل، بعيدًا عن المنزل الذي يكون محط أنظار اللصوص، فإمعانًا في التنويه كانوا يخفون كنوزهم في الحقول حيث لا يتوقع أحد هذا، كما أن الحقل متسع الأطراف بينما البيت مساحته محدودة يسهل نبش كل شبر فيه، فالمَثَل الذي ضربه الرب يسوع مَثَل عملي من واقع البيئة التي يعيشون فيها، وحتى وقت قريب منذ نحو مائة عام أو أقل كان الأغنياء يخفون كنوزهم في طيات الأرض سواء الحقل أو البيت، وأحيانًا في جوف الجدران لأن الجدران كانت سميكة يصل عرض بعضها إلى 75 سم أو ما يزيد، وكثيرًا ما كان صاحب الكنز تنتهي حياته وسر كنزه معه، ويؤول البيت إلى آخر عن طريق البيع والشراء وعند هدم البيت أو تجديده يعثرون على الكنز.
2ــ المَثَل له هدف معين وهو التعبير عن عظمة ملكوت السموات، فلا يناقش المَثَل من هو صاحب الكنز، وهل كان معروفًا لدى المشتري أم أنه مجهول لدى المشتري والبائع، فالمَثَل لم يناقش مشروعية أو عدم مشروعية الحصول على الكنز، ولكن الهدف هو إظهار حرص المشتري على اقتناء هذا الكنز حتى أنه باع كل ما يملكه في سبيل الحصول عليه، وهذا المَثَل يتمشى مع الأعراف التي كانت سائدة حينذاك، فقد جاء في شريعة الربيين: "إن ما يجده الإنسان من فاكهة أو نقود مبعثرة تكون من حق من يجدها" (928). يضاف إلى هذا أنه ربما يكون الكنز قد أُخفي منذ زمن بعيد ولا يعرف أحد صاحبه... فلمن يرده؟!!
فدائمًا في المَثَل لا يتطابق المشبه والمشبه به، وإلاَّ ما كان دُعي مَثَلًا، والكنز هنا هو ملكوت السموات، بل بالحري السيد المسيح: "الْمُذَّخَرِ فِيهِ جَمِيعُ كُنُوزِ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ" (كو 2: 3)، وقال "القديس إيريناؤس" أن: "المسيح هو الكنز المخفي، والحقل هو الأسفار المقدَّسة" (929). ويقول "متى هنري": "إن يسوع هو الكنز الحقيقي، فيه نجد وفرة من كل ما هو نفيس ونافع، مما يمكن أن يكون نصيبًا لنا... والإنجيل هو الحقل المخفي فيه هذا الكنز، هو مخفي في كلمة الإنجيل، في إنجيل العهد القديم وإنجيل العهد الجديد... أنه لأمر عظيم جدًا أن نكتشف الكنز المخفي في هذا الحقل ونقدر قيمته التي لا يُعبّر عنها... بماذا يفضل الكتاب المقدَّس عن أي كتاب آخر؟ بماذا يفضل إنجيل المسيح عن فلسفة أفلاطون أو تعاليم كونفوشيوس؟ على أن الذين " فَتِّشُوا الْكُتُبَ" ليجدوا فيها المسيح " حَيَاةً أَبَدِيَّةً" (يو 5: 39) قد اكتشفوا في هذا الحقل كنوزًا جعلته أثمن كثيرًا جدًا" (930).
ويقول "القمص تادرس يعقوب": "هنا يقدم لنا في مَثَل الكنز المخفي صورة لدور المؤمن بالجهاد المستمر لاكتشاف المسيح " الكنز المخفي في الحقل ". ما هو هذا الحقل إلاَّ الكتاب المقدَّس بعهديه الذي يحوي في داخله سر المسيح ككنز مخفي لا يتمتع به غير المثابرين بالحفر المستمر في الكتاب؟ لهذا يليق بالمؤمن أن يبيع كل شيء ليقتني هذا الحقل الحاوي للكنز، لينعم بالكنز ويخفيه في قلبه كما تُخفي الكنيسة مسيحها وسط البشرية. حقًا لا يستطيع أحد أن يحمل الكتاب المقدَّس في قلبه ويتفاعل معه ما لم يبع من قلبه كل شيء ليتفرغ لكلمة اللَّه بهدف الالتقاء مع الكلمة المتجسد إلهنا!" (931).
ومع أن هذا الكنز لا يقدَّر بكل كنوز اللأرض فاللَّه يهبه لنا مجانًا: "أَيُّهَا الْعِطَاشُ جَمِيعًا هَلُمُّوا إِلَى الْمِيَاهِ... هَلُمُّوا اشْتَرُوا بِلاَ فِضَّةٍ وَبِلاَ ثَمَنٍ" (إش 55: 1)، فمهما بذل الإنسان ومهما ضحى بكل ما يملك، فإن هذا كلا شيء بجوار عظمة الكنز، ولهذا قال بولس الرسول: "وَلكِنْ لَنَا هذَا الْكَنْزُ فِـي أَوَانٍ خَزَفِيَّةٍ لِيَكُونَ فَضْلُ الْقُوَّةِ ِللهِ لاَ مِنَّا" (2 كو 4: 7).. " مِنْ أَجْلِ فَضْلِ مَعْرِفَةِ الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّي الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ كُلَّ الأَشْيَاءِ وَأَنَا أَحْسِبُهَا نُفَايَةً لِكَيْ أَرْبَحَ الْمَسِيحَ. وَأُوجَدَ فِيه" (في 3: 8، 9).
3ــ تكرار الفكرة جزئيًا في المثلين للتأكيد على عظمة ملكوت السموات، مثلما كان حلم فرعون من الأهمية حتى أنه تكرَّر مرتين (تك 41: 18 - 24) ومع هذا فإن هناك مفارقات بين المثلين، ففي مَثَل الكنز نجد أن الإنسان عثر على الكنز دون أن يبحث عنه، بينما في مَثَل اللؤلؤة الحسنة فإن الإنسان عثر عليها نتيجة جهد وتعب وبحث. ومَثَل الكنز ينطبق على المرأة السامرية التي وجدت الكنز أمامها دون أن تبحث عنه، وكذلك بولس الرسول الذي وجد الكنز يشرق أمامه بنور عجيب، ومَثَل اللؤلؤة الكثيرة الثمن ينطبق على المجوس الذين سعوا من أرض المشرق من بلاد بعيدة وجاءوا إلى بيت لحم في رحلة شاقة، فوجدوا الكنز بعد عناء، وكذلك اليونانيون الذين جاءوا يلتمسون رؤية اللؤلؤة كثيرة الثمن: "يَا سَيِّدُ نُرِيدُ أَنْ نَرَى يَسُوعَ" (يو 12: 21). والنظر للؤلؤة يبهج قلب الإنسان ويدخل في قلبه الفرح والبهجة والسرور، وكان مصدر اللآلئ حينذاك شواطئ البحر الأحمر وشواطئ الجزر البريطانية، ومما يُذكَر أن أعظم لؤلؤتين في العالم حينذاك كانت أحدهما بحوزة الملكة كليوباترا ملكة مصر، والأخرى في حوزة أغسطس قيصر أول أباطرة الرومان، والذي وهب لآلئ كثيرة لهيكل الإله جوبتر.
_____
(928) أورده وليم باركلي - تفسير العهد الجديد جـ 1 ص281.
(929) أورده أنور يسى منصور - المتهم المعصوم ص165.
(930) ترجمة القمص مرقس داود - تفسير الكتاب المقدَّس - تفسير إنجيل متى جـ 1 ص456، 457.
(931) تفسير إنجيل متى ص316.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/348.html
تقصير الرابط:
tak.la/vvy79bm