س324: هل السيد المسيح يعلم تلاميذه الجبن فيأمرهم بالهرب من مدينة إلى أخرى (مت 10: 23)؟ وهل تحقَّق بعد ألفي سنة قول السيد المسيح: "الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ لاَ تُكَمِّلُونَ مُدُنَ إِسْرَائِيلَ حَتَّى يَأْتِيَ ابْنُ الإِنْسَانِ" (مت 10: 23)؟ أم أنه ينبغي أن: "يُكْرَزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ هذِهِ فِي كُلِّ الْمَسْكُونَةِ شَهَادَةً لِجَمِيعِ الأُمَمِ. ثُمَّ يَأْتِي الْمُنْتَهَى" (مت 24: 14)؟ (راجع اللواء أحمد عبد الوهاب - اختلافات في تراجم الكتاب المقدَّس ص77، 78، ودكتورة سارة بنت حامد - التحريف والتناقض في الأناجيل الأربعة ص216، وأحمد ديدات - ترجمة علي الجوهري - عتاد الجهاد ص47، وإبراهيم خليل - محمد في التوراة والإنجيل والقرآن ص91، ونبيل نيقولا جورج - الأناجيل الأربعة لماذا لا يُعوَل عليها ص176).
ج: 1ــ أوصى السيد المسيح تلاميذه: "وَمَتَـى طَرَدُوكُمْ فِي هذِهِ الْمَدِينَةِ فَاهْرُبُوا إِلَى الأُخْرَى" (مت 10: 23)، وهو لا يُعلّمهم الخوف ولا الجبن، إنما يعلمهم الحكمة وعدم مواجهة الشر بالشر، لأنه كيف يمكن للأغنام الوديعة أن تواجه الذئاب الشرسة؟! ولذلك أوصى الرب يسوع تلاميذه أن يتمثلوا بحكمة الحيَّات وبساطة الحمام (مت 10: 16)، فلا يلقون بأنفسهم في المخاطر، بل يكون لديهم روح الحكمة والإفراز، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. والسيد المسيح كان خير مثال على ذلك، فعندما نوى هيرودس أن يذبحه وهو طفل صغير ترك بيت لحم وجاء إلى مصر (مت 2: 13)، وفي كرازته عندما أخرجه اليهود من الناصرة، وجاءوا به إلى حافة الجبل ليطرحوه إلى أسفل: "أَمَّا هُوَ فَجَازَ فِـي وَسْطِهِمْ وَمَضَى. وَانْحَدَرَ إِلَى كَفْرِنَاحُومَ" (لو 4: 30، 31)، وعندما شفى ذي اليد اليابسة في يوم سبت: "تَشَاوَرُوا عَلَيْهِ لِكَيْ يُهْلِكُوهُ. فَعَلِمَ يَسُوعُ وَانْصَرَفَ مِنْ هُنَاكَ" (مت 12: 14، 15) ففي وقت الخطر إذا فتح اللَّه للإنسان بابًا للنجاة فيجب أن يهرب، لكيما يستكمل رسالته، فالإنسان يهرب من الخطر ولا يهرب من الكرازة، واللَّه يرتب الأمور، فإن أثار الشيطان إضطهادًا في مكان فلا يسمح له اللَّه بإثارة الإضطهاد في جميع الأماكن، لكيما يكون للمؤمنين فرصة للنجاة، فإن اشتد الاضطهاد في مدينة يجد المؤمن السلام في مدينة أخرى، بشرط أن لا يستخدم الإنسان وسائل خاطئة للنجاة مثل إنكار المسيح، بل يكون شاهدًا أمينًا للمسيح... هكذا إتبع بولس الرسول هذه الحكمة في الهرب من أماكن الخطر ليس خوفًا ولا جبنًا ولكن لكي يستكمل كرازته، فعندما نوى يهود دمشق أن يقتلوه تدلى من السور ليلًا في سلٍ وهرب من هناك (أع 9: 25)، وعندما كرز مع برنابا في أيقونية: "فَلَمَّا حَصَلَ مِنَ الأُمَمِ وَالْيَهُودِ مَعَ رُؤَسَائِهِمْ هُجُومٌ لِيَبْغُوا عَلَيْهِمَا وَيَرْجُمُوهُمَا. شَعَرَا بِهِ فَهَرَبَا إِلَى مَدِينَتَيْ لِيكَأُونِيَّةَ لِسْتِرَةَ وَدَرْبَةَ.." (أع 14: 5، 6)، فالشيطان يثير أعوانه للقضاء على الكارزين بهدف تعطيل الكرازة، لذلك من الحكمة الهروب من هذه المخاطر، إلاَّ لو سُئلوا عن إيمانهم، فلا بد أن يشهدوا لمسيحهم الشهادة الحسنة، لأن من ينكر المسيح قدام الناس ينكره المسيح أيضًا أمام الآب السمائي (مت 10: 33).
وطالما هرب البابا أثناسيوس الرسولي من الأريوسيين الذين حاولوا قتله، وقال: ".. أمر مخلصنا أن نهرب عندما نُضطهد، ونختفي عمن يبحثون عنا، فلا نعرّض أنفسنا لمخاطر معينة، ولا نشعل بالأكثر ثورة المضطهدين ضدنا أمامهم، فإن من يسلم نفسه لعدوه ليقتله إنما يفعل ذات الشيء كمن يقتل نفسه.." (836).
2ــ قال السيد المسيح لتلاميذه: "الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ لاَ تُكَمِّلُونَ مُدُنَ إِسْرَائِيلَ حَتَّى يَأْتِيَ ابْنُ الإِنْسَانِ" (مت 10: 23)، وظن الناقد أن المقصود بالقول " يَأْتِيَ ابْنُ الإِنْسَانِ" أي المجيء الثاني للمسيح، مع أن السيد المسيح لم يقل هذا... لم يقل يأتي ابن الإنسان في مجيئه الثاني، ولم يقل يأتي ليدين المسكونة. إذًا هنا معنى خفي قصده السيد المسيح، وهو أن يُستعلَن ابن الإنسان بعد موته وقيامته وقبول الناس الكرازة بِاسمه، وانتشار ملكوته، وهذا القول يشبه قول السيد المسيح: "اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ مِنَ الْقِيَامِ ههُنَا قَوْمًا لاَ يَذُوقُونَ الْمَوْتَ حَتَّى يَرَوُا ابْنَ الإِنْسَانِ آتِيًا فِي مَلَكُوتِه" (مت 16: 28) وكان يقصد تجليه على الجبل أمام ثلاثة من تلاميذه.
وحتى لو كان السيد المسيح يقصد المعنى الحرفي، فالحقيقة أن التلاميذ لم يكرزوا في جميع مدن إسرائيل منذ أيام المسيح للآن، لأن اليهود اضطهدوا المسيحيين اضطهادًا شديدًا، ففي أورشليم اضطر المسيحيون لترك مدينتهم وتشتتوا في اليهودية والسامرة (أع 8: 1)، ثم اشتعلت نيران الثورة في أرض فلسطين وانتهت بخراب أورشليم سنة 70م، وتشتَّت اليهود في بقاع الأرض، وعندما تجمعوا في فلسطين ثانية منذ عام 1948م ما زالوا يتمسكون بيهوديتهم ويتعصَّبون لها، ويرفضون قبول المسيح، فحتى الآن مدن إسرائيل ترفض المسيح والملكوت، ولكن قبل نهاية الأيام سيؤمن اليهود كما هو واضح من قول الكتاب (رو 11: 25 - 32) ودخول اليهود للإيمان المسيحي يُعد علامة قوية على كمال الكرازة لمدن إسرائيل، واقتراب المجيء الثاني.
ويقول "الأب متى المسكين": "والواقع الذي يتكلم أمام أعيننا اليوم هو أن مدن إسرائيل، ربما كلها، أبعد ما يمكن عن حتى البدء بأن تقبل كارزين بِاسم المسيح. فإسرائيل تحت اللعنة إلى اليوم، ولم يحدث أن عَبَرَ الرسل كل مدنها لا أيام المسيح ولا بعده وحتى اليوم. إذًا فقول المسيح هنا هو صادق وسيستمر صادقًا حتى يجيء المسيح ليعلن أن إسرائيل لا تزال بعيدة عن الإيمان. لأن وعد المسيح هو أن مجيئه يتعلق برفض كل مدن إسرائيل له وليس قبوله، وهيَ إلى الآن لا رفضته ولا قبلته!" (837).
_____
(836) أورده القمص تادرس يعقوب - تفسير إنجيل متى ص239.
(837) الإنجيل بحسب القديس متى ص365.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/324.html
تقصير الرابط:
tak.la/nc9rjp6