س325: هل كان السيد المسيح يُعلّم تلاميذه في الظلام: "اَلَّذِي أَقُولُهُ لَكُمْ فِي الظُّلْمَةِ قُولُوهُ فِي النُّورِ" (مت 10: 27)؟ وكيف يدعوهم للاستهانة بالموت قائلًا: "وَلاَ تَخَافُوا مِنَ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ الْجَسَدَ" (مت 10: 28)؟ وإن كان "عُصْفُورَانِ يُبَاعَانِ بِفَلْسٍ" (مت 10: 29) فكيف يُباع خمسة عصافير بفلسين (لو 12: 6)؟
ج: 1ــ السيد المسيح هو: "النُّورُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ آتِيًا إِلَى الْعَالَمِ" (يو 1: 9)، ولم يكلم أحد في الظلام، حتى أن رئيس الكهنة عندما سأله أثناء المحاكمة عن تلاميذه وتعاليمه: "أَجَابَهُ يَسُوعُ أَنَا كَلَّمْتُ الْعَالَمَ عَلاَنِيَةً. أَنَا عَلَّمْتُ كُلَّ حِينٍ فِي الْمَجْمَعِ وَفِي الْهَيْكَلِ حَيْثُ يَجْتَمِعُ الْيَهُودُ دَائِمًا. وَفِي الْخَفَاءِ لَمْ أَتَكَلَّمْ بِشَيْء" (يو 18: 20). أما المقصود من قول السيد المسيح: "اَلَّذِي أَقُولُهُ لَكُمْ فِي الظُّلْمَةِ قُولُوهُ فِي النُّورِ وَالَّذِي تَسْمَعُونَهُ فِي الأُذُنِ نَادُوا بِهِ عَلَى السُّطُوحِ" (مت 10: 27) فهو ما قاله السيد المسيح لتلاميذه على انفراد ولم يعلمه لعامة الشعب، مثلما كان يفسر لهم الأمثال التي يقولها للشعب، فعندما سأله التلاميذ: "لِمَاذَا تُكَلِّمُهُمْ بِأَمْثَال؟ فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ لأَنَّهُ قَدْ أُعْطِيَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا أَسْرَارَ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَأَمَّا لأُولَئِكَ فَلَمْ يُعْطَ" (مت 13: 10، 11)، فما سمعوه على انفراد، متى قام المسيح وبدأوا الكرازة يخبرون به علانية... عندما تجلى السيد المسيح أمام تلاميذه الثلاث: "أَوْصَاهُمْ يَسُوعُ قَائِلًا لاَ تُعْلِمُوا أَحَدًا بِمَا رَأَيْتُمْ حَتَّى يَقُومَ ابْنُ الإِنْسَانِ مِنَ الأَمْوَات" (مت 17: 9)، وبعد القيامة عرف العالم بقصة التجلي من خلال ما ذكره الإنجيليون متى ومرقس ولوقا، وبطرس الرسول نفسه الذي شاهد بعينيه التجلي وكتب يقول: "لأَنَّهُ أَخَذَ مِنَ اللَّه الآبِ كَرَامَةً وَمَجْدًا إِذْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ صَوْتٌ كَهذَا مِنَ الْمَجْدِ الأَسْنَى هذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي أَنَا سُرِرْتُ بِهِ. وَنَحْنُ سَمِعْنَا هذَا الصَّوْتَ مُقْبِلًا مِنَ السَّمَاءِ إِذْ كُنَّا مَعَهُ فِي الْجَبَلِ الْمُقَدَّسِ" (2 بط 1: 17، 18). وأيضًا علَّم السيد المسيح تلاميذه بعد القيامة " الأُمُورِ الْمُخْتَصَّةِ بِمَلَكُوتِ اللَّه" (أع 1: 3)، فكان عليهم أن يذيعوها في كرازتهم.
2ــ قال السيد المسيح: "وَلاَ تَخَافُوا مِنَ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ الْجَسَدَ وَلكِنَّ النَّفْسَ لاَ يَقْدِرُونَ أَنْ يَقْتُلُوهَا بَلْ خَافُوا بِالْحَرِيِّ مِنَ الَّذِي يَقْــدِرُ أَنْ يُهْلِكَ النَّفْسَ وَالْجَسَدَ كِلَيْهِمَا فِي جَهَنَّمَ" (مت 10: 28)، وهنا يعلمنا السيد المسيح ممن يجب أن نخف، وممن يجب أن لا نخف... نخف من اللَّه ولا نخف من الناس مهما كانت شدتهم وبأسهم وقسوتهم، والذي تسكنه مخافة اللَّه يشعر دائمًا أنه بمحضر الملك، فلا يخشى ولا يخف من أي إنسان، لأن أحدًا لا يستطيع أن يؤذيه وهو في محضر الملك، وإذ أرسل السيد المسيح تلاميذه للكرازة والبشارة بالملكوت في بلاد لا يعرفونها، موضحًا لهم حجم المخاطر التي قد تلقاهم، حتى: "يَظُنُّ كُلُّ مَنْ يَقْتُلُكُمْ أَنَّهُ يُقَدِّمُ خِدْمَةً ِللَّه" (يو 16: 2)، لذلك دعاهم للشجاعة والجسارة وعدم الخوف من المعاندين المقاومين لعمل اللَّه، ويقدم لهم السند والحجة لعدم الخوف، وهو أنه مهما فعلوا لن يستطيعوا إلاَّ قتل الجسد فقط، أما الروح فليس لهم سلطان عليها.
وقد أوضح الفيلسوف الروماني "سينيكا" إن الموت لن يؤذي الرجل الحكيم الصالح، فقال: "إن كنا بكل هدوء وبرباطة جأش نواجه ذلك الحد النهائي الذي لن يستطيع الطغاة الظالمون أن يتعدوه، والذي ينتهي عنده سلطانهم. فأننا نعلم أن الموت ليس شرًا، لأنه لا يسبب أقل ضرر"(838).. فالروح باقية ولذلك فهيَ أهم من الجسد الذي سيبلى سريعًا، والجسد هو مجرد خيمة أو غلاف أو وشاح للروح مثل الثوب، وقال بولس الرسول: "فَإِنَّنَا نَحْنُ الَّذِينَ فِي الْخَيْمَةِ نَئِنُّ مُثْقَلِينَ إِذْ لَسْنَا نُرِيدُ أَنْ نَخْلَعَهَا بَلْ أَنْ نَلْبَسَ فَوْقَهَا لِكَيْ يُبْتَلَعَ الْمَائِتُ مِنَ الْحَيَاة" (2 كو 5: 4)، فقتل الجسد مثل تمزيق الثوب الذي يرتديه الإنسان بينما الروح لا يستطيع أحد أن يمزّقها ولا يعذّبها. اللَّه وحده هو الذي يهلك الروح والجسد كليهما في جهنم، وليس الهلاك هنا يعني ملأشاتهما، بل إيداعهما في مكان العذاب الأبدي.
3ــ في العصر الذي عاش فيه السيد المسيح كانوا يبيعون عصفورين بفلس واحد، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. وإذا اشترى شخص أربعة عصافير بفلسين فإن البائع يمنحه عصفور خامس بلا مقابل، ولا عجب في هذا، وليس خطأ في الحساب، إنما ما زال هذا النظام معمولًا به للآن، فكثيرًا ما تعرض المتاجر بعض السلع مثل الملابس، وللتشجيع على البيع تقدم عرضًا أن من يشتري قطعتين يحصل على ثالثة بلا مقابل، والجميل في الأمر أن السيد المسيح عندما قال: "أَلَيْسَتْ خَمْسَةُ عَصَافِيرَ تُبَاعُ بِفَلْسَيْنِ وَوَاحِـدٌ مِنْهَا لَيْسَ مَنْسِيًّا أَمَامَ اللَّه" (لو 12: 6) قصد السيد المسيح بالعصفور غير المنسي أمام اللَّه هو العصفور الخامس الذي منحه البائع للمشتري بلا مقابل، فإن كان العصفور الذي أخذه المشتري فوق البيعة له قدره عند اللَّه، فكم وكم حياة الإنسان الذي يكرز بِاسم المسيح واسمه مكتوب في ملكوت السموات، هل يتمكن منه المقاومون ويمدُّون أيديهم عليه بدون سماح اللَّه بذلك؟! أن حياة الإنسان , ولا سيما خادم المسيح، لها قيمتها عند اللَّه الذي يُحدّد عدد أيامها وساعة رحيلها.
_____
(838) أورده متى هنري - ترجمة القمص مرقس داود - تفسير الكتاب المقدَّس ــ تفسير إنجيل متى جـ 1 ص343.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/325.html
تقصير الرابط:
tak.la/4rxgwtj