س283: هل الصلاة الربية (مت 6: 9 - 13) أُعطيت لنا كمثال، ولهذا قال: "فَصَلُّوا أَنْتُمْ هكَذَا" أي أية صلاة تشبه هذه الصلاة، فالإنسان المسيحي ليس مُلزمًا أن يصلي بهذه الصلاة المحفوظة وإلاَّ كان هذا من قِبل ترديد الكلام باطلًا؟ ألم يصلي بولس الرسول: "بِسَبَبِ هذَا أَحْنِي رُكْبَتَيَّ لَدَى أَبِي رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ. الَّذِي مِنْهُ تُسَمَّى كُلُّ عَشِيرَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَعَلَى الأَرْضِ" (أف 3: 14، 15)؟ وألم تصلي الكنيسة من أجل بطرس بلجاجة: "فَكَانَ بُطْرُسُ مَحْرُوسًا فِي السِّجْنِ، وَأَمَّا الْكَنِيسَةُ فَكَانَتْ تَصِيرُ مِنْهَا صَلاَةٌ بِلَجَاجَةٍ إِلَى اللَّه مِنْ أَجْلِهِ" (أع 12: 5)؟
ويقول "بنيامين بنكرتن": "أولًا: أن تكرار هذه الصلاة، كفرض، لا ينفع الكبار ولا الصغار لأن ذلك وتكرار الكلام باطلًا، شيء واحد.
ثانيًا: الإقتصار على هذه الصلاة، دون غيرها من الصلوات المدوَّنة في العهد الجديد، ليس من الأمور اللائقة...
ثالثًا: الطلبات التي تتكون منها هذه الصلاة صيغت بكيفية توافق حالة تلاميذ المسيح زمان وجوده بالجسد معهم على الأرض، أو قبل موته وقيامته، وصعوده إلى السماء وإرساله الروح القدس يوم الخمسين، أو بعبارة أخرى في زمان الكرازة ببشارة الملكوت، أو بالمسيح ملكًا لليهود. أما المسيحية فلم تبدأ إلاَّ بعد رفض المسيح، كملك لليهود... أما في وقت أن علمهم المسيح هذه الصلاة فقد كانوا كيهود أتقياء متعودين على الصلوات المناسبة للعهد القديم.."(687).
ج: 1ــ جاء في إنجيل متى قول السيد المسيح في الموعظة على الجبل: "فَصَلُّوا أَنْتُمْ هكَذَا: أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ.." (مت 6: 9 - 13)، وقوله " هكَذَا" أي صورة طبق الأصل مما نطق به السيد المسيح، ولا تعني " هكَذَا" صلاة تشبه هذه الصلاة أو تماثلها، فلم يقصد السيد المسيح أن نُصلي صلاة مشابهة للصلاة الربية، بل نُصلي هذه الصلاة بعينها، كما كرَّر السيد المسيح صلاته في بستان جثسيماني ثلاث مرات: "وَصَلَّى ثَالِثَةً قَائِلًا ذلِكَ الْكَلاَمَ بِعَيْنِه" (مت 26: 44). فما المانع أن نصلي هذه الصلاة الربانية ومعها أي صلوات أخرى؟
وجاء في إنجيل لوقا أن التلاميذ عندما رأوا السيد المسيح يصلي أُعجبوا بصلاته: "وَإِذْ كَانَ يُصَلِّي فِي مَوْضِعٍ لَمَّا فَرَغَ قَالَ وَاحِدٌ مِنْ تَلاَمِيذِهِ يَارَبُّ عَلِّمْنَا أَنْ نُصَلِّيَ كَمَا عَلَّمَ يُوحَنَّا أَيْضًا تَلاَمِيذَهُ. فَقَالَ لَهُمْ مَتَى صَلَّيْتُمْ فَقُولُوا أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ.." (لو 11: 1ــ 4) فقوله: "مَتَى صَلَّيْتُمْ فَقُولُوا".. ماذا يقولون؟ يقولون تلك الصلاة بعينها التي علمهم إياها، ولا توجد أي إشارة من قريب أو من بعيد تشير إلى أن السيد المسيح قصد أن نصلي أي صلاة تشبه هذه الصلاة الربية، إنما قصد أن يودع كنيسته هذه الدرة الثمينة، وكانت الكنيسة أمينة وحفظت هذه الصلاة وجعلتها باكورة صلواتها، فأي صلاة فردية أو جماعية أو ليتورجية تبدأ وتُختم بهذه الصلاة الربية. وفي نفس الوقت لم يمنع السيد المسيح ولا الكتاب المقدَّس الصلوات المختلفة، فالإنسان يصلي كيفما يشاء ومع هذا تظل هذه الصلاة الربية هيَ تاج الصلوات كلها حيث نطق بها الكلمة المتجسد بفمه الطاهر.
2ــ صلاة بولس الرسول في (أف 3: 14، 15) قصيرة ورائعة، ولكنها غير جامعة ولا شاملة، إنما تنصب على تقديم الشكر للَّه الآب وطلب قوة الروح القدس لأولاده وأن يعطيهم الآب السماوي بحسب غناه في المجد (أف 3: 16). وبلا شك أن بولس الرسول في صلواته طالما صلى الصلاة الربية، ويظهر صداها في رسالته لأهل كورنثوس حيث يقول: "لَمْ تُصِبْكُمْ تَجْرِبَةٌ إِلاَّ بَشَرِيَّةٌ. وَلكِنَّ اللَّه أَمِينٌ الَّذِي لاَ يَدَعُكُمْ تُجَرَّبُونَ فَوْقَ مَا تَسْتَطِيعُونَ بَلْ سَيَجْعَلُ مَعَ التَّجْرِبَةِ أَيْضًا الْمَنْفَذَ لِتَسْتَطِيعُوا أَنْ تَحْتَمِلُوا" (1 كو 10: 13).. أليس هذا ترجمة لقولنا في الصلاة الربية: "وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَــة لكِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ". وبالمثل صلاة الكنيسة بلجاجة من أجل بطرس الرسول إذ ركزت على إنقاذه من شر وإنتقام هيرودس الملك، وهناك العديد من صلوات رجال اللَّه القديسين التي تصليها الكنيسة في ليلة سبت النور (أبو غلمسيس)، ومع كل هذا تظل الصلاة الربية هيَ صلاة الكنيسة في أرض غربتها، فيظهر من خلالها الهدف الثلاثي الذي يمجد اسم اللَّه:
أ ــ لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ. ب ــ لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ.
جـ - لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذلِكَ عَلَى الأَرْضِ.
كما يتضح من خلالها أيضًا طلبتنا الثلاثية:
أ - خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا الْيَوْمَ.
ب ــ اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أَيْضًا لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا.
جـ - وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ.
وتنتهي الصلاة الربية بالذكصا أي إعطاء المجد له:
" لأَنَّ لَكَ الْمُلْكَ وَالْقُوَّةَ وَالْمَجْدَ إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ".
3ــ نعم كان التلاميذ من اليهود الأتقياء، ولكنهم أيضًا هم الذين مثلوا كنيسة العهد الجديد، وقد أودع السيد المسيح تعاليمه مثل الموعظة على الجبل لكنيسة العهد الجديد متمثلة في التلاميذ الأطهار، فعاشت بها الكنيسة من جيل إلى جيل، فلماذا نستثني من كل تعاليم المسيح الصلاة الربية؟! وكيف نُقسَّم حياة التلاميذ إلى مرحلتين، مرحلة قبل الصلب والقيامة والصعود كان يمثل فيها التلاميذ الرجال اليهود الأتقياء، ومرحلة بعد الصلب والقيامة والصعود وحلول الروح القدس ويمثل فيها الرسل أعمدة الكنيسة وأساساتها؟!! ولو كان هذا التقسيم صحيحًا فكيف نفسر قول السيد المسيح في نفس العظة "سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لَكُمْ... َأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ"؟!! ولو كان المسيح قبل الصلب والقيامة كان يمثل ملك اليهود، فلماذا قال لبيلاطس مملكتي ليست من هذا العالم؟!! لقد آمن التلاميذ بالسيد المسيح منذ دعوته لهم، حتى أن نثنائيل صرخ قائلًا: "يَا مُعَلِّمُ أَنْتَ ابْنُ اللَّه أَنْتَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ" (يو 1: 49)، وبعد المعجزة الأولى التي أجراها السيد المسيح في قانا الجليل قال يوحنا الحبيب: "هذِهِ بِدَايَةُ الآيَاتِ فَعَلَهَا يَسُوعُ فِي قَانَا الْجَلِيلِ وَأَظْهَرَ مَجْدَهُ، فَآمَنَ بِهِ تَلاَمِيذُهُ" (يو 2: 11)، وجاء اعتراف بطرس الرسول بألوهية المسيح واضحًا وصريحا: "أَنْتَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّه الْحَيِّ" (مت 16: 16).
ويتأرجح "بنيامين بنكرتن" بين قبول الصلاة بهذه الصلاة الربية أو أجزاء منها أو رفض هذه وتلك، فيقول: "ومع ذلك فأني لا أشاء أن أنطق بكلمة واحدة تحط من شأن أو قدر هذه الصلاة لأنها جزء من أقوال المسيح الثمينة. ولا يزال جزء كبير من طلباتها يناسب أحوالنا... ولا بأس من استعمال هذا الجانب، إن قادنا الروح القدس إلى ذلك. وأما الصلاة بجملتها فلا يمكن للمسيحي المتمكن في أصول إيمانه أن يمارسها"(688).. ولا أدري هل الروح القدس سيفضل صلوات من وضعنا نحن البشر الخطاة أكثر من الصلاة الربية التي وضعها الرب يسوع؟! وأين قول السيد المسيح: "وَأَمَّا الْمُعَزِّي الرُّوحُ الْقُدُسُ الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الآبُ بِاسْمِي فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُــهُ لَكُــمْ" (يو 14: 26)؟! ولكن هذه هيَ عقيدة الأخوة البلاميث الذين ما زالوا يتمسكون بها للآن، فلا يصلون بهذه الصلاة في اجتماعاتهم لأنها في نظرهم ضد عقيدة المسيحي المتمكن الذي يستطيع أن يقدم صلاة تضارع الصلاة الربية بل وتفوقها؟!!! وكأن الكنيسة كلها من مشارق الشمس إلى مغاربها بجميع طوائفها قد جانبها الصواب لأنها تتمسك بهذه الصلاة الربية.
ويقول "القس أنطونيوس فكري": "هنا يُعلّم السيد تلاميذه صلاة محفوظة فلماذا تنكر علينا بعض الطوائف أن نصلي بالمزامير والأجبية كصلوات محفوظة. والكنيسة المقدَّسة تفتخر بهذه الصلاة الربانية فهيَ نموذج من وضع السيد نفسه، نبدأ بها كل صلواتنا وننهيها بها، فهيَ نموذج حي نفهم خلاله علاقتنا باللَّه ودالتنا إليه. نردّدها لنحيا بالروح الذي يريده الرب نفسه" (موقع الأنبا تكلا هيمانوت بشبكة الانترنت).
_____
(687) تفسير إنجيل متى ص97، 98.
(688) تفسير إنجيل متى ص99.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/283.html
تقصير الرابط:
tak.la/cktvnt4