س330: قال السيد المسيح: "لَمْ يَقُمْ بَيْنَ الْمَوْلُودِينَ مِنَ النِّسَاءِ أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ وَلكِنَّ الأَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ أَعْظَمُ مِنْهُ" (مت 11: 11)، وحيث أن المسيح مولود امرأة (غل 4: 4) فهل معنى هذا أن يوحنا أعظم منه؟ ومن هو الأصغر في ملكوت السموات والأعظم من يوحنا المعمدان؟
يقول "أحمد ديدات": "كان يوحنا المعمدان باعتراف عيسى عليه السلام أعظم أنبياء بني إسرائيل، كان أعظم من موسى وداود وسليمان وإشعياء. كان أعظم منهم جميعًا فيما يقرره الإنجيل إذ يقول: "اَلْحَقَّ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ لَمْ يَقُمْ بَيْنَ الْمَوْلُودِينَ مِنَ النِّسَاءِ أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ" (مت 11: 11) دونما إستثناء لعيسى عليه السلام باعتبار أنه أيضًا ولدته أمه. كان المعمدان أعظم الجميع" (850).
ج: 1ــ قال السيد المسيح: "لَمْ يَقُمْ بَيْنَ الْمَوْلُودِينَ مِنَ النِّسَاءِ أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ" لأنه امتلأ بالروح القدس وهو في بطن أمه: "وَمِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يَمْتَلِئُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ" (لو 1: 15) كما امتلأت أمه أيضًا من الروح القدس وهيَ حامل به: "وَامْتَلأَتْ أَلِيصَابَاتُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. وَصَرَخَتْ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ... فَهُوَذَا حِينَ صَارَ صَوْتُ سَلاَمِكِ فِي أُذُنَيَّ ارْتَكَضَ الْجَنِينُ بِابْتِهَاجٍ فِي بَطْنِي" (لو 1: 41، 44)، فيوحنا سجد للمسيح وهو في بطن أمه، وكان المسيح جنينًا أيضًا بحسب الجسد، ويوحنا هو النبي الذي تنبأ عنه الأنبياء (إش 40: 3، ملا 3: 1)، وكان يوحنا شجاعًا لا يهاب أحدًا، ذو ضمير حي يشهد للحق مهما كلفته هذه الشهادة، فليس لديه خطوط حمراء في إعلان الحق، لم يكن من ذوي الثياب الناعمة، بل عاش حياة النسك الشديد حتى أن منظره كان يُبكّت المنغمسين في الجسديات، ويوحنا المعمدان هو الذي تقدم الملك المسيح ليهيئ الطريق أمامه، فأعدَّ القلوب بالتوبة، وهو الوحيد من أنبياء العهد القديم الذي رأى المسيح رؤيا العين، وإن كانت عظمة الإنسان تُقاس بمدى اقترابه من المسيح فإن يوحنا المعمدان هو الوحيد الذي وضع يده على رأس المسيح وعمَّده، وهو الوحيد الذي دُعي ملاكًا: "هأَنَذَا أُرْسِلُ مَلاَكِي" (ملا 3: 1). فيوحنا أعظم الأنبياء ليس من جهة شخصيته وخدمته وفصاحته، إنما من جهة رسالته، لقد هيأ الطريق أمام المسيح وإنتهت رسالته قائلًا: "يَنْبَغِي أَنَّ ذلِكَ يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ" (يو 3: 30). فقد هيأ يوحنا الطريق أمام المسيح، وسريعًا ما خرج من الطريق. ويقول "متى هنري": "كان نبيًا ممتازًا، أفضل من أنبياء العهد القديم. كلهم عملوا فضلًا، أما يوحنا فقد فاق عليهم جميعًا. لقد رأوا يوم المسيح عن بُعد، وكانت رؤياهم لا بد أن تقضي وقتًا طويلًا حتى تتحقَّق، أما يوحنا فقد رأى فجر اليوم، رأى الشمس وهيَ تشرق، وأخبر البشر عن المسيا كواحد واقف بينهم. تنبأ الأنبياء عن المسيح، أما يوحنا فقد أشار بأصبعه إليه. لقد قالوا " هُوَذَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ " أما هو فقد قال: "هوذا حمل اللَّه.." (851).
وتصلح المقارنة بين يوحنا المعمدان وأي نبي آخر، لأنها بين إنسان وإنسان، ولكن لا تصلح المقارنة بين السيد المسيح وأي نبي آخر، فشتان بين الخالق والمخلوق، فعندما مدح السيد المسيح يوحنا المعمدان وقال أنه أعظم مواليد النساء، فهو لم يُدخِل نفسه ضمن هذه المقارنة، ولكن عندما قال: "الأَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ أَعْظَمُ مِنْهُ" كان يشير بالأصغر إلى نفسه، ومن الملاحظ أن أحمد ديدات قصد أن يجتزء الآية فلم يذكر العبارة الأخيرة منها الخاصة بالأصغر.
ولو كان يوحنا المعمدان أعظم من المسيح، فكيف أشاد يوحنا بعظمة المسيح بصورة مذهلة، فقال لليهود: "فِي وَسْطِكُمْ قَائِمٌ الَّذِي لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ... الَّذِي لَسْتُ بِمُسْتَحِقّ أَنْ أَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِه" (يو 1: 26، 27).. " وَأَنَا قَدْ رَأَيْتُ وَشَهِدْتُ أَنَّ هذَا هُـوَ ابْنُ اللَّه" (يو 1: 34).. " الَّذِي رَفْشُهُ فِي يَدِهِ وَسَيُنَقِّي بَيْدَرَهُ وَيَجْمَعُ قَمْحَهُ إِلَى الْمَخْزَنِ وَأَمَّا التِّبْنُ فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لاَ تُطْفَأُ" (مت 3: 12). وقال عن السيد المسيح لتلاميذه: "مَنْ لَهُ الْعَرُوسُ فَهُوَ الْعَرِيسُ. وَأَمَّا صَدِيقُ الْعَرِيسِ الَّذِي يَقِفُ وَيَسْمَعُهُ فَيَفْرَحُ فَرَحًا مِنْ أَجْلِ صَوْتِ الْعَرِيسِ... يَنْبَغِي أَنَّ ذلِكَ يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ. اَلَّذِي يَأْتِي مِنْ فَوْقُ هُوَ فَوْقَ الْجَمِيعِ" (يو 3: 29 - 31).
2ــ من هو الأصغر في ملكوت السموات الأعظم من يوحنا المعمدان، مع أن يوحنا أعظم نبي وأعظم مواليد النساء؟
رأى بعض القديسين مثل القديس يوحنا ذهبي الفم أن المقصود بالأصغر هنا هو السيد المسيح، فهو أصغر من يوحنا المعمدان بستة أشهر بحسب الناسوت، وهو الأعظم لأنه هو الخالق، والقول هنا يشبه قول السيد المسيح عن نفسه: "وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ يُونَانَ ههُنَا... وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ سُلَيْمَانَ ههُنَا" (مت 12: 41، 42). بينما رأى بعض القديسين الآخرين مثل القديس كيرلس الكبير أن المقصود بالأصغر هنا هو أي إنسان في العهد الجديد جاز في بحر المعمودية، وبدأ يعيش ملكوت السموات وهو ما زال على الأرض، فمثل هذا الإنسان أعظم لعدة أسباب:
أ ــ إن يوحنا عاش في العهد القديم في ظلال الناموس، أما الإنسان المسيحي فهو يعيش العهد الجديد في ضوء نور الإنجيل، ويقول "س. ج. مونتيفيور" وهو رجل يهودي: "إن المسيحية نقطة إنطلاق عصر جديد في التاريخ الديني، والمدنية البشرية، والعالم مدين بالكثير ليسوع ولبولس، فقد غيّر هذا تفكير الناس، وحياتهم، وصارت الأمور مختلفة عما كانت عليه قبل حياتهما" (852).
ب - عَرِف يوحنا المعمدان بالأكثر قداسة اللَّه وعدله، أما الإنسان المسيحي فقد عاين عمق المحبة الإلهيَّة التي تجلَّت على عود الصليب، فبالرغم من عظمة رسالة يوحنا المعمدان لكنها لم تبلغ عظمة البشارة المفرحة، ويقول "وليم باركلي": "لا نستطيع أن نطلق على رسالة يوحنا المعمدان لفظ "إنجيل". إنها ليست بشارة مفرحة، بل كانت رسالة توبيخ وإنذار بالدمار والغضب. كان العالم في حاجة إلى صليب المسيح ليدرك البشر الطول والعرض والعمق والعلو لمحبة اللَّه. أنها حقيقة مذهلة أن أصغر مسيحي يعرف عن محبة اللَّه أكثر مما عرف أعظم أنبياء العهد القديم، أننا نستطيع أن نعرف عن قلب اللَّه أكثر مما عرف إشعياء أو إرميا أو أي نبي آخر من جماعة الأنبياء الصالحين (مع تقديرنا الكامل لعظمة هؤلاء الأنبياء). أن الإنسان الذي رأى الصليب، يكون قد رأى قلب اللَّه بكيفية لم يكن ممكنًا لأي إنسان أن يراه بها قبل الصليب، ففي الصليب وحده نرى أكمل إعلان لقلب اللَّه.." (853).
جـ - بالرغم من عظمة معمودية يوحنا المعمدان إلاَّ أنها حركت القلوب تجاه التوبة فقط، أما معمودية العهد الجديد فأنها تهب الإنسان الولادة الجديدة، ويقول "مارديوناسيوس يعقوب ابن الصليبي": "يوحنا أعظم من كل مواليد النساء، غير أن المولودين من المعمودية بواسطة الروح القدس أعظم منه. أن مواليد النساء بني الجسد يُدعَون أما المولودون بالمعمودية بني اللَّه يُدعَون، حتى إذا كان مواليد النساء، ذوي أعمال صالحة فلا يكونون أفضل من بني الملكوت المدعوين بني اللَّه. إن يوحنا كان كاملًا في الفضيلة لكنه يطلب نعمة الميلاد لأنها تفوق كل فضيلة ويشهد على ذلك قوله للمسيح: "أَنَا مُحْتَاجٌ أَنْ أَعْتَمِدَ مِنْكَ ". أما أنه لم يقم أعظم منه من مواليد النساء، لذلك لأنه قبل الروح في بطن أمه" (854).
د - عندما استشهد يوحنا المعمدان ذهب إلى الجحيم منتظرًا الخلاص المرتقب على الصليب، بينما عندما ينتقل إنسان صالح في العهد الجديد فأنه يذهب إلى فردوس النعيم، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. فأصغر إنسان في العهد الجديد تمتع بما لم يتمتع به أكبر الأنبياء في العهد القديم، ولذلك قال السيد المسيح لتلاميذه: "طُوبَى لِعُيُونِكُمْ لأَنَّهَا تُبْصِرُ وَلآذَانِكُمْ لأَنَّهَا تَسْمَعُ. فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ أَنْبِيَاءَ وَأَبْرَارًا كَثِيرِينَ اشْتَهَوْا أَنْ يَرَوْا مَا أَنْتُمْ تَرَوْنَ وَلَمْ يَرَوْا وَأَنْ يَسْمَعُوا مَا أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلَمْ يَسْمَعُوا" (مت 13: 16، 17).
وليس معنى هذا أن أصغر إنسان في العهد الجديد هو أكثر تقوى وقداسة من يوحنا المعمدان، فالأفضلية ليست بسبب حياة التقوى والقداسة، لكن بسبب الامتيازات المتاحة للتعرُّف على المسيح والإتحاد به، وقد صار الإنسان الجديد مسكنا لروح اللَّه القدوس. لقد وقف يوحنا المعمدان على أعتاب العهد الجديد، أما المسيحيون فقد عاشوا العهد الجديد، ويقول "دكتور وليم إدي": "والمعنى أن أصغر المسيحيين يكون لوفرة النور والمعرفة أعظم من أفضل اليهود لأن الناس كانوا قبل موت المسيح يسيرون في ضوء الفجر فقط، ولكن لما عُلِق المسيح على الصليب ومات وقام أشرق ضوء الشمس على العالم فصاروا إلى نهار كامل" (855).
ويقول "متى هنري": "وصل يوحنا إلى القمة في عهده. وصل إلى أسمى ما كان يسمح به العهد الذي وُجِد فيه. ولكن الأصغر في العهد الأسمى أرفع من الأول في العهد الأدنى. فالقزم على الجبل يرى أكثر مما يراه أعلى (أطول) رجل في الوادي... كم نحن مدينون بالشكر للَّه لأننا نعيش في عصر ملكوت السموات، في عصر النور والمحبة. وعلى قدر عظمة الامتيازات التي تقدم إلينا تزداد دينونتنا إن قبلنا نعمة اللَّه باطلًا" (856).
ويقول "الأب متى المسكين": "يوحنا أخذ أعلى كرامة يمكن أن ينالها إنسان العهد القديم. ولكن إن قورن بالعهد الجديد وملكوت اللَّه، فهو لا يقارن قط بإنسان نال الخلاص وقوة الفداء وغسيل الدم وشركة الجسد وروح اللَّه، وتصالح مع اللَّه ونال التبني! هنا يلزم أن ندرك ما معنى "الأَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ أَعْظَمُ مِنْهُ ". هنا الأمر ليس عظمة شخصية أو عظمة مجد أو إنارة، بل هيَ الطبيعة البشرية التي أهَّلها المسيح بموته وقيامته وتسليمها جسده القائم من الأموات، كخلقة جديدة بينها وبين الخلقة الأولى هوة سحيقة يستحيل لإنسان أن يعبرها إن لم يعبر به المسيح شخصيًا، ليسلّمه ما إستلمناه ويهبه ما وهبنا" (857).
_____
(850) المسيح في الإسلام ص92.
(851) ترجمة القمص مرقس داود - تفسير الكتاب المقدَّس - تفسير إنجيل متى جـ 1 ص366.
(852) أورده وليم باركلي - تفسير العهد الجديد جـ 1 ص235.
(853) تفسير العهد الجديد جـ 1 ص236.
(854) الدر الفريد في تفسير العهد الجديد ص269.
(855) الكنز الجليل في تفسير الإنجيل جـ 1 شرح بشارة متى ص170.
(856) ترجمة القمص مرقس داود - تفسير الكتاب المقدَّس - تفسير إنجيل متى جـ 1 ص368.
(857) الإنجيل بحسب القديس متى ص385.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/330.html
تقصير الرابط:
tak.la/f6nx429