س285: هل المسيحية عدوة للغنى: "لاَ تَكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا عَلَـى الأَرْضِ" (مت 6: 19)؟ أي هل الملكوت للفقراء فقط وليس للأغنياء؟ وما بالك بمن يكنز مالًا لكيما ينشئ مشروعًا زراعيًا أو صناعيًا أو تجاريًا يفيده ويفيد غيره؟ وما بالك بمن يكنز مالًا لكيما يزوج بناته وأولاده؟ وما بالك بمن يكنز ما يستطيع تحسبًا لغدر الزمن؟ وهل المسيحية دعوة للتهاون واللامبالاة: "لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ" (مت 6: 25)؟
ويقول "الدكتور أحمد شلبي" أن هذا النص (مت 6: 25) يوضح أن المسيحية كما أنها تحارب العمران فأنها تحارب الأبدان أيضًا (راجع مقارنة الأديان 2ــ المسيحية ص286).
ج: 1ــ ليست المسيحية عدوة للغنى وصديقة للفقر، وليس ملكوت السموات للفقراء دون الأغنياء، بدليل أنه كان من رجال اللَّه القديسين أغنياء مثل إبراهيم، وأيوب، ويوسف الرامي، وبرنابا، والأنبا أنطونيوس، بل كان بعضهم ملوك أبرار مثل داود، وسليمان، وحزقيا، ويوشيا. وفي ذات مرة قال السيد المسيح لتلاميذه: "مَا أَعْسَرَ دُخُولَ ذَوِي الأَمْوَالِ إِلَى مَلَكُوتِ اللَّهِ. فَتَحَيَّرَ التَّلاَمِيذُ مِنْ كَلاَمِهِ. فَأَجَابَ يَسُوعُ أَيْضًا وَقَالَ لَهُمْ يَا بَنِيَّ مَا أَعْسَرَ دُخُولَ الْمُتَّكِلِينَ عَلَى الأَمْوَالِ إِلَى مَلَكُوتِ اللَّه" (مر 10: 23، 24)، وبهذا أوضح الرب يسوع أن ليس الإشكالية في الأموال والغنى، لأن المال وزنة يؤتمن عليها الإنسان ويتاجر ويربح ربحًا روحيًا، فالسيد المسيح في مجيئه الثاني سيطوّب من أحسنوا إلى الفقراء والمحتاجين كأنهم أحسنوا له شخصيًا: "لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي. عَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي. كُنْتُ غَرِيبًا فَآوَيْتُمُونِي... الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ، فَبِي فَعَلْتُمْ" (مت 25: 35، 40). أن الإشكالية هيَ في الاعتماد والاتكال على المال وبالأكثر إساءة استخدامه، ومحبة المال تستعبد الإنسان حتى قال السيد المسيح في نفس العظة ونفس الموضع: "لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ الْوَاحِدَ وَيُحِبَّ الآخَرَ أَوْ يُلاَزِمَ الْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ الآخَرَ. لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللَّه وَالْمَالَ" (مت 6: 24). وقد أوصى بولس الرسول تلميذه تيموثاوس: "أَوْصِ الأَغْنِيَاءَ فِي الدَّهْرِ الْحَاضِرِ أَنْ لاَ يَسْتَكْبِرُوا وَلاَ يُلْقُوا رَجَاءَهُمْ عَلَى غَيْرِ يَقِينِيَّةِ الْغِنَى بَلْ عَلَى اللَّه الْحَيِّ الَّذِي يَمْنَحُنَا كُلَّ شَيْءٍ بِغِنًى لِلتَّمَتُّعِ. وَأَنْ يَصْنَعُوا صَلاَحًا وَأَنْ يَكُونُوا أَغْنِيَاءَ فِي أَعْمَال صَالِحَةٍ وَأَنْ يَكُونُوا أَسْخِيَاءَ فِي الْعَطَاءِ كُرَمَاءَ فِي التَّوْزِيعِ" (1 تي 6: 17، 18).
فليس شرطًا أن نكون فقراء في المال حتى ندخل ملكوت السموات، فقد كان إبراهيم الجوهري غنيًا، ومجَّد اللَّه بأعماله الصالحة, وفي العصر الحديث رأينا أغنياء في المال والعلم مجدوا اسم اللَّه بأعمالهم الصالحة مثل السير مجدي يعقوب والدكتور ثروت باسيلي وغيرهما الكثير. وليس عيبًا أن يقتصد الإنسان بعض من مدخراته ليبدأ مشروعًا زراعيًا أو صناعيًا أو تجاريًا أو خدميًا أو غير ذلك، فهذا المشروع سيفيده ويفيد الآخرين ويفيد المجتمع، وليس عيبًا أن يقتصد الإنسان لكيما يزوج بناته وأولاده، وليست خطية أن يقتصد الإنسان من ماله تحسبًا لاحتياجات مستقبلية، بل أن المسيحية لا تحض على التبذير بعيش مسرف.
2ــ قال السيد المسيح: "لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَبِمَا تَشْرَبُونَ وَلاَ لأَجْسَادِكُمْ بِمَا تَلْبَسُونَ" (مت 6: 25)، أي لا تنهمكوا في الإهتمام الزائد بأمور الطعام والشراب والثياب، فاهتموا ولا تعولوا الهم لأنه مكتوب: "أَلْقِ عَلَى الرَّبِّ هَمَّكَ فَهُوَ يَعُولُكَ" (مز 55: 22).. " مُلْقِينَ كُلَّ هَمِّكُمْ عَلَيْهِ لأَنَّهُ هُوَ يَعْتَنِي بِكُمْ" (1 بط 5: 7) والمسيحية لا تدعوا للتهاون واللامبالاة، وقد أوصى اللَّه الإنسان بالعمل، فعندما خلق اللَّه الإنسان أعطاه اللَّه عملًا ليعمله: "وَأَخَذَ الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ وَوَضَعَهُ فِي جَنّــَةِ عَدْنٍ لِيَعْمَلَهَا وَيَحْفَظَهَا" (تك 2: 15)، وقال بولس الرسول رغم انشغالاته بالخدمة ورغم المسئولية الجسيمة التي حملها للكرازة للعالم كله: "أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ حَاجَاتِي وَحَاجَاتِ الَّذِينَ مَعِـي خَدَمَتْهَا هَاتَانِ الْيَدَانِ" (أع 20: 34).. " وَلاَ أَكَلْنَا خُبْزًا مَجَّانًا مِنْ أَحَدٍ بَلْ كُنَّا نَشْتَغِلُ بِتَعَبٍ وَكَدٍّ لَيْلًا وَنَهَارًا لِكَيْ لاَ نُثَقِّلَ عَلَى أَحَدٍ مِنْكُمْ" (2 تس 3: 8) (راجع أيضًا أع 18: 3، 2 كو 11: 9) ونص قانون الكتاب المقدَّس على: "إِنْ كَانَ أَحَـدٌ لاَ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَغِلَ فَلاَ يَأْكُلْ أَيْضًا" (2 تس 3: 10).
والإنسان المسيحي إنسان متوازن يعمل ويهتم، وفي نفس الوقت لا يقلق ولا يعول الهم، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. وجاء في كتاب: "الغوامض المتعلقة بالمبادئ العمومية الأدبية ": "إن منشأ الارتباك في فهم معنى هذين الاهتمامين (مت 6: 25) هو استعمال كلمة واحدة بمعنيين مختلفين، فيكون الإهتمام أمرًا واجبًا إذا كان المُراد به توقع المستقبل لإعداد أنفسنا لما يترتب علينا فيه من الواجبات وما يلزمنا من الحاجيات. ويكون خطية إذا زاد ارتباكنا بخصوص المستقبل كأن اللَّه الذي دبر لوازمنا في الماضي لا يقدر أن يدبرها في المستقبل... لا تحريم في الاهتمام كما لا تحريم في التفكير، والرجل العاقل البصير الذي يدبر أموره بحكمة ويزن أموره بالعقل هو الرجل الذي يفكر في غده قبل يومه... وهذا لا يمنع ثقتنا التامة باللَّه واتكالنا الكلي عليه لأنه علمنا أن نكون حكماء كالحيات.
أما قول المسيح لا تهتموا فلا يريد إلاَّ أن ينهانا عن النظر إلى الغد بقلق وإرتباك فيظلم يومنا، ويمنعنا من الإنشغال الزائد بالمستقبل فيسود حاضرنا... ينهانا السيد له المجد حتى لا نقترض الهم من غدنا ليومنا ولا نستعير القلق من المستقبل لوقتنا الحاضر، كأنه ليس لنا الآن ما يكفينا من مشغولية الفكر وتعب البال ولذلك يقول ثق باللَّه من أجل الغد وأعمل ما يجب عليك اليوم وأترك أمر المستقبل لمن بيده الأمر. ولتكن هذه الثقة الميناء الهادي لنفسك وملجأك الأمين كلما هبت رياح التجارب وهاجت أمواج الهموم" (692).
والإهتمام الذي نهى عنه السيد المسيح هو الإهتمام الذي يعود على الإنسان بإلهم والقلق، فيقول "متى هنري": "أما الإهتمام المربك، الذي يسبب القلق والإنزعاج الذي يدفع العقل هنا وهنالك ويتركه معلقًا، الذي يعطل فرحنا في الرب، ويصير ثقلًا على رجائنا فيه، الذي يزعجنا في نومنا ويقض منا المضاجع، الذي يمنعنا من التمتع بأنفسنا وأصدقائنا وبكل ما يعطينا اللَّه.
الاهتمام الذي يبعثه الشك وعدم الثقة، لقد وعد اللَّه أن يوفر لأولاده كل ما يلزم للحياة والتقوى "للحياة الحاضرة " أي الطعام واللباس، ليس الأطايب والنفائس، بل الضروريات... أما من جهة مطالب الحياة الحاضرة فأنه يجوز بل يجب استعمال الطرق المشروعة للحصول عليها... يجب أن نكون مجدين ومجتهدين في أعمالنا العالمية، حكماء في موازنة نفقاتنا مع إيراداتنا، كما يجب أن نصلي من أجل "خبزنا كفافنا ".." (693).
وعندما قال السيد المسيح: "اُنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ السَّمَاءِ إِنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ وَلاَ تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ وَأَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا" (مت 6: 26) لم يقصد أن نتهاون ونقع في التواكل لأن هذه الطيور أيضًا تسعى وتجد وتجتهد في البحث عن طعامها، فيقول "ر. ت. فرانس": "وإذا ما أُخذ هذا المَثَل الرائع من الناحية الحرفية، فقد يوحي بأنه لا حاجة للتلميذ إلى الزرع والحصاد لتوفير الطعام، ولكن المقصود هنا هو أن اللَّه يهتم بتوفير الطعام حتى للطيور، والتلميذ عند اللَّه أفضل من الطير. والمحظور هنا هو الاستسلام للهم والقلق وليس العمل، فحتى الطيور عليها أن تبذل الجهد في تصيُّد غذائها أو البحث عنه، لكن المهم هو أن الغذاء متوفر لمن يسعى إليه. والذي يدبره هو " أبوكم السماوي " والفهم الصحيح لهذه الآية هو الترياق الشافي من الهم" (694).
_____
(692) الغوامض المتعلقة بالمبادئ الأدبية الواردة في العهدين القديم والجديد جـ 1 ص228، 229.
(693) ترجمة القمص مرقس داود - تفسير الكتاب المقدَّس - تفسير إنجيل متى جـ 1 ص203.
(694) التفسير الحديث للكتاب المقدَّس - العهد الجديد - إنجيل متى ص148.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/285.html
تقصير الرابط:
tak.la/z79zm6v