س323: ما هيَ الحكمة في أن السيد المسيح يلقي بتلاميذه كغنم وسط ذئاب (مت 10: 16)؟ وكيف يطلب من تلاميذه أن يكونوا كالحيات؟ وهل نزل الروح القدس على التلاميذ في إرساليتهم هذه (مت 10: 20) أم نزل عليهم يوم الخمسين (أع 2: 1 ـ 4)؟ وهل نطق يهوذا بالروح القدس وهو يُسلّم المسيح؟ وإن كان السيد المسيح وعد تلاميذه أنهم عندما يقفون أمام الحكام فإن الروح القدس هو الذي يتكلم على لسانهم (مت 10: 19، 20) فكيف يخطئ بولس الرسول أثناء محاكمته فيشتم رئيس الكهنة ثم يعتذر (أع 23: 3 - 5)؟ فهل روح اللَّه القدوس يخطئ ويعتذر؟ (راجع علاء أبو بكر - البهريز جـ3 س258، س259، س260 ص171، 172، والبهريز جـ4 س151 ص112).
ج: 1ــ لو دخل ذئب واحد في حظيرة مليئة بالأغنام فأنه يثير ذعر ما بعده ذعر، رغم أنه من المستحيل أن الذئب يفترس جميع الأغنام، فكم وكم عندما تكون هناك ذئاب كثيرة وتدفع بالغنم وسطها؟!! هذه هيَ المعجزة، أنه بالرغم من الذئاب المفترسة فإن السيد المسيح الحمل الحقيقي (إش 53: 7) قادر أن يحفظ حملانه، والإنسان لا يستطيع أن ينتصر على الشراسة بالشراسة، إنما ينتصر عليها باللطف، والنار لا تُطفأ بالنار بل بالماء، فالإنسان يحتاج إلى لطف الغنم وليس إلى شراسة الذئاب. وقد زود السيد المسيح تلاميذه بالنصائح التي تساعدهم على البقاء، وهيَ اقتناء الحكمة والبساطة، حكمة الحيَّات التي عندما تتعرض للخطر تُخفي رأسها بجسمها، لأن تحطيم رأسها يعني حتمية موتها، بينما إذا أُصيب جسدها فأنه يتماثل للشفاء، وبساطة الحمام الذي يتآلف مع بعضه البعض، فيأكلون معًا، ويطيرون معًا، ويحطون معًا، في سلام حتى صارت الحمامة رمزًا للسلام منذ أن حملت غصن الزيتون لنوح البار، وأيضًا رمز للعفاف والطهارة. فالإنسان المسيحي ولا سيما الكارز في حاجة شديدة للفضيلتين معًا، الحكمة والبساطة، لأن الحكمة بدون بساطة حكمة خبيثة شريرة، والبساطة من غير حكمة بساطة عبيطة. فمن الحكمة أن الكارز عندما يواجه متاعب وضيقات في مكان ما يتركه ويذهب إلى مكان ثانٍ ومكان ثالث، بمثابرة بدون تقاعس... هكذا كان معلمنا بولس الرسول يُرجَم في مدينة فيذهب إلى الأخرى، ويقول "القديس جيروم": "كن بسيطًا كحمامة فلا تلقي فخا لأحد، وكن حكيمًا (بارعًا) كحية فلا تسمح لأحد أن يلقي بالفخ أمامك. المسيحي الذي يسمح للآخرين أن يخدعوه يكون مخطئًا تمامًا كمن يحاول هو أن يخدع الآخرين" (832).
2ــ لم يقصد السيد المسيح التشبُّه بالحية في خبثها ومكرها، وإنما قصد التشبُّه بالحية في حكمتها فقط، فهيَ تحافظ دائمًا على رأسها بعيدًا عن أية مخاطر، وتختفي من مطارديها في شقوق الصخور، وعينيها مفتوحتان دليل على السهر واليقظة على الدوام، وعندما تتوالى عليها السنين تخلع ثوبها العتيق، إذ تدفع بنفسها من خلال ثقب ضيق، فتتخلص من جلدها الخارجي وينمو لها جلد جديد. ويقول "القديس أغسطينوس" عن الحيَّة: "إن الحيَّة بها ما نكرهه، وبها أيضًا ما يلزمنا أن نتمثل به:
أ - عندما يشعر الثعبان بشيخوخته، عندما يشعر بثقل السنوات الطويلة، يتقلص ويلزم نفسه على الدخول من ثقب صغير فينسلخ عنه جلده العتيق، فيخرج إلى حياة جديدة..
ب - إمتثل بالثعبان أيضًا في هذا الأمر، وهو أن تحفظ رأسك في أمان، أي لتحتفظ بالمسيح فيك. ألم تلاحظوا ما يحدث عند قتل الأفعوان، كيف يحفظ رأسه معرضًا كل جسمه للضربات! إنه يريد ألا يُضرَب ذلك الجزء الذي يعلم أن فيه تكمن حياته. ونحن أيضًا حياتنا هو المسيح الذي قال بنفسه: "أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ" (يو 14: 6)، وكما يقول الرسول: "رَأْسَ كُلِّ رَجُل هُوَ الْمَسِيحُ" (1 كو 11: 3). فمن يحتفظ بالمسيح في داخله إنما يحتفظ برأسه الذي يحميه" (833).
3ــ قال السيد المسيح لتلاميذه: "لأَنَّهُمْ سَيُسْلِمُونَكُمْ إِلَى مَجَالِسَ... فَمَتَى أَسْلَمُوكُمْ فَلاَ تَهْتَمُّوا كَيْفَ أَوْ بِمَا تَتَكَلَّمُونَ... لأَنْ لَسْتُمْ أَنْتُمُ الْمُتَكَلِّمِينَ بَــلْ رُوحُ أَبِيكُمُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيكُمْ" (مت 10: 17 - 20).. لاحظ أن السيد المسيح يكلمهم بصيغة المستقبل، فما جاء في هذا الجزء (مت 10: 19 - 42) من هذه الموعظة يغطي حياتهم المستقبلية بعد حلول الروح القدس، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. لأنهم في هذه الإرسالية لم يلتقوا بالصعوبات التي حدثهم عنها السيد المسيح هنا، لأنها أكثر من احتمالهم، والسيد المسيح ينذرهم هنا بما سيحل بهم مستقبلًا أثناء كرازتهم من اضطهادات وضرب وجلد وسجن وقتل وصلب، وحسنًا أن المسيح يبصّرهم بتلك الأمور مبكرًا، ليعدُّوا أنفسهم لتحملها، كما وعدهم بأن الروح القدس سيعضدهم ويقويهم ويؤازرهم، ويقول "الأب متى المسكين": "هنا رسالة خاصة بالقبض والسجن والمحاكمة، وكأنما يصوّر المسيح تاريخ الرسل والرسالة بفيديو يُعطي الصورة الكاملة المسبَّقة بكل مواقفها ومخاطرها... والمعروف والمؤكد أن في محاكمات وتعذيبات الرسل والمسيحيين أن الذي كان يُحاكَم هو بالفعل المسيح، لذلك تكفَّل المسيح بالدفاع عن الحق، لأن القضية قضيته بالدرجة الأولى، فهو المتهم وهو المسئول عن الإتهام! ثم تأتي التعاذيب والآلام" (834).
ولا يمكن الاعتماد على أية واحدة في مناقشة موضوع تناولته العديد من الآيات، فواضح تمامًا من آيات عديدة أن الروح القدس لم يُعطى للتلاميذ في إرساليتهم الأولى هذه، بل بعد قيامة المسيح بخمسين يومًا، فقال السيد المسيح: "وَأَمَّا الْمُعَزِّي، الرُّوحُ الْقُدُسُ الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الآبُ بِاسْمِي فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُـمْ" (يو 14: 26).. " لكِنِّي أَقُولُ لَكُمُ الْحَقَّ إِنَّهُ خَيْرٌ لَكُمْ أَنْ أَنْطَلِقَ لأَنَّهُ إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لاَ يَأْتِيكُمُ الْمُعَزِّي" (يو 16: 7)، وبعد قيامته وقبل صعوده: "أَوْصَاهُمْ أَنْ لاَ يَبْرَحُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ بَلْ يَنْتَظِرُوا مَوْعِدَ الآبِ... لكِنَّكُمْ سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْكُمْ وَتَكُونُونَ لِي شُهُودًا" (أع 4: 4 - 8).
أما يهوذا الخائن فقد فصل نفسه عن جماعة القديسين، وانتهت حياته بالانتحار بعد أن سلَّم المسيح... فلم يعاين قيامة المسيح ولا صعوده ولا حلول الروح القدس على التلميذ. فعندما سار في طريق الشر وسدد أذنيه بالرغم من تحذيرات السيد المسيح له مرارًا وتكرارًا: "فَبَعْدَ اللُّقْمَةِ دَخَلَهُ الشَّيْطَانُ. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ مَا أَنْتَ تَعْمَلُهُ فَاعْمَلْهُ بِأَكْثَرِ سُرْعَة" (يو 13: 27).
4ــ قال السيد المسيح للتلاميذ: "فَمَتَى أَسْلَمُوكُمْ فَلاَ تَهْتَمُّوا كَيْفَ أَوْ بِمَا تَتَكَلَّمُونَ لأَنَّكُمْ تُعْطَوْنَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ مَا تَتَكَلَّمُونَ بِهِ. لأَنْ لَسْتُمْ أَنْتُمُ الْمُتَكَلِّمِينَ بَلْ رُوحُ أَبِيكُمُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيكُمْ" (مت 10: 19، 20). وقد اختبر هذا الأمر من قبل داود النبي عندما قال: "رُوحُ الرَّبِّ تَكَلَّمَ بِي وَكَلِمَتُهُ عَلَى لِسَانِي" (2 صم 23: 2)، وعندما سأل رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب بطرس ويوحنا بأي قوة شفيتما الأعرج: "حِينَئِذٍ امْتَلأَ بُطْرُسُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ وَقَالَ لَهُمْ.." (أع 4: 8 - 12)، وعندما قاوم باريشوع الساحر والنبي الكذاب كرازة بولس الرسول: "وَأَمَّا شَاوُلُ الَّذِي هُوَ بُولُسُ أَيْضًا فَامْتَلأَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ وَشَخَصَ إِلَيْهِ. وَقَالَ أَيُّهَا الْمُمْتَلِئُ كُلَّ غِشٍّ وَكُلَّ خُبْثٍ يَا ابْنَ إِبْلِيسَ يَا عَدُوَّ كُلِّ بِرّ أَلاَ تَزَالُ تُفْسِدُ سُبُلَ اللَّه الْمُسْتَقِيمَةَ. فَالآنَ هُوَذَا يَدُ الرَّبِّ عَلَيْكَ فَتَكُونُ أَعْمَى.." (أع 13: 9 - 12).
وعندما وقف بولس الرسول يُحاكم أمام المجمع وبدأ الكلام فإذ برئيس الكهنة حنانيا أمر الواقفين بجوار بولس أن يضربوه على فمه: "حِينَئِذٍ قَالَ لَهُ بُولُسُ سَيَضْرِبُكَ اللَّه أَيُّهَا الْحَائِطُ الْمُبَيَّضُ أَفَأَنْتَ جَالِسٌ تَحْكُمُ عَلَيَّ حَسَبَ النَّامُوسِ وَأَنْتَ تَأْمُرُ بِضَرْبِي مُخَالِفًا لِلنَّامُوسِ. فَقَالَ الْوَاقِفُونَ أَتَشْتِمُ رَئِيسَ كَهَنَةِ اللَّه. فَقَالَ بُولُسُ لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنَّهُ رَئِيسُ كَهَنَةٍ لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ رَئِيسُ شَعْبِكَ لاَ تَقُلْ فِيهِ سُوءًا" (أع 23: 3 - 5)، فقد أخطأ رئيس الكهنة وخالف الناموس الذي أوصاه: "لاَ تَرْتَكِبُوا جَوْرًا فِي الْقَضَاءِ" (لا 19: 35). وعندما استنكر نيقوديموس تعسف رؤساء الكهنة ضد يسوع قال لهم: "أَلَعَلَّ نَامُوسَنَا يَدِينُ إِنْسَانًا لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ أَوَّلًا وَيَعْرِفْ مَاذَا فَعَلَ" (يو 7: 51).
وتساؤل الناقد هذا قديم الأيام حتى أنه أُجيب عليه سنة 1900م في كتاب الهداية، فجاء فيه: ".. أما قوله أن بولس أخطأ في توبيخه رئيس الكهنة قلنا أنه لم يخطئ في شيء، فأنه لم يسحب كلامه، بل أن حنانيا هذا يستحق مثل هذا الزجر لأنه أمر بضرب بولس مع أنه لم يفعل شيئًا يستوجب الضرب، فكان الواجب عليه أن يسمع احتجاج بولس ويسلك بإنصاف، ويعدل عن طرق الاعتساف، وكلام بولس يدل على نزاهته وبراءته وقوله: "سَيَضْرِبُكَ اللَّه " ليس هو من قبيل اللعن والغضب عليه بل هو نبوة على أنه لا ينجو من انتقام اللَّه، فإذا قيل هل تمت هذه النبوة أم لا؟ قلنا قد تمت، فإن حنانيا قُتِل مع أخيه حزقيا وقت الاضطراب الذي حصل في أورشليم، ففي هذه الفتنة استولى على المدينة الأشقياء تحت رئاسة زعيمهم (ماناهيم)، فحاول حنانيا أن يختفي منهم في صهريج، غير أنهم سحبوه وأخرجوه وقتلوه (انظر كتب الحرب التي حرَّرها يوسيفوس الكتاب الثاني الفصل 17) فتمت نبوة هذا الرسول ولا شك أن الناطق على لسانه هو الروح القدس العالِم الغيب. أما قول الرسول: "لم أكن أعرف أنه رئيس كهنة ".. ربما كان لا يعلم أنه رئيس كهنة لأن هذه الوظيفة كانت تُشتَرى وتُباع، وكان بولس الرسول غائبًا مدة طويلة عن أورشليم، وعلى كل حالٍ... لم يرجع عن قوله لأن كلامه كان بإلهام الروح القدس"(835).
_____
(832) أورده القمص تادرس يعقوب - تفسير إنجيل متى ص234، 235.
(833) أورده القمص تادرس يعقوب - تفسير إنجيل متى ص235.
(834) الإنجيل بحسب القديس متى ص363.
(835) الهداية جـ 2 ص274، 275.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/323.html
تقصير الرابط:
tak.la/ad3wq62