س344: لماذا اختلف ترتيب وضع الأمثال في متى عنه في مرقس، حيث أن الأمثال وردت في إنجيل متى (مت 13) بعد هياج البحر (مت 8: 23 - 27)، وبعد إرسالية التلاميذ (مت 10: 5 - 23)، بينما وردت الأمثال في إنجيل مرقس (مر 4: 1 - 34) قبل هياج البحر (مر 4: 35 - 41)، وقبل إرسالية التلاميذ (مر 6: 7 - 13)؟ وهل اختلاف التربة في مَثَل الزارع يرجع إلى اختلاف الطبائع التي خلقها اللَّه، فلا مسئولية تقع على الإنسان بل على من جبل هذه الطبائع؟
ج: 1ــ اتبع كل إنجيلي من الإنجيليين الأربعة نهجًا معينًا في تسجيل الأحداث، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. فعُرِف عن القديس مرقس الإلتزام بالتسلسل الزمني، بينما اتبع القديس متى المنهج الموضوعي، لذلك تجده يذكر تعاليم السيد المسيح في عظة الجبل (مت 5 - 7) أتبعها بعشر معجزات في الأصحاحين الثامن والتاسع، واختيار الرسل وارساليتهم في الأصحاح العاشر، والمقاومات التي واجهت السيد المسيح في كرازته من الكتبة والفريسيين في الأصحاحين الحادي عشر والثاني عشر، وسجل في الأصحاح الثالث عشر سبعة أمثال عن الملكوت، ويبدو أن السيد المسيح ذكر هذه الأمثال في عظة واحدة إنتهت بقول القدس متى: "وَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ هذِهِ الأَمْثَالَ انْتَقَلَ مِنْ هُنَاكَ" (مت 13: 53).
ويقول "القس منسى يوحنا": "بين متى ص8، ص13: 3، وبين مر 4: 35، ففي الأول أن المسيح علَّم بالأمثال بعد هيجان البحر وفي الثاني أنه علَّم قبله فنجيب لا يخفى أن البشيرين الأربعة كان لكل منهم عرض خاص في كتابته، لهذا لا خلاف بينهم إذ لم يرتبوا الحوادث على نظام واحد، ولنضرب المثل بالخلاف المذكور هنا فإن متى البشير كان غرضه ذكر معجزات السيد المسيح فجمعها مع بعضها مرة واحدة. ثم شرع في ذكر تعاليمه، أما مرقس فراعى زمان حصول أعمال المسيح. ونظير هذا كثير في الأناجيل الأربعة، فقد يتفق أن أحدهم يتكلم في موضوع فيقدم ويؤخر له بعض الحوادث كما يقتضيه المقام، ويذكر آخر معجزة هامة قادت بعض الناس للمسيح قبل معجزة لم يكن لها تأثير كبير، بينما يهتم غيره بتدوين الحوادث حسب ترتيب وقوعها الزمني، ويعني آخر بمراعاة المكان. ومثل هذا إذا وُجِد لا يُعتبر تناقضًا في كتاب اللَّه، وقد أعرضنا عن ذكر المشاكل التي من هذا القبيل مكتفين بهذا الإيضاح" (907).
2ــ قال البعض أن اختلاف التربة في مَثَل الزارع يرجع لاختلاف الطبائع التي خلقها اللَّه، فاللَّه خلق البعض أبرارًا صالحين، وخلق البعض أشرارًا طالحين، فلا عيب يقع على التربة التي تمثل طريقًا، أو أماكن محجرة، أو بها أشواك، ولا فضل يرجع للأرض الجيدة، فاللَّه جبل الطبائع مختلفة. والحقيقة أن هذه مغالطة لعدة أسباب:
أ - لأن اللَّه خلق كل شيء حسنًا، ففي أيام الخليقة يذكر الكتاب عبارة: "وَرَأَى اللَّه النُّورَ أَنَّهُ حَسَنٌ" (تك 1: 4)، وعبارة: "وَرَأَى اللَّه ذلِكَ أَنَّهُ حَسَنٌ" (تك 1: 10، 12، 18، 25)، وعبارة: "وَرَأَى اللَّه كُلَّ مـَا عَمِلَهُ فَإِذَا هُوَ حَسَنٌ جِدًّا" (تك 1: 31)، ولا توجد أي عبارة في الكتاب المقدَّس يُشتَم فيها أن اللَّه خلق شيئًا فاسدًا، وفي صلوات القداس الإلهي: "يا اللَّه العظيم الأبدي الذي خلق الإنسان على غير فساد" (القداس الباسيلي).
ب - فعل الخير أو الشر يتوقف على إرادة الإنسان، فقد خلق اللَّه الإنسان حرًّا مريدًا، وقال له: "اُنْظُرْ. قَدْ جَعَلْتُ الْيَوْمَ قُدَّامَكَ الْحَيَاةَ وَالْخَيْرَ وَالْمَوْتَ وَالشَّرَّ... قَدْ جَعَلْتُ قُدَّامَكَ الْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ. الْبَرَكَـةَ وَاللَّعْنَةَ. فَاخْتَرِ الْحَيَاةَ لِكَيْ تَحْيَا أَنْتَ وَنَسْلُكَ" (تث 30: 15، 19).
جـ - لو أن اختلاف التربة يرجع لاختلاف الطبائع التي خلقها اللَّه، فلماذا ضرب لنا السيد المسح هذا المثل، مثل الزارع، الذي يهدف إلى الاجتهاد لتغيير طبيعتنا لتصير أرض جيدة، فالإنسان الذي يسعى دائمًا إلى تقليب تربة حياته حتى تشرق عليها أشعة شمس البر، ويتعب في تنقية حياته من الأحجار والعثرات، ولا يترك الأشواك الخانقة للنفس، تصير تربته جيدة وتثمر أثمارًا صالحة، ولأن السيد المسيح يدفعنا لحياة الجهاد ختم المثل بقوله: "مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ" (مت 13: 9).. فلماذا يسمع؟ يسمع لكي يعي ويسعى لتغيير حياته نحو الأفضل، وقال إشعياء النبي: "يُوقِظُ كُلَّ صَبَاحٍ لِي أُذُنًا لأَسْمَعَ كَالْمُتَعَلِّمِينَ. السَّيِّدُ الرَّبُّ فَتَحَ لِي أُذُنًا وَأَنَا لَمْ أُعَانِدْ. إِلَـى الْوَرَاءِ لَمْ أَرْتَدَّ" (إش 50: 4، 5)، فاللَّه يهبنا الأذان الصاغية عندما لا نعاند وصايا الرب ولا نرتد للوراء.
د - ورد مثل الزارع في العهد القديم بصورة أخرى في نشيد الكرم: "كَانَ لِحَبِيبِي كَرْمٌ عَلَى أَكَمَةٍ خَصِبَةٍ. فَنَقَبَهُ وَنَقَّى حِجَارَتَهُ وَغَرَسَهُ كَرْمَ سَوْرَقَ وَبَنَى بُرْجًا فِي وَسَطِهِ وَنَقَرَ فِيهِ أَيْضًا مِعْصَرَةً فَانْتَظَرَ أَنْ يَصْنَعَ عِنَبًا فَصَنَعَ عِنَبًا رَدِيئًا" (إش 5: 1، 2). إذًا اللَّه قد فعل كل شيء حسنًا وصالحًا من أجل الإنسان، فهيّأ للإنسان كل سُبل الصلاح، فإن فسد الإنسان فالفساد يرجع لتهاونه وغباوته... تصوَّر أن اللَّه قد خلق الإنسان على صورته ومثاله، وأسكنه نعيم الفردوس، وعندما سقط بغواية الحية تعهده بالمراحم والرأفات والشريعة والأنبياء إلى أن جاء وتجسد من أجله في ملء الزمان وصُلب ومات وقام وأقام الإنسان معه، ومنحه جسده ودمه وجعله مسكنًا لروحه القدوس، فهل بعد كل هذا يرفض الإنسان اللَّه فيهلك، ويأتي من يُلقي اللوم على الحبيب صاحب الكرم بحجة أنه خلق الطبائع هكذا منها الصالح ومنها الطالح؟!! " وَالآنَ يَا سُكَّانَ أُورُشَلِيمَ وَرِجَالَ يَهُوذَا احْكُمُوا بَيْنِي وَبَيْنَ كَرْمِي. مَاذَا يُصْنَعُ أَيْضًا لِكَرْمِي وَأَنَا لَمْ أَصْنَعْه" (إش 5: 3، 4)؟!!! كما قال المرنم: "كَرْمَةً مِنْ مِصْرَ نَقَلْتَ. طَرَدْتَ أُمَمًا وَغَرَسْتَهَا. هَيَّأْتَ قُدَّامَهَا... فَلِمَاذَا هَدَمْتَ جُدْرَانَهَا فَيَقْطِفَهَا كُلُّ عَابِرِي الطَّرِيقِ. يُفْسِدُهَـا الْخِنْزِيرُ مِنَ الْوَعْرِ وَيَرْعَاهَا وَحْشُ الْبَرِّيَّة" (مز 80: 8 - 13) فقد فعل اللَّه من أجل الكرمة كل شيء، أما هيَ فقد سلمت نفسها للشهوات الخنزيرية وقساوة القلب كوحوش البرية... فهل بعد كل هذا نُرجِع بالعيب على اللَّه لنبرئ الإنسان الخاطئ الشهواني قاسي القلب؟!!
ويقول "القديس غريغوريوس النزينزي": "عند سماعكم هذا لا تبتدئوا تفتكروا في طبائع مختلفة كبعض الهراطقة، الذين يذكرون أن للواحد طبيعة شريرة وللآخر صالحة، وأن البعض تقودهم إرادتهم خلال تكوينهم إلى ما هو صالح أو شرير. أضف إلى هذا أن الكلمات " قد أعطى لكم " تعني أنه لكم إرادة" (908).
ويدعونا "القديس أغسطينوس" لحياة الجهاد لكيما تتحوَّل حياتنا إلى تربة جيدة، فيقول: "اقلبوا التربة الصالحة بالمحراث، ازيلوا الحجارة من الحقل، انزعوا الأشواك عنها. إحترزوا من أن تحتفظوا بذلك القلب القاسي الذي سرعان ما تعبر عنه كلمة اللَّه ويفقدها.
احذروا من أن تكون لكم تربة خفيفة فلا تتمكن جذور المحبة من التعمُق فيها. احذروا من أن تختنق البذار الصالحة التي زُرعت فيكم خلال جهادي، وذلك بواسطة الشهوات واهتمامات هذا العالم. كونوا الأرض الجيدة، وليأتِ الواحد بمئة والآخر بستين وآخر ثلاثين" (909).
_____
(907) ردود كتابية منطقية على مزاعم وإفتراءات خيالية عن الكتاب المقدَّس ص113.
(908) أورده القمص تادرس يعقوب - تفسير إنجيل متى ص297.
(909) المرجع السابق ص297.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/344.html
تقصير الرابط:
tak.la/h4jpqzh