س290: قال السيد المسيح: "أَمْ أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ إِذَا سَأَلَهُ ابْنُهُ خُبْزًا يُعْطِيهِ حَجَرًا. وَإِنْ سَأَلَهُ سَمَكَةً يُعْطِيهِ حَيَّةً" (مت 7: 9، 10).. " أَوْ إِذَا سَأَلَهُ بَيْضَةً أَفَيُعْطِيهِ عَقْرَبًا" (لو 11: 12)، فما هيَ العلاقة بين الخبز والحجر، والسمكة والحيَّة، والبيضة والعقرب؟ وهل تعليم السيد المسيح: "فَكُلُّ مَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا هكَذَا أَنْتُمْ أَيْضًا بِهِمْ" (مت 7: 12) هو تعليم قديم؟ وكيف يقول السيد المسيح: "مَا أَضْيَقَ الْبَابَ وَأَكْرَبَ الطَّرِيقَ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْحَيَاةِ وَقَلِيلُونَ هُمُ الَّذِينَ يَجِدُونَهُ" (مت 7: 14)، بينما يقول في موضع آخر: "لأَنَّ نِيرِي هَيِّنٌ وَحِمْلِي خَفِيفٌ" (مت 11: 30)؟
ويقول "علاء أبو بكر": "س170: هل طريق يسوع هين وخفيف على سالكيه أم ضيق ملئ بالصعوبات؟
ضيق: "مَا أَضْيَقَ الْبَابَ وَأَكْرَبَ الطَّرِيقَ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْحَيَاةِ وَقَلِيلُونَ هُمُ الَّذِينَ يَجِدُونَهُ" (مت 7: 14).
هين: "اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ. لأَنَّ نِيرِي هَيِّنٌ وَحِمْلِي خَفِيفٌ" (مت 11: 29 - 30) (718) (راجع أيضًا البهريز جـ3 س417 ص405).
ج: 1ــ هناك أحجارًا مستديرة ملساء (زلط) تتخذ شكل الخبز، ولعل إبليس عندما قال للسيد المسيح: "إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللَّه فَقُلْ أَنْ تَصِيرَ هذِهِ الْحِجَارَةُ خُبْزًا" (مت 4: 2) كان يشير إلى بعض الأحجار لها نفس شكل الخبز، وبالمثل ثعابين السمك تشبه الحيَّة تمامًا من جهة الشكل، وكانت ثعابين السمك لا يأكلها الإنسان اليهودي لأن الشريعة تقول بأن: "كُلُّ مَا لَيْسَ لَهُ زَعَانِفُ وَحَرْشَفٌ فِي الْمِيَاهِ فَهُوَ مَكْرُوهٌ لَكُمْ" (لا 11: 12)، وأيضًا العقرب وهو حشرة سامة وخطيرة ولدغتها مؤلمة جدًا وأحيانًا قاتلة وعندما تضم أرجلها وذنبها فأنها تتكور وتأخذ الشكل البيضاوي وتشبه البيضة في شكلها. والمعنى العام أنه لا يوجد إنسانًا يطلب منه ابنه أمور نافعة مثل الخبز أو السمك أو البيضة فيعطيه حجر لا يُؤكل، أو حيَّة سامة، أو عقربًا، وقد اعتاد السيد المسيح أن يقتبس تشبيهاته من البيئة التي عاش فيها حتى يدرك السامعون المعنى ويفهمون المغزى، وعندما صنع السيد المسيح معجزتي البركة، في كلا المرتين كانت المواد المستخدمة الخبز والسمك.
ويقول "القديس أغسطينوس": "إن كنا ونحن أشرار نعرف كيف نُعطي أبناءنا ما يسألونه منا فلا نخدعهم بل نعطيهم أشياء صالحة ليست منا بل من الرب، فكم بالأكثر يكون رجاؤنا في الرب أن يعطينا عندما نطلب منه أمورًا صالحة" (719).
2ــ جاء في سفر طوبيا: "كل ما تكره أن يفعله غيرك بك فاياك أن تفعله أنت بغيرك" (طوبيا 4: 16)، وقيل أن رجل أممي جاء إلى "شمعي" يسأله هل يستطيع أن يعلمه الناموس وهو واقف على رجل واحدة، فاشمئز منه شمعي ودفعه بعصا في يده، ثم ذهب هذا الرجل إلى "هليل" وسأله نفس السؤال، فأجابه قائلًا: "ما تكرهه لنفسك لا تفعله بالآخرين... هذا هو كل الناموس والباقي شرح له، فاذهب وتعلم" (720). وجاء في التقليد السرياني وصية شبيهة بوصية السيد المسيح ولكنها صيغت في معناها السلبي: "ما هو بغيض أن تفعله لنفسك لا تفعله لقريبك هذه هيَ الشريعة كلها والباقي هو شرح. اذهب وتعلمها" (السبت 31 أ)" (721). ويعلق "الخوري بولس الفغالي" على وجه الخلاف بين التعاليم السابقة في صورتها السلبية وبين تعاليم السيد المسيح في صورتها الإيجابية، فيقول: "في هذا العبور من الصيغة السلبية إلى الصيغة الإيجابية نجد ثورة الحب الإنجيلي، فالتعليم المتاوي (نسبة إلى متى الإنجيلي) الذي جعل من رغبات التلميذ الخاصة قاعدة تصرفه تجاه الآخرين، ألغى تعقيدات الشريعة وفتاويها بعد أن صار معيار العمل في الإنسان نفسه، في ذلك الذي يعمل" (722).
إذًا هذه الوصية (مت 7: 12) عُرفت في القديم في معناها السلبي، ولكن السيد المسيح استخدمها في جانبها الإيجابي، فمثلت القاعدة الذهبية التي تأسست على الوصية العظمى الثانية: "وَالثَّانِيَةُ مِثْلُهَا تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ" (مت 22: 39)، وقد أُعجب الناس بها على مدى الأجيال حتى أن الإمبراطور إسكندر سيفيروس كتب هذه المقولة بحروف من ذهب ووضعها على جدران بيته، وتُعد هذه المقولة من أكثر أقوال السيد المسيح شيوعًا في العالم، وجاء في هامش "الترجمة اليسوعية": "هذه القاعدة الذهبية كانت معروفة في العالم القديم لكن يسوع جدَّدها في أمرين. ليس المقصود من جهة، عمل الخير للحصول على الخير المقابل. بل المبادرة إلى عمل الخير دون توقع المبادلة، ومن جهة أخرى، تظهر هذه القاعدة بمظهر خلاصة للفكر الكتابي: الشريعة والأنبياء (راجع مت 5: 17، 22: 40)" (723).
3ــ قال السيد المسيح: "مَا أَضْيَقَ الْبَابَ وَأَكْرَبَ الطَّرِيقَ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْحَيَاةِ وَقَلِيلُونَ هُمُ الَّذِينَ يَجِدُونَهُ" (مت 7: 14)، فطريق الملكوت في ظاهره بؤس وشقاء، ومن ينظر للمسيحيين المضطهدين الذين صاروا طعامًا للوحوش ووقودًا للنيران، يُعذَبون ويقطَّعون ولا يتأسى عليهم؟! والذين لم يتعرضوا للعذابات وفاتهم عصر الإستشهاد راحوا يسلكون في أصوام طويلة وزُهد وترفُّع عن ملذات العالم، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. فدخول الباب الضيق والسلوك في الطريق الكربة إشارة للمتطلبات الأخلاقية، ورفض الفوضى والإهمال واللامبالاة، وهذا ما يراه الآخرون، بينما السالكون في هذا الطريق الكرب يسعدون ويفرحون لأن السيد المسيح سائر معهم: "لأَنَّهُ فِي مَا هُوَ قَدْ تَأَلَّمَ مُجَرَّبًا يَقْدِرُ أَنْ يُعِينَ الْمُجَرَّبِينَ" (عب 2: 18) فهو مع أولاده حتى لو كانوا في آتون النار أو جُب الأسود أو في عمق التجارب والآلام، يمنحهم العزاء والرضى ويشبعهم ويرويهم، ولذلك قال السيد المسيح: "تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ. اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي. لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ. فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ. لأَنَّ نِيرِي هَيِّنٌ وَحِمْلِي خَفِيفٌ" (مت 11: 28 - 30)، ويقول "القس منسى يوحنا": "بين (مت 7: 14)، (مت 11: 29، 30)، ففي الأولى قال أن باب الحياة الأبدية ضيق، وفي الثانية أن نيره هين وحمله خفيف. فنجيب: أن طريق المسيح عسر وصعب في مبدأ الأمر على الذين ألفوا الخطيئة وعاشوا في الشر، ولكنه سهل وهين للذين ذاقوا طيبة الرب وعرفوا لذة العشرة معه" (724).
فنحن هنا نقف أمام وجهين لعملة واحدة، أو أمام منظرين، أحدهما خارجي وهو مؤلم وقاسٍ، والآخر داخلي وهو مملوء بالفرح والحبور والعزاء، مثلما كانت خيمة الاجتماع قديمًا، فالغطاء الخارجي من جلود المعزى التي لا جمال لها: "وَتَصْنَعُ غِطَاءً لِلْخَيْمَةِ مِنْ جُلُودِ كِبَاشٍ مُحَمَّرَةٍ وَغِطَاءً مِنْ جُلُودِ تُخَسٍ مِنْ فَوْقُ" (خر 26: 14)، أما من الداخل فتجد ألوان بديعة من الأسمانجوني والأرجوان والقرمز والبوص المبروم (خر 26: 36)، بل بالأكثر الرب الإله يتجلى بمجده، وهكذا كان السيد المسيح في آلامه: "كَعِرْق مِنْ أَرْضٍ يَابِسَةٍ لاَ صُورَةَ لَهُ وَلاَ جَمَالَ فَنَنْظُرَ إِلَيْهِ وَلاَ مَنْظَرَ فَنَشْتَهِيَهُ. مُحْتَقَرٌ وَمَخْذُولٌ مِنَ النَّاسِ رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ الْحَزَنِ وَكَمُسَتَّرٍ عَنْهُ وُجُوهُنَا، مُحْتَقَرٌ فَلَمْ نَعْتَدَّ بِهِ" (إش 53: 2، 3). أما من يتعامل معه فيعرف جماله وجلاله وعظمة مجده: "أَنْتَ أَبْرَعُ جَمَالًا مِنْ بَنِي الْبَشَرِ. انْسَكَبَتِ النِّعْمَةُ عَلَى شَفَتَيْكَ" (مز 45: 2).. " حَلْقُهُ حَلاَوَةٌ وَكُلُّهُ مُشْتَهَيَاتٌ" (نش 5: 16)، وهكذا كنيسته: "كُلُّهَا مَجْدٌ ابْنَةُ الْمَلِكِ فِي خِدْرِهَا" (مز 45: 13).
وقديمًا قال شاعر يوناني: "يمكنك أن تجد الشر سهلًا ميسورًا بكثرة ووفرة، فطريقه ناعم ممهد، لكن الآلهة وضعت العرق والتعب في طريق الفضيلة" (725)، وقال آخر: "تطلب الآلهة منا الجهد ثمنًا للخيرات، فلا تسعَ في الطريق السهل الناعم لئلا تحصد المتاعب" (726).
وهذا الاعتراض قديم، تمت الإجابة عليه ونُشرت هذه الإجابة سنة 1900م، فجاء في "كتاب الهداية": "قلنا أن الديانة المسيحية هيَ منزهة عن الرسوم الثقيلة والفرائض الباهظة ولا تكلف نفسًا فوق وسعها فيمكن للخاطئ المسكين الحصول على الخلاص الكافي وهو في مدينته، فلا تكلفه السفر إلى البلاد القاصية لأداء الفرائض الباطلة والرسوم النافلة لأنها ديانة روحية لا تقوم بالأعمال الخارجية... وثانيًا: أنها مناسبة للعقل والذمة والأخلاق الشريفة، وثالثًا: أنها تقضي على الإنسان بترك الخطية والشرور التي هيَ سبب البلايا والرزايا، فهيَ صعبة بالنظر إلى قداستها ومنافاتها للأميال البشرية الفاسدة لأنها ضد الشر والخطية والفساد، فالمسيحي يصلب الجسد وشهواته، فالديانة المسيحية هيَ صعبة لمنافاتها للأميال المنحرفة، ومع ذلك خفيفة سهلة لأن الباعث الأصلي والعامل الحقيقي فيها هو المحبة، فإذا وُجِدت المحبة في المسيحي رأى لذة في إطاعة الأوامر والإنقياد إليها وترك الخطايا بسهولة، وهان على المُحب كل شيء، فنير المسيح هين وخفيف، وهذا لا ينافي أن الطريق المؤدي إلى الحياة هو صعب وكرب، ولا سيما على الذين فضلوا محبة العالم وأنغمسوا في الرذائل" (727).
_____
(718) البهريز في الكلام اللي يغيظ جـ 2 ص154.
(719) أورده القمص تادرس يعقوب - تفسير إنجيل متى ص179.
(720) أورده وليم باركلي - تفسير العهد الجديد - المجلد الأول ص162.
(721) أورده الخوري بولس الفغالي - دراسات بيبلية - 14 - متى جـ 1 ص361.
(722) المرجع السابق ص361، 362.
(723) العهد الجديد - مطبعة دار المشرق بيروت ص55.
(724) ردود كتابية منطقية على مزاعم وإفتراءات خيالية عن الكتاب المقدَّس ص113.
(725) تفسير العهد الجديد - المجلد الأول ص164.
(726) المرجع السابق ص164.
(727) كتاب الهداية جـ 1 ص291، 292.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/290.html
تقصير الرابط:
tak.la/yab9hwh